انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 47/غرائب الغرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 47/غرائب الغرب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1910



كلية باريز

17

كلية باريز من أقدم كليات العالم في التاريخ إن لم تكن أول كلية أُنشئت وقد كانت في القرون الوسطى بلا مراءٍ أشهر كلية وأكثرها إيواءٍ للطلبة فكان علماءُ الوقت كما قال أحد الفضلاء ينظرون إليها بأنها صاحبة الحق في استخراج كنوز العلوم ملكت إرثاً شرعياً صحيحاً وكانت أول كلية أُنشئت في العالم كلية بابل أَسسها نينوس مؤَسس نينوي والمملكة الآشورية الأولى وخلفتها كلية منفيس المصرية وخلفت كلية منفيس كلية آثينا وبعد هذه أُنشئت كلية رومية وبعدها قامت كلية باريز واشتهرت كلية بولونيا في تعليم الحقوق كما سبقت كلية باريز غيرها في الآداب المقدسة والعالمية وكان في جوارها عشر مدارس تحيط بها كأَنها أم القرى وتلك من أعمالها مثل مدرسة الإنكليز ومدرسة الإيكوسيين والألمانيين واللومبارديين واليونانيين ولطالما بعث الملوك إليها بأولادهم ليتخرجوا في المنطق ويتعلموا رقة الجانب وحسن الأدب والعشرة.

ظلت هذه الكلية منذ القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر تربي معظم الرجال الذين يختلفون إلى التعلم فيها وفيهم الشعراءُ والعلماء والفلاسفة ومن مشاهير من تخرجوا فيها غليوم أوكام ورايمون لول وتوما داكين وبنوا دانانيي وبونيفاس الثامن وبرونوتو لاتيني ودانت وتوما موروس وإيراسم وغيرهم وجميع طلابها عَلَى اختلاف أصقاعهم كانوا يرتاحون في حماها وكان مطمح أنظارهم حب الحقيقة وهي القاعدة الأصلية فيها وكل منهم يتمتع بحقوقه. ولقد جاءَ زمن كانت الحياة العقلية محصورة في جدران المدارس إلا أن كلية باريز أعظم منبعث لبث الدعوة إلى الأفكار الفرنسوية وكانت وحدها تكفي لإنارة العالم إلا قليلاً وكان رجال تلك الأزمان ينسبون العلوم إلى مواطنها ويرجعون الأمور إلى مصادرها فيقولون أن رومية مقر البابوية وألمانيا مقر السلطة وباريز مهد العلم.

وكانت الأفكار الفرنسوية ـ كما قال أحدهم في المجلة الباريزية ـ هي أكبر معين في القرون الوسطى عضد إلى النهاية الصليبيين في نشاطهم وهيأَ أسباب الحماسة الدينية وفتح لأمم المغرب ونشاطهم طرقاً جديدة في العمل ومن الأفكار الفرنسوية نشأت بعد نزاع قديم فكرة الوطنية متجلية في صورة مؤثرة ذات بأْس ومضاءٍ بحيث خضعت السياسة لسلطانها ووضعت أسس الوحدة الوطنية. والأفكار الفرنسوية هي التي طهرت رياح الإصلاح والنهضة وقادت الأفكار القديمة إلى التجديد وأنارت العالم بقبس أنوارها. والأفكار الفرنسوية هي التي حملت إلى العالم في عهد فولتير ومونتسكيو أفكار التسامح الديني والعدل الاجتماعي والحق والإنسانية. والفكر الفرنسوي هو الذي سنّ المباديء الخالدة في دساتير الأمم المتمدنة بأسرها. فمن فرنسا نشأت حرية البلجيك وحرية اليونان وحرية إيطاليا وحرية العثمانية. وفرنسا مهد الأدب تنشر أنواره فتتناوله الأجانب وتتقبله بقبول حسن وهي البلاد التي اشتهرت بعلمائها وصناعها.

ومن كلية باريز اخترع أمبير اختراعاته التي لولاها لما اخترع التلغراف اللاسلكي والسلكي والتلفون ولم تتم عجائب الكهربائية الصناعية. وفي كلية باريز أحدث باستور انقلابه العظيم في علم الحياة الذي جعله المحسن إلى الإنسانية في العالم أجمع. وفي كلية باريز حقق برتلو الطريقة الصناعية في المواد العضوية فنشأت منها الكيمياء الحديثة. وفي كلية باريز اخترع كوري وقرينته الراديوم واهتزت في أيديهما ذراته. وفي معامل كلية باريز أوقد مواسان للمرة الأولى التنور الكهربائي كما اخترع غيره التصوير الشمسي بالألوان كانت هذه الكلية كما قلنا أعظم كليات القرون الوسطى فجعلوها سنة 1896 كلية تليق بعظمتها الماضية بحيث لم تفقد مكانتها العلمية وفيها اليوم زهاء ثلاثمائة أستاذ يفيضون كما أفاض أسلافهم عَلَى العالم من علومهم ولا سيما على أميركا الجنوبية وبوهمييا والبلاد المصرية والعثمانية وكانت هذه الدار رسول السلام بين الأنام ومعلمة الناس كيف يكون التجانس الروحي والإخاء العام. ولكم كان أساتذتها يسيحون في بث ما علمهم الله في البلاد التي يقل فيها العالمون ولكم أنشئت في حجر هذه الدار جمعيات تريد التقريب بين الشعوب وتعليم الجاهل منهم ولكم رنت في غرفها وقاعاتها أصوات الخطاء من علماء الأرض أتوها يحملون إليها نتائج أبحاثهم ودروسهم. فإن كانت كلية باريز أمَّ كليات براغ والأستانة ومصر وغيرها من كليات البلاد اللاتينية وأميركا اللاتينية فهي تفاخر بأنها أم كليات إنلكترا وإيكوسيا.

ويؤخذ من إحصاء سنة 1907 ـ 1908 أنه كان في هذه الكلية 17303 طلاب منهم 3361 من الأجانب فتيان وفتيات ومن هؤُلاءِ 926 يدرسون الحقوق و520 يدرسون الطب و773 العلوم و1062 الآداب ولم تقصر كليات الولايات وعددها اثنان وعشرون كلية في بث روح التكافل الأخلاقي والعقلي فأنشأت كلية تولوز جمعية اجتماع الطلاب الفرنسويين في اسبانيا وأنشأَت كلية بوردو مدرسة الدروس الاسبانية العالية في مدريد وأنشأت كلية كرنوبل المجمع العلمي في فلورنسة وكلية نانسي وهي على الحدود الألمانية تعلم قاصديها احترام فرنسا وخدمتها للعلم. وهكذا الحال في كلية مونبليه وليل وليون فكليات فرنسا تعلم في السنة سبعة آلاف طالب وهو عدد ليس بقليل يدل عَلَى تفردها في هذا الشأن من بين أكثر الممالك الراقية.

هذه شذرة صغيرة في وصف كلية باريز التي ما زالت الحكومة الفرنسوية تنفق عليها النفقات الطائلة والمحسنون لا ينفكون عن إعطائها المنائح الكبيرة فقد وهبها كارنجي المحسن الأميركي كثيراً كما أن بعض الروسيين منحوها مالاً جزيلاً والفرنسيس يعطونها عن سعة. فحيا الله يوماً تقام لكل قطر من أقطار البلاد العربية كلية مثل هذه تدرس أبناءها علوم البشر بلغتهم وتكوّن مجتمعنا بالوطنية الصحيحة كما تكونها كليات الممالك الصغرى في الغرب كالبلجيك وهولاندة والدانيمرك والسويد ونروج وسويسرا والمجر وبولونيا وفنلندا والبرتقال.

حدائق باريز ومتاحفها

18

يطول بنا نفس الكلام إذا أردنا الإفاضة في كل فرع من فروع العمران بباريز وكلها مما يحتاج إلى صفحات كبيرة وربما ملّ القاريء قبل أن يمل الكاتب. ولقد عنيت مدة مقامي في هذه العاصمة أن لا أضيع ساعة من وقتي إلا في البحث عن جمعية أو إنسان وزيادة معهد فيه نموذج من ارتقاء العقول ووفرة العلم وحذق الأبدي وبسطة العيش وفضل الرفاهية ومما جعلته لأوقات الفراغ غشيان الحدائق والمتاحف ودور التمثيل والسماع.

في باريز حدائق كثيرة عامة ومنها الصغير الخاص بحي أو شارع صغير ويسمونها سكوار وهي كلمة إنكليزية معناها ساحة مربعة أو حديقة يحيط بها حاجز من قضبان حديد وتكون في ميدان عام وعددها 36 حديقة تتمنى كل حاضرة من حواضر البلاد العثمانية أن يكون لها من نوعها واحدة فقط بانتظامها وحسن تعهدها. أما الحدائق الكبرى فعددها تسع تصرف في كل واحدة الساعات وأنت تسرح ظرفك فيما خصتها به يد الصانع وأيدي البشر من مجالي الظرف والجمال.

زرت منها حديقة الحيوانات وحديقة النباتات وحديقة كلوني وحديقة لوكسمبورغ وعجبت لمن يزور هذه الحدائق مرات لم لا يكون عارفاً بالنبات والحيوان وتاريخ مشاهير فرنسا أحسن معرفة فمثل هذه الحدائق التي يتنزه فيها المتنزهون هي في الحقيقة مدارس عملية يدرس فيها المتنزه كبيراً كان أو صغيراً ما ينبغي له من هذه العلوم درساً عملياً لا يحتاج فيه إلا إلى انتباه فكر قليل حتى إذا أسعده الحظ ونظر في المدرسة أو خارجها في كتب هذه العلوم يصبح وهو مطبق العلم عَلَى العمل.

ولقد رأَيت في حديقتي الحيوان والنبات أسماء كنت أقرأها ولا أعرف أعيانها فلما وقع النظر عليها تبينت فضل عرضها وأن العلم النظري إذا لم يشفعه علم عملي يبقى كالسيف في غمده أو البندقية في معملها أو الكهربائية قبل توليدها. وليس في البلاد العثمانية أو المصرية ما يشبه هذه الحدائق الله إلا أن تكون حديقة الجيزة والجزيرة والقناطر الخيرية في مصر وحديقة الأمة وغيرها في الأستانة ولكن أين الثريا من يد المتناول ما ينظمه الباريزيون لأنفسهم وينظمه الإنكليز أو الطليان والنمسويون لنا. وما حك جسمك مثل ظفرك.

وإنك لترى في بعض الحدائق العامة تماثيل مشاهير رجال فرنسا في السياسة والعلم مجسمة من رخام مجزع أو حديد مصنع كأَن ساحات باريز وشوراعها العظمى لم تستوعب وحدها كبار رجالهم حتى هرعوا إلى الحدائق يضعون فيها التماثيل والنصب لمن أحسنوا اللامة أو سادوها زمناً وأصبح لهم في تاريخها ذكر يردد. ففي ساحات باريز وشوارعها 68 مشهداً لمشاهير علمائهم ورجال سياستهم ومنهم أوغست كونت والفرد دي موسه وشاركو وكورنيل ودانتون وغامبتاوكي دي موباسان وجول سيمون ولافييت وواشنطون ولافوازيه وباستور وفيكتور هوغو وغيرهم وفيها 68 تمثالاً اثنان منها لاسكندر دوماس الابن والأب. وواحد لبالزاك وبوفون وبرانجيه وشارلمان وكلود برنار وكوندورسه ودانت وديدرو وغاريبالدي وجورج ساند وجان جاك روسو وجان دارك ولامارتين ومارات وموليير وباسكال وشاكسبر وفولتير وتمثال الحرية والقانون والجمهورية هذا داخل العاصمة أما خارجها فلها من غابتي فنسين وبولونيا أعظم فسحة ونزهة وغابة فنسين في شرقي باريز على بضعة كيلومترات من نقطة دائرتها ومساحتها 927 هكتاراً وفيها من أنواع الراحة وتنويع المناظر المفيدة ما هو العجب العجاب وأعجب منها غابة بولونيا في غربي باريز ومساحتها 873 هكتاراً زرتها ثلاث مرات وإن كانت في الشتاء ليست مثلها في الصيف عَلَى أنها ما خلت من الأنيس والجليس وكان أحد تلك الأيام يوم عيد رأْس السنة والسماء مصحية والشمس طالعة مريضة صحيحة والعيون المراض الصحاح خرجت من كناسها تستنشق الهواء النقي. وهناك منظر من بحيرات بولونيا وطرقها لا أدري كيف يصوره الشاعر إذا كان الوقت ربيعاً أو صيفاً أو خريفاً ولو كنت شاعراً لحبرت في وصفه القصيدة وإن زرتها في الفصل الميت كما يقول الفرنسيس.

أما المتاحف الباريزية فهي أيضاً قصور نزهة وحدائق صفاءٍ وعددها 31 متحفاً يحتوي كل منها عَلَى أقصى ما يتصوره العقل من ارتقاء البشر في الصناعات والفنون على اختلاف الأعصار زرت بعضها وقضيت أوقاتاً طويلة في متحف اللوفر العظيم يالقرب من نهر السين ومتحف فرسال عَلَى ثلاثة أرباع الساعة من باريز. أما متحف اللوفر فهو من أجمل قصور العالم وأوسعها عرف سنة 1204 عَلَى عهد فيليب أوغسطس وما زالت أيدي الملوك تتعاوره بالإصلاح أو التدمير حتى إذا كان عهد فرنسيس الأول أصبح اللوفر متحفاً يقسم اليوم إلى سبعة متاحف في متحف بحسب أصول آثارها وزمنها وطبيعتها وهي متحف التصوير ومتحف الرسوم ومتحف النقش ومتحف النحت القديم ومتحف النحت في القرون الوسطى وعَلَى عهد النهضة ومتحف النحت الحديث ومتحف العاديات الآسياوية ومتحف العاديات المصرية ومتحف العاديات الإفريقية ومتحف العاديات النصرانية ومتحف الفخار والأواني الخزفية القديمة ومتحف القلز والحلي والرخام القديم ومتحف عاديات القرون الوسطى والنهضة والقرون الحديثة ومتحف تير ومتحف البحرية ومتحف الشرق الأقصى. وكل متحف تصرف فيه الساعات الطويلة ولا تستوفي النظر فتأْخذك الدهشة من رؤية المكان ورؤية المكين وتقضي بالعجب من كل ما يقع عليه بصرك إذ تتمثل لك عظمة الإنسان وتفننه فيما تصنعه يده وعينه وذوقه أما متحف فرسال فهو في مدينة فرسال وكانت في القرن الحادي عشر للميلاد قرية فأصبحت بعناية لويز الثالث عشر مدينة صغرى لأنه أقام فيها قصراً للراحة أثناء الصيد وأراد لويز الرابع عشر أن يجعل فرسال مركز حكومة فرنسا فأنشأَ فيها أبنية ومصانع عظيمة وكذلك فعل لويز الخامس عشر حتى أصبح عدد سكانها ثمانين ألفاً على عهد الثورة. وهكذا إذا أراد الملوك أن يعمروا بلداً أحيوه وإذا شاؤا أن يخربوه أماتوه. واشتغل في إقامة قصر فرسال الذي جعل المتحف فيه اليوم ثلاثون ألف رجل وسنة آلاف دابة في اليوم مدة سنين طويلة وقد فتحت أبواب المتحف سنة 1837 وفيه اليوم. 5600 أثر تاريخي.

أما مجموعة الصور البديعة التي فيه فعددها 2400 صورة ليس لها نظير في العالم ومن يمعن النظر فيها كثيراً يخرج من المتحف وقد درس تاريخ فرنسا ووقائعها الحربية بالعمل والنظر.

ومن جملة ما حواه أسلحة ببيوت الشرف التي اشترك فرد أو أفراد منها في الحروب الصليبية. ومنها أبواب مستشفى فرسان رودس الذي أهداه السلطان محمود العثماني سنة 1836 إلى لويز فيليب صاحب فرنسا. وفيه صور كثير من مشاهير الشرق كأنك تراهم عياناً وفيه صورة تمثل القائد كلبر الفرنسوي وسليمان الحلبي يقتله في حديقته في القاهرة زمن الاحتلال الفرنسوي في مصر.

أطلت الرواية في كل هذا وأنعمت النظر في النفقات الطائلة التي أنفقت على هذه القصور المزخرفة والمصانع العظيمة فأعطيت بعدها الحق لمن قاموا بالثورات الفرنسوية يريدون إنزال الملوك عن عروشهم وفصم عرى السلطة الفردية لتنقل إلى أيدي الأمة. نعم إن أقل نظرة إلى هذه القصور يستغرب معها المرء كيف لم تحدث تلك الثورات قبل حدوثها بزمن طويل ولكن الحوادث كالحبال لا تلد إلا بعد إتمام مدة الحمل أو كالثمر لا ينضج قبل إبانه.

ولم أتمكن يوم زيارتي لفرسال من رؤية كل حدائقها ومرافقها لنزول الثلج ولكني عَلَى الجملة أخذت منها صورة إجمالية كافية. شأني في كل ما زرته من المعاهد ورأَيته من المشاهد فلم يتيسر لي أن أُلقي عليه سوى نظرة واحدة لضيق الوقت وكثرة ما يجب أن يدرس من آثار هذه الحضارة الغربية الغريبة.

وبعد كل هذا صرت أَرى الاشتراكيين عَلَى حق فيما يطالبون به المجتمعات الحديثة في الغرب وهم يرون مئات الفدادين من الأرض تجعل حدائق قد لا يختلف إليها إلا أفراد في حين يهلك مئات الألوف من المحاويج والفقراء ولا من يرحم ضعفهم المادي والصحي أو يرثي لبكائهم وتسبل عَلَى النظر هذه التحف والعاديات التي لا تقدر بثمن وحكومة الجمهورية تفترض مئات الملايين من الفرنكات لسد العجز في ميزانيتها. وهكذا نظام المجتمع الغربي ولعلّ عقول أهله المفكرة تحرر في الأجيال المقبلة الفقير من فقراه أو تقوى عَلَى الأقل عَلَى تعديل هذا النظام الجائر الذي يسلب من كثيرين السبد واللبد ليعمر به قصر البلد ويلعب في حدائقه وساحاته الوالد والوالدة والولد.

مكاتب باريز ومكتباتها

19

لو لم يكن في باريز إلا مكتبة الأمة التي حوت في قصرها الفخيم زهاء ثلاثة ملايين كتاب مطبوع ومئة ألف كتاب مخطوط ومليونين ونصف صورة مختومة وألوفاً من الأيقونات والأنواط القديمة وغير ذلك من التحف والآثار ومجاميع الصحف والمجلات لكفاها جالباً للسائحين ولافتاً لأنظار أهل العالمين من العالمين.

مكتبة أسست منذ نحو ستة قرون وملوك فرنسا وعلماؤها وأشرافها يتبارون في أن يجعلوا في كل فرع من فروع العلم واللغات وصنوف المخطوطات والمطبوعات حتى إذا جاء القرن العشرون أصبحت مكتبة الأمة أكبر مكاتب العالم وأهمها بندرة كتبها ومخطوطاتها ففيها من نوادر المخطوطات والمطبوعات العربية ألوف.

اختلفت إليها غير ما مرة ولم أتمكن من مطالعة كل ما أريد لضيق الوقت وضخامة الفهارس وكثرة المؤلفين والناقلين في قاعات المطالعة. وبلغني أن الكتب التي أهديت إلى مكتبة الأمة في العهد الأخير لم يتيسر إدخالها في قوائم الكتب عَلَى كثرة موظفي المكتبة وكادت مطبعة الأمة الأميرية تعجز عن طبع فهارس هذه الخزائن ولا غروفان ما رأَيته منها مطبوعاً إلى عهد ليس ببعيد وحده مكتبة برأْسه ويقضي فيه المرء الساعات ولا يستطيع أن يستوفي النظر الإجمالي.

ولو صرف طالب العلم عمره كله ببحث في مخطوطات مكتبة الأمة ويستعين بمطبوعاتها لما تيسر له أن يأْتي إلا على قسم ضئيل جداً مما حوته في بطنها من معارف البشر ولا نعد المكتبة الخديوية في مصر ومكاتب الأستانة التي تتجاوز الأربعين مكتبة ومكتبة المجلس البلدي في الإسكندرية ومكاتب دمشق وبيروت وحلب وبغداد والمدينة ومكة وغيرها من بلاد الشرق الأدنى إذا جمعت كلها في صعيد واحد وجعلت لها فهارس وقوائم منظمة إلا جزءاً صغيراً من ذاك الجسم الكبير. وعَلَى تلك النسبة قس المطالعين والمراجعين في مكتبة الأمة بالنسبة لأمثالهم في البلاد العثمانية والمصرية فتراهم عند الساعة الرابعة بعد الظهر يخرجون رجالاً ونساء شيوخاً وعجائز شباناً وشابات كالقطيع الكبير لا يقل عددهم عن خمسمائة وربما الألف أحياناً وتجد فيهم الغرباء من أمم أوروبا وآسيا وأميركا وإفريقية ممن تجمع بينهم كلمة العلم الجامعة وكلهم يتنافسون في البحث والدرس ويستخرجون من ركاز تلك الكنوز ما يصوغونه عقوداً ثمينة وتعاويذ محلاة تقي البشر شر الجهل والخرافة ولعله يخطر ببال بعضهم أن هذه المكتبة هي كل ما في فرنسا من خزائن كتب صرف الفرنسيس فيها قواهم وجمعوا لها من أقطر الأرض كل غال ونفيس عَلَى عادة الإفرنج في التغالي بفخامة مصانعهم وضم شتيت متفرقهم وحرصهم على الاجتماع للانتفاع ولكن في باريز وحدها من المكاتب العامة ما لو جمع أيضاً لكان منه مكتبة كمكتبة الأمة بكثرة أسفارها إلا أن هذه تفوقها بالنوادر من المخطوطات.

ولباريز عشر مكاتب أخرى في كل واحدة منها عشرات الألوف من المخطوطات والمطبوعات دع عنك خزائن كتب الجمعيات والمدارس والكليات والمجامع فإن لكل واحدة منها ما يقتضي للمطالع من أسفار المراجعة وغيرها. أما خزائن كتب الأفراد فهذه لا يحيط بها إلا علاّم الغيوب أو من يدعي أنه يعرف ما حوت باريز من علم وأدب وذهب ونشب.

ويقول العارفون أن قواعد بلاد الإنكليز السكسونيين كألمانيا وإنكلترا والولايات المتحدة تحسن استخدام أسفارها أكثر من الجنس التوتوني اللاتيني كالفرنسيس والطليان والاسبان وغيرهم إذ ثبت أن تلك الأمم العظمى الراقية أكثر إحساناً للانتفاع من قواها الطبيعية والصناعية على أسلوب حديث لم يخطر ببال الفرنسويين الذين جروا في أوضاعهم وترتيب مصانعهم وتنظيم شؤونهم عَلَى تقاليد لهم قديمة وإن عرف عنهم أنهم أسبق الأمم إلى الجديد ولكن تجديدهم في أمور دون أخرى.

والانتفاع من الكتب أيضاً لم يخرج عن هذا النظام حتى قالوا أن نفائس المخطوطات والمطبوعات الموجودة في مكتبة الأمة في عاصمة الفرنسيس لو نقلت إلى ليبسيك أو مونيخ أو برلين أو فينا أو أكسفورد أو مانشستر أو لندرا أو نيويورك أو شيكاغو لانتفع بها وتيسر سبيل الوصول إليها لأنها تكون هناك مفهرسة مبوبة عَلَى طريقة فيها روح القرون الوسطى وقد جعلت هنا على أسلوب قريب المأخذ سهل التناول خال من القيود التي تقيد المطالع والمراجع. فإن كانت فرنسا في مقدمة شعوب الأرض من وجوه كثيرة ولا سيما في الأمور الذوقية وبدائع الصناعات والإصلاحات الدستورية والإنسانية فقد فاقها غيرها من الممالك المجاورة من حيث الفنون والاقتصاد والاجتماع فعرفوا كيف يطبقون أنفسهم عَلَى الذوق العصري.

مثال ذلك صناعة الوراقة أو بيع الكتب فإنا نجد ألمانيا أرقى من فرنسا فيها مع كثرة تفنن الفرنسيس فيما يدل على سلامة الذوق حتى أن ليبسيك في ألمانيا تبيع وحدها من الكتب قدر ما تصدر فرنسا كلها ومن الغريب أن الكتبية الألمان في نفس باريز تجدهم أمهر في تصريف كتبهم فيبيعون كمية أوفر من كتبية الباريزيين.

جاء في كتاب ألمانيا الحديثة أن ألمانيا أعظم البلاد إصداراً للكتب فقد كانت أوائل القرن الماضي لا تخرج في السنة سوى 3900 كتاب فأصدرت سنة 1905 28886 كتاباً في حين أن فرنسا التي في الدرجة الثانية بكتبها لم تصدر سنة 1904 سوى 12139 كتاباً فإذا قدّر أنه يطبع من كل كتاب في ألمانيا ألف نسخة فيصيب كل شخص فيها عَلَى أقل تعديل مجلد واحد فصناعة الكتب في ألمانيا رابحة جداً. وقد كان عدد المحال التي تتعاطى تجارتها سنة 1905 7152 محلاً تصدر إلى الخارج فقط ما قيمته 290 مليون مارك.

زرت في جملة الكتبية الذين زرتهم أو ابتعت منهم بعض الكتب مكتبة هاشيت المشهورة في جادة سان جرمان وهي ثلاثة طوابق وفيها نحو ألف وخمسمائة موظف ومستخدم وتطبع فيها بضع جرائد ومجلات كما تطبع الكتب المدرسية والأدبية والتقاويم السنوية المشهورة في العالم وهي مؤسسة منذ نحو ثلاثة أرباع قرن ويعد هاشيت من أعظم كتبية العالم إن لم يكن أعظمهم ومع هذا يقول العارفون أن مكتبته عَلَى حالتها الحاضرة لو كانت لجماعة من الألمان أو الأميركان لأدهشوا العالم بنظامهم وأرباحهم. فكأن دم الفرنسيس الذي على زمناً قد برد اليوم وأصبح الدم الجديد غيره الآن يغلي فيدهش بحرارته. ومن مكتبات باريز المشهورة مكتبة فلاماريون ولمكتبته فروع كثيرة في مدينة باريز وبلاد فرنسا وهذه المكتبة فيما رأَيت أقرب إلى التجديد منها إلى الجمود على القديم.

مجامع باريز العلمية

20

عَلَى الشاطيء الأيسر من نهر السين مقابل قصر اللوفر الفخيم قام قصر عظيم عمر في النصف الثاني من القرن السابع عشر بمال أوصى به السياسي مازارين الذي جمع بطمعه وجشعه ثروة عن خمسين مليون فرنك عَلَى عادة عظماء القرون الوسطى. وأراد أن تنفق بعده في الخيرات وحسن الأثر ومن جملة خيراته هذا القصر الذي أوصى له بمليوني فرنك فضة وخمسة وأربيعن ألف ليرة دخلاً سنوياً ليكون منه مدرسة عالية يتعلم فيها ستون طالباً من أبناء الولايات الأربع التي أضيفت إلى فرنسا بموجب معاهدة البيرنيه وروسيللون.

وهذا القصر هو الذي نقل إليه مجمع فرنسا العلمي سنة 1806 ذاك المجمع الذي أُسس سنة 1795 فكان مفخراً من مفاخر الفرنسيس وحق لهم أن يفاخروا به. وهو مجلس أو ديوان مؤلف من خمسة مجامع فالأول المجمع العلمي الفرنسوي المعروف بالأكاديمي أَسسه ريشليو سنة 1635 وهو يشتغل خاصة بتأليف معجم اللغة الفرنسوية وإدخال المفردات الجديدة ونبذ القديمة أو إصلاحها وأعضاؤه أربعون رجلاً ويقال لهم المخلدون عَلَى سبيل الدعابة لأنهم إذا خلا موضع واحد بالموت ينتخب سائر الأعضاء في الحال من يخلفه والمجمع الثاني مجمع الصناعات النفيسة أسسه مازارين سنة 1648 باسم مجمع التصوير والنقش والمجمع الثالث مجمع الخطوط والآداب أنشأه الوزير كولبر سنة 1664 ومجمع العلوم أَسسه كولبر أيضاً سنة 1666 ومجمع العلوم الأخلاقية والسياسية أنشيء سنة 1832 وجميع هذه المجامع ينتخب أعضاؤها بعضهم بعضاً مدى العمر وينظرون في العلوم الآنف بيانها ويعطون جوائز للمحسنين من المؤلفين والعاملين وبعضها لا يستهان به. وفي باريز مجامع علمية كثيرة غير هذه منها مجمع باستور العلمي مكتشف الميكروب والمجمع الكيماوي ومجمع فتيان العميان ومجمع الزراعة ومجمع البحار ومجمع العيون ومجمع الصم البكم ولكل منها أنظمة وقوانين وأعمال يطول شرحها وأكتفي فقط بوصف جلسة عامة حضرتها من جلسات مجمع العلوم الأخلاقية والسياسية في اليوم الرابع من كانون الأول سنة 1909 عقد هذا المجمع جلسته السنوية تحت قبة المجمع وهي القبة التي تجتمع فيها المجامع الخمسة المعددة فيما تقدم اجتماعها السنوي وقدر الجمع بأربعمائة نسمة رجال ونساء. جلسوا على مقاعد من المخمل على ترتيب بديع بحيث يسمع كل واحد منهم ويرى وكان أكثر أعضاءِ هذا المجمع بلباسهم الرسمي فجلس على كرسي الرئاسة المسيو رني ستورم وتلا كما هي عادة هذا المجمع منذ القديم أو منذ إنشائه قائمة بأعمال المجمع منذ اثني عشر شهراً وصفق لمن نالوا جوائز على كتب أَلفوها وأعمال قاموا بها لخدمة الإنسانية وتعليم البائسات وإطعام الجائعات واليتامى والعمي وبين من نالوا الجوائز أربع عقائل عدا من أثنى الرئيس عَلَى أياديهن البيضاء كالأم أرنستين التي أنشأَت معملاً وملجأً في مدينة روان والعقيلة بيكوين التي أنشأَت في باريز ملجأً سمته معمل الجهاز والآنسة دي رشمون التي أنشأَت في مدينة كرنيل منذ أربع وعشرين سنة ملجأً للبنات تأوي إليه أربعمائة ابنة من بنات العملة وأنفقت عليه ثروتها. ومن المعاهد التي أخذ هذا المجمع النظر فيه معهد كارنو وهو الذي منحته العقلية كارنو امرأَة أحد رؤساء الجمهورية رأْس مال يأْتي بثمانية عشر ألف فرنك دخلاً سنوياً وقضت بأن تقسم إلى 90 إعانة كل واحدة بمائتي فرنك توزع كل سنة يوم 24 حزيران وهو يوم مقتل كارنو على تسعين امرأَة من نساء العملة ممن لهن أولاد. ومن جملة الجوائز التي منحها المجمع للمؤلفين جائزة الإجادة لمن أَلف كتاب إفريقية للأوروبيين وكتاب أوربا والمملكة العثمانية.

ثم قرأَ المسيو دي نوفيل أمين سر المجمع الجديد ترجمة حياة صديقه وسلفه في هذه الوظيفة جورج بيكو فاثر في السامعين وأبكاهم وتفنن ما شاء وشاء البيان في وصف حسنات المتوفى واقتداره. وكانت الخطب يتلوها أولئك الشيوخ في الورق بنغمة تأخذ بمجامع القلوب ويطرب لها العالمون العاملون طربهم بنغمات الأوتار وتغريد الأطيار في الأسحار.

وهكذا انصرف القوم ونصفهم من النساء يرددون محامد أعضاء المجمع أما أنا فتمثات لي أرواح أولئك العلماء العاملين الذين سنوا لمعاصرينا أخلافهم سنن الارتقاء وخدمة العلم والحق والفضيلة والآداب والفنون وحدثتني النفس ببلادنا الشرقية وقلت هل يكتب لها في المستقبل تأليف مثل هذه المجامع فنعمل فرادى ومجتمعين كالغربيين أو نظل كما نحن لا نعمل فرادى ولا مجتمعين ونكتفي بالتفاخر بأجدادنا نجعله عدتنا في شدتنا ومثالنا في نهضتنا ونحن عن اقتصاص آثارهم غافلون.

كنائس باريز ومعابدها

21

من المعاهد التي يقضى عَلَى من يزور باريز أن يختلف إليها ولو مرة بيعها وكنائسها فإنها من الأماكن التي يقرأ فيها نموذجاً من النموذجات البناءِ في القرون الوسطى ويطلع فيها عَلَى فلسفة الفرنسيس الروحية خصوصاً والمأْثور عنهم في الشرق أنهم أمة لا تقيم لغير العقل وزناً تجردت من العواطف الدينية حتى لم يبق فيها سوى العجائز من النساء يختلفن إلى المعابد للإنابة إلى الله وتقديس يسوع وأمه عليهما السلام.

بيد أن من تعمق في البحث عن حال الفرنسويين الروحية يتجلى له أن جمهوراً عظيماً لم يبرح متشبثاً بدينه متشبعاً بصحة يقينه ولا سيما في القرى والبلدان الصغرى فأغلب الخاصة والطبقة العليا عندهم نزعوا كل نحلة حتى لم يعودوا يعرفون غير المادة ديناً وأغلب الطبقة الوسطى يغلب عليها التدين أما العام في المدن فكالسائمة لا تعرف غير الأَكل والشرب واللهو واللذائذ وأكثر أهل طبقتهم في القرى متعصبون لدينهم والسواد الأعظم من النساء متدينات. وتساوى متدينهم والمنحل من كل دين منهم أو الخاصة والعامة بالتظاهر في مراعاة الشعائر الدينية ولا تختل هذه القاعدة قليلاً إلا في المدن والحواضر ولا أثر للتعليم الديني في المدارس الأميرية وهو عَلَى أشده في مدارس الرهبنات وغيرها من المدارس الخاصة عَلَى أن نزعة التعصب التي عرفت بها فرنسا منذ صبأَت عن الوثنية لتنتحل النصرانية في القرن الثالث للمسيح ما برحت لها في نفوس أبنائها حتى في هذا القرن العشرين آثار راسخة وإن عبثت حكومتهم بقانون الحرية الشخصية غير ما مرة ودمرت بيوت الرهبان والنسك وجردت الكنائس والبيع والمدارس الأكليركية من كل ما يدخل في حوزتها.

يحتفل الفرنسيس يوم 14 تموز بسيد الجمهورية احتفالاً يقدسونه ويمجدونه وفي ذاك اليوم تشهد كل أرض فيها بضعة منهم أو رفع لهم فيها علم نموذجاً من وطنيتهم وكيف يرى جمهورهم بالجمهورية حياته ولكن احتفال هذه الأمة بأعيادها الدينية لا يقل عن احتفالها ذاك اليوم وأعيادها كثيرة هي صورة من صورتها في القرون الوسطى بل في القرون الحديثة قبل أن تنادي فرنسا بتأليه العقل وتعلن الحكومة علناً نزعها ريقة الدين.

نعم إن زائر كنائس باريز تتجلى له فلسفة القوم النفسية. ومما زرته من كنائس باريز كنيسة نوتردام والمادلين وعدد الكنائس الباريزية سبعون كنيسة أسقفية للكاثوليك ما عدا بيع الروم والبرتستانت ومعابد اليهود الأربعة وما عدا المصليات والبيع الصغرى ونوتردام هي من أعظم الكنائس وهي أجمل إنموذجات البنايات القديمة تجيء بمكانتها بعد كنيسة مدن شارتر وريمس وأمين وبورج وتفوقها بآثارها التاريخية وكفى بأنها أُنشئت في أوائل النصف الثاني من القرن الثاني عشر ولم تزل تتعاورها الأيدي بالنقش والتزيين والترخيم والتعريق حتى يوم الناس هذا وفيها من بدائع ما صنعت الأيدي وتفننت فيه العقول ما يدهش ويبهر.

زرتها قبيل صلاة المساءِ مع صديقي عثمان بك ووقفنا نستمع لوعظ الواعظ عَلَى جمهور المصلين وأكثرهم من النساء. يعظهن واصفاً لهن غرور الحياة الدنيا بالقياس مع الآخرة ومنهن من تغر ورق عيناها بالدموع أو تجهش بالبكاء خصوصاً عندما يذم بلسان بليغ غرور أهل باريز. فهو داخل الكنيسة يقوم بالواجب ليدعو الناس إلى الزهادة ويجيب إليهم العبادة ووراءَ سور الكنيسة تجري كل ساعة شؤون وأعمال دنيوية هائلة كلها ما كانت تقوم لو عمل الناس بمثل هذه المواعظ وآثروا الباقية على الفانية. إن ما رأَيته من انتظام البيع الباريزية وتفنن البانين في إبداعها وتفانيهم في توفير قسطها من الجمال دلني بلسان حاله عَلَى أن مدينة القرون الوسطى قامت باسم الدين ولذلك جاءت المعابد أجمل مصانع تلك القرون وكان أكثرها إلى الزوال لو لم تتدارك في القرون الحديثة ببلسم من إنارة العقول بالفلسفة والعلم المادي أما مدينة هذا العصر فلا أدلّ عليها إلا بما ينفع الناس في دنياهم كالسكك الحديدية والبوارج والبواخر والمرافيءِ والمعامل والثكن والمستشفيات والمدارس والكليات ودور البائسين والحقول الأنموذجية والمتاحف وحير الوحوش والمكاتب ودور التمثيل. فهل يأْتي عَلَى البشر عصر يا ترى يكون فيه ما ينمّ عن مدينتهم غير ما ذكرنا قديماً في الدين واليوم في الدنيا ويخف تكالبهم على مظاهر هذا العالم وينسون بتاتاً تعظيم ما خلفته عصور التدين من المصانع والعبادات التي انتقلت إلى أكثرهم بالعادة أو يمزجون القديم بالحديث فيكون شأنهم غير شأنهم الآن في تصور ماضيهم وحاضرهم. هذه أسئلة ليس غير الزمان كفيلاً بالإجابة عنها والله أعلم بمصير عباده.

قصور باريز وسراياتها

22

من القصور العامة وأملاك الحكومة في هذه الحاضرة: مصرف فرنسا وقصر الإليزه حيث يقيم رئيس الجمهورية وقصر الأنفاليد والتويليري وقصر العدلية وقصر ساحة المريخ وقصر التروكادير والقصر الملكي وفيه دائرة شورى الدولة ومحكمة التجارة والبانتيون مدفن العظماء وقصر مجلس النواب وقصر مجلس الشيوخ وقصر المجلس البلدي.

ونتكلم هنا عَلَى القصور الثلاثة الأخيرة فقد كتبت لي زيارة مجلس نواب الأمة الفرنسوية ومجلس أعيانها خلال انعقاد المجلسين فلم أسر بمشهد أجمل ولا أفخم وقلما ثمثل لي معنى النيابة عن الأمة إلا ذاك اليوم. ومجلسا النواب والأعيان هما مفخر من مفاخر هذه الأمة ونموذج تقدمها ودليل أخلاقها السياسية ففي مجلس الأمة الحركة والمضاءُ وفي مجلس الشيوخ التؤدة والروية فالأول يقيم في قصر البوربون والثاني في قصر اللوكسمبورغ وكلا القصرين من أجمل قصور الحكومة في هذه العاصمة العظيمة وعدد النواب خمسمائة تغلب عليهم همة الشباب وعدد الأعيان ثلثمائة تقرأْ في وجوههم المغضنة وشعورهم البيضاء سعة العقل والتجارب الكثيرة.

وما أنس ولا أنس يوم كانت المناقشة في مجلس النواب في وضع ضريبة على العملة وقد تدفقت أقوال بلابل المجلس عَلَى المنبر وما فيهم إلا الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي والسياسي والإداري.

وإن ما تلي في تلك الجلسة فقط من الخطب وجرى الحوار فيه بين الأعضاء لو جمع في كتاب يرأْسه لجاء منه أحسن كتاب اجتماعي اقتصادي عن فرنسا ومن أراد أن يعرف ما هو البيان الحقيقي والعلم الذي تشربته أجزاءُ النفس فليزر مجلس النواب الفرنسوي في فصل اجتماعه يشهد ارتقاء الغرب ويدرك سر الشورى.

أما المجلس البلدي فهو معيار العمران وبيده إسعاد باريز وإشقاؤها. يزار كما تزار أكثر المعاهد الكبرى في باريز بطلب من الزائر يقدمه إلى أمين سر المعهد فيرسل هذا إليه ورقة يعين له فيها الميعاد الذي يأْتي فيه.

يدخل الزائر هذا القصر المدهش فيتجسم في نظره الذوق الفرنسوي وعظمة هذه الأمة لكثرة ما يقع عليه نظره من الردهات والقاعات والغرف وكلها مزدان بنقوش وصور ورسوم من أجمل ما خطته أنامل النقاشين والمصورين وتدل كلها على الذوق والمعاني اللطيفة والإشارات الحسنة.

فمن رسم يمثل الغناء والعشرة وآخر يمثل الزهور والثمار وغيره يصور أغاني شواطيء السين وآخر يمثل التجارة والصناعة فالأشهر الجمهورية ومناظر كثيرة لأجمل قصور باريز ومعاهدها وأصقاعها وهناك صور رسمت عَلَى الحيطان والسقوف في القاعات التي تستقبل بها مدينة باريز في العادة من يزورها من ملوك الأرض وأمرائها ومنها ما يمثل أفراح الحياة وآخر يمثل العمل ومغيب الشمس والرقاد والحلم وغيرها يريك الطبيعة الملهمة المربية فالرياضيات الطبيعية فالرياضيات العقلية وآخر يمثل الطبيعة والكيمياء والفلسفة والنجوم وفيها ما يمثل المساء في باريز والخيال والولادة فيها والجهاد والنهضة والشعر والفلسفة والتاريخ والعلم والفنون والسلام واليقظة وذكرى عيد وطني وعيد الخلاءِ في ضاحية باريز. وبعضها يمثل أبولون وعرائس الشعر والتصوير والأدب والموسيقى والنقش والهندسة ومنها رمز القصائد الغنائية والأنغام والكدر والتأمل ومن التماثيل ما يرسم التمثيل بالإيماء والقصص الهزلية والموسيقى والرقص والألعاب ومنها ما يصور الحصاد وقطف العنب والغناء والصيد وتعاطي الشراب. ومنها الموسيقى عَلَى اختلاف العصور والطبوب والعطور ومدينة باريز تدعو العالم إلى أفراحها والزهور والرقص في كل عصر من أعصار التاريخ وصور تمثل أهم أقاليم فرنسا مثل الفلاندر وبيكارديا والجزائر وليون ولانكدوك وغاسكونيا والبروفانس وكوسين وبرى وشامبانيا وبرتانيا وبورغونيا وأوفرن واللورين ونورمانديا وكونتية نيس. ومن صورها ما يمثل الصيف ومنها الشتاء ومنها ما يمثل آسيا وأوروبا وأميركا وإفريقية ومنها ما يصور تأليه العلوم وهو رمز لعلم الأحداث الجوية والكهربائية وتعليم العلم وتمجيد العلم وأربع أيقونات تمثل علم الطبيعة والنبات في شخص أراغو وأمبر وكوفيه ولافوازيه. ومنها رمز إلى ساعات الليل والنهار ومشاهد الأفراح والأعياد وفي ردهة الآداب صور ترسم لك عرائس الشعر والإلهام والتفكر وتاريخ الكتابة وأعظم الأعمال الأدبية وأربع أيقونات لأربعة أدباء وهم مولير وديكارت وفيكتور هوغو وميشله ثم صور الفلسفة والشعر والفصاحة والتاريخ وهناك رمز بديع يشير إلى أن التاريخ يجمع دروس الماضي والفلسفة تحرر الأفكار من قيودها وعَلَى مقربة من ذلك رسمان اثنان نائمان وهما يمثلان الأدب وفي سقف ردهة الفنون والنقش والموسيقى والهندسة والرسم وغير ذلك من رسوم الوقائع الكبرى التاريخية والصور والتماثيل التي تشير كل واحدة منها إلى معنى من المعاني وفائدة من الفوائد وكلها من حفر أو رسم أو نقش أعظم رجال هذا الشأْن في العالم ولا سيما من أهل فرنسا جعلت هناك نموذجاً مما خصوا به من المزايا وسعة العلم وبعد النظر وحسن الذوق.

وعلى الجملة فإن الشرقي الذي يزور قصر المجلس البلدي في باريز تصغر بلاده في عينه ويكاد ييأس من ارتقائها ونهضة أبنائها.

أما أعمال هذا المجلس الذي تبلغ ميزانيته مئات الملايين فلا أقول فيها إلا أنها عظيمة جداً ويكفي أن المجلس طلب من الحكومة هذه الأيام أن تسمح له بعقد قرض قدره تسعمائة مليون فرنك ليطهر بعض أحياءِ باريز فأذنت لأنه ثبت أن بعض الأمراض تكثر في حي دون آخر فالواجب العناية بها حتى لا تعلو يد الفناءِ عليها أما أنا فلم أر على كثرة تجوالي راكباً وماشياً في شوارع باريز وأحيائها موضعاً تحدثك النفس أنه محتاج للإصلاح بعد لكثرة ما ترى كل شيء في مكانه وإن مدينة باريز لتنفق على أضواء الكهرباء والغاز الذي تنير به شوارع هذه المدينة السعيدة كل ليلة ما يبلغ مقدار ميزانية بلدية دمشق طول السنة فتأمل.

تاريخ الحضارة الفرنسوية

23

بسطنا القول في الفصول السالفة في كل ما يهم عن معرفة باريز وها نحن أولاءِ نتوخى في هذا الفصل أن نلم بطرف من عمران فرنسا بأسرها وأثرها في الحضارة منذ قامت للعلم والعمل سوق رائجة معتمدين فيما ننقل على معجم لاروس الجديد وما هذه النبذة إلا احتذاءٌ لما ورد في الفصل الفرنسوي بتصرف كثير وزيادات.

فرنسا مملكة عظمى في أوربا الغربية يحدها المحيط الأطلانطيقي وبحر الشمال أو المانش من الغرب ومن الجنوب جبال البيرنيه والبحر المتوسط ومن الشرق جبال الألب والجورا والفوسج ويفصل بينها وبين البلجيك وألمانيا خط اتفق عليه من الشمال الشرقي والشمال ومجموع مساحتها 536. 418 كيلومترات مربعة وسكانها نحو أربعين مليوناً أي نحو أربعة أضعاف ونصف مساحة سورية ومساحة سورية 115. 000 كيلو متر مربع والفرنسيس كجميع سكان سوريا أخلاط من العناصر مزجتهم بودقة واحدة فجاء منهم شعب ذي قوة عقلية حقيقية واختلفت صفاتهم وميولهم لمذاهب المعاش وإن فرنسا لغنية بزراعتها أكثر من غناها بمناجمها ومع هذا فهي تعد من أغنى البلاد وزراعتها أرقى زراعة في الأرض و. . . في أرضها الذهب والفضة والزئبق والنحاس والزنك والرصاص والقصدير والزرنيخ والنيكل والأنتيموان والكبريت ولكن عندها ما يلزمها من الحديد والفحم الحجري.

وإنك لتدهش إذا عرفت أن جزئين من ثلاثة عشر جزءاً من أرضها تزرع وتشجر وفيها نحوة عشرة ملايين هكتار من الغابات والعوسج ولها في تربية المواشي والحيوانات يد طولى وتجد المعامل الكبرى قائمة في الضواحي الغنية بالفحم الحجري والحديد والمحاصيل الزراعية القابلة للتحول وقد امتاز كل إقليم بصناعة وباريز هي ملكة المدن الصناعية في فرنسا لأنها محط الخطوط الحديدية ومنتهى المواصلات.

امتازت الجنوب بصناعاتها لكثرة الفحم الحجري وكثرة السكان وفيها صناعات اشتهرت شهرة الشمس والقمر كما امتاز إقليم الآردن بالجوخ وأعمال الحديد والألواح الحجرية وامتاز إقليم شامبانيا ونورمانديا بالجوخ وأعمال الحياكة والنسيج وإقليم فرانش كونتيه بعمل الساعات وليون وسان إتين بالمنسوجات الحريرية وامتازت المقاطعات المجاورة لها بتربية الحرير والغزل وامتازت البلاد الوسطى بالفخار والخزف والصيني والكاشاني وفي ضواحي الكمولم عَلَى الينابيع ذات المياه الشفافة معامل الورق ولمرسيليا الميزة بصابونها ولإقليم البروفانس بزهوره العطرة التي تستعمل في الطيب وعَلَى الجملة فإن صناعات فرنسا من أنفس ما تصنع صنع الأيدي في العالم ولا سيما في منسوجاتها الحريرية وصناعة الجوهرية والبلور والأواني الصينية الدقيقة وكلها مما جعل فرنسا في مقدمة ممالك أوربا.

تقسم فرنسا من حيث أمورها الإدارية إلى 87 إيالة وهذه تقسم إلى 362 ولاية و2899 كورة و36170 مديرية ولها مجلس نواب ومجلس شيوخ ينتخب أعضاء الأول كل أربع سنين وأعضاء الثاني كل تسع سنين وهذان المجلسان هما اللذان ينتخبان رئيس الجمهورية لسبع سنين والقوة الإجرائية بيد الوزارة وهي المسؤلة أمام القوة التشريعية وتقسم هذه البلاد من حيث المعارف والأديان والبحرية والبرية إلى مناطق كثيرة تخالف ترتيب الإيالات وكلها لسان واحد وتربية تكاد تكون واحدة ونظامها واحد.

ومن نظر إلى تاريخ فرنسا السياسي والاجتماعي يتجلى له أنها هي بلاد غاليا المستقلة وهي عبارة عن ولاية رومانية عَلَى عهد مملكة الرومان افتتح الرومانيون منذ سنة 125 قبل المسيح البلاد الواقعة عَلَى شواطيء البحر المتوسط ثم افتتح قيصر البقية سنة 58 ـ 51 ق. م ولم تكن إذ ذاك إلا خليطاً من العناصر والقبائل لا وحدة بينها ولا جامعة تجمعها ففي الشمال قبائل جرمانية وفي الوسط سلتية وفي الجنوب الغربي إيبرية وفي الجنوب الشرقي ليكورية وفي الولايات الرومانية مدن يونانية ومستعمرات إيطالية يتكلمون بنحو عشر لغات مختلفة ولم تكن لهم وحدة سياسية ولا رئيس أعلى بل كانوا عبارة عن نحو مئة من الشعوب لهم أوضاع مختلفة ويحكم عَلَى معظمهم مجلس شيوخ ومن هذه الشعوب من يعيش عَلَى حال انفراد ومنها متحدة بينها عَلَى التساوي ومنها من يشترك مع غيره ويترك الزعامة لمن يراه أحق بها.

وكانت المدن قليلة جداً في بلاد غاليا وغاية ما كان فيها ملاجيءٌ لأوقات الغارات وهي مراكز الأسواق والزيارات فبلاد غاليا كانت بلاداً زراعية وسكانها ثلاث طبقات الأشراف والمحاربون ومنهم ينتخب أعضاء مجلس الشيوخ والملوك والفرسان وعامة الشعب كانوا فدادين تقرب حالهم من العبودية ولم يكن يملك الأراضي ثم أصبحت ملكاً للأسرات الشريفة.

أما الحراثون فهم من توابع الأرض ويجيءُ بعدهم العبيد ويعدل من حال الأشراف طبقة الدرويد وهم الكهنة والأطباء والمنجمون والقضاة ولا سيما في أوسط البلاد.

ولما استقام أمير الرومانيين أقاموا زعيماً عاماً على البلاد ممتعاً بالسلطة المطلقة متصرفاً بالقوة الحربية والمدنية والدينية ونعني به الإمبراطور وهو زعيم الحرب والمشرع المطلق والقانون الحي والرئيس الروحي والرب ثم امتزجت البلاد بالعادات الرومانية واللغة الرومانية بما أتاها من جيوش الرومان وتحرفت لغة الفاتحين فأصبحت اللغة اللاتينية الحقلية وغدت كل أمة غالية مقاطعة برأْسها يرأَسها زعيم وأخذت التجارة والصناعة ترتقي ولولا أنه كان من حق المالك أن يبيع الأرض بفلاحيها وهو الحاكم المتحكم في حياتهم ومماتهم لركن الفلاحون إلى الفرار.

ولما أخذت النصرانية بالانتشار كانت قاصرة على المدن ولم تتعداها إلى الأرياف إلا بعد زمن وكان من فوائد انتشارها أنها أعلنت بأن الأحرار والعبيد سواءٌ أمام الله هذه هي الفائدة الأخلاقية أما الفائدة السياسية والاجتماعية فقد نشأَ منها تأليف طبقة رجال الدين بنظامهم الذي أخذوه عن نظام الحكومة ولم يمض إلا زمن قليل حتى أصبحت الكنيسة حكومة وسط حكومة تجبي أموالاً من الناس ويغدق المؤمنون وأحياناً الإمبراطورة عليها من المال ما تكوّنت منه ثروة طائلة وتعفى أملاكهم من الخراج كما يعفى خدمتها من المحكمة مع الشعب بل كثيراً ما يحاكم الشعب نفسه في الكنيسة ولطالما كان الأسقف في ابرشيتة خصماً للحاكم السياسي ورقيباً عتيداً عليه. ولما سقطت المملكة الرومانية تجزأَت غاليا إلى عدة ممالك بربرية كالفرنك والبورغوند والفيزغوت وعادت كلمة البلاد إلى الانتشار بعد الاجتماع ولم يكن ملوك الفرنك يدركون معنى الوحدة كسائر الملوك البرابرة ولا يقيمون للحكومة وزناً ولئن يلبسون الثياب الأرجوانية ويضعون التيجان عَلَى رؤوسهم كإمبراطور الرومان إلا أنهم لم يكن لهم جيش دائم وليست لهم طريقة منظمة في الجباية كما أن اللغات في البلاد تعددت وكلها لهجات من أصل روماني تمازجها لهجات بربرية وعادت سلطة الأشراف وسلطة رجال الدين تقرى حتى لم يعد يعترف السواد الأعظم من الناس بالزعامة عليه إلا لهم ومنهم يطلبون الإنصاف ولهم يدفعون الجزية والخراج وخربت المدن وهاجر رؤساء الجيش والأديار إلى الحقول وضعفت الصناعة والتجارة باختلال الأمن في البلاد وكاد الفلاح يكون عبداً لسيده كما في سابق الأعصار وفي اليمين الذي أقسم سنة 842 في ستراسبورغ ظهرت لأول مرة لغة اشتقت من اللاتينية المستعملة عند الفلاحين ومنها نشأت اللغة الإفرنسية وفي معاهدة فردون سنة 843 اعترف بوجود مملكة فرنسا وعاصمتها باريز.

وما زالت الملوك تتوالى عليها وتختلف في المباديء والأطوار حتى قبيل نهاية القرن الثامن وقد حسنت فيه حال الفلاح الفرنسوي وزاد عدد المالكين من أبناء القرى زيادة مهمة وارتقت الصناعة والتجارة عَلَى ما كان يقف في سبيلها من القيود الكثيرة والأنظمة المنوعة وارتقت الأدبيات وتحررت من قيودها القديمة وأخذت الفلسفة تبحث في التسامح الديني والحرية والسياسية وإصلاح القوانين الجنائية وتمايز الطبقات الاجتماعية وعارض مونتسكيو نظرية أن الملك ملهم من الله وحقه إلهي عَلَى سكان الأرض بنظرية الحكم الملكي النيابي ووضع روسو نظرية العهد الاجتماعي.

نبهت البارلمانات في مكافحتها سلطة الملوك (سنة 1788) أفكار وكلاءِ الشعب فبدأَت الأمة ترفع صوتها وكان الملوك يخفتونه ولا يرون لها حقاً في مطالبتها بحق واتفق أن وقعت البلاد في عسر مالي فاجتمع وكلاءُ الأمة ينظرون في حل ما أصابهم فنشأَت بعد حين الثورة الأولى (1789) وأعلن لويز الرابع عشر أن الأمة كلها للملك ولكن جاء في قانون حقوق الإنسان والوطني أن مبدأَ كل سلطة ينبعث من الأمة بجوهره فما من جماعة ولا من شخص يستطيع أن يحكم حكماً لا يكون صادراً عنها بالفعل وهكذا مات حق الملوك الإلهي المزعوم وأتت الثورة عَلَى أعشار رجال الدين والإقطاعات والسخرات والأحكام التي يحكمها أرباب الإقطاع وساوت بين الناس في الواجبات والضرائب وقضت على قليل الكفاءة من أرباب الغنى أن توسد إليه الوظائف الكنائسية والحربية بدون استحقاق وحمت الحرية الشخصية وحرية الضمير وحرية التكلم والكتابة وحرية المسكن وتساوي كل وطني من أكبر كبير إلى أصغر صغير في الخدمة العسكرية ودفع الضرائب كل بحسب طاقته وثروته.

هذا موجز الأساس الذي قام عليه بناء النظام الجمهوري ثم عراه قليل من التعديل بتقلب أنواع الحكومات وقيام بعض الأدعياء بالملك إلى عهد الجمهورية الثالة بعد حرب السبعين مع ألمانيا وعندها استقرت الحال عَلَى ما تراها إلى اليوم.

أما نشأَة الآداب والعلوم فلكل منها تاريخ ويقال على الجملة أن اللغة الفرنسوية هي بنت اللغة اللاتينية تكوّنت عَلَى صورة غريبة إلى أن وصلت في عشرين قرناً إلى حالتها وكانت أدبياتهم دينية لأول أمرها وبعضها شعري ونثري وأكثرها خرافي ولم تخلص اللغة من القيود العائقة إلا في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. وتاريخ العلم ونشؤُه فيها طويل كتاريخ الأدب ويقال على الجملة فيه أن مرسيليا كانت مدة قرون منبعث العلم الوحيد في بلاد غاليا واشتهرت مدرستها كما اشتهرت كليات آثينا وكلية الإسكندرية وكان بيتياس أحد أبنائها الذي ولد نحو سنة 830 قبل المسيح لا يقل عن أعاظم الفلكيين في القديم وكانت بيوت العلم تفتح عَلَى العهد الروماني في البلاد المهمة والتعليم فيها عبارة عن مباديء عملية من الحساب والمساحة والبناء ثم جاء دور الانحطاط التام فأصيب الغرب بغارات البربر ولم تخرج فرنسا من ظلماتها الفكرية إلا بعد ثمانية قرون بفضل العرب وبينما كان التمدن الإسلامي بالغاً أوجه كانت العلوم منحطة كل الانحطاط في أرض فرنسا. ولم ينتشر الطب والصيدلة في فرنسا إلا بمساعي أطباء اليهود الذين طردهم المسلمون من آسيا الصغرى في القرن الحادي عشر فاعتصموا باسبانيا أولاً ثم بإقليم لانكدوك حيث أَسسوا عدة مدارس ومن جملتها مدرسة مونبليه. وهذا كان مبدأَ انتشار العلم في هذه الأرض. فمن العرب أخذ الفرنسيس فيما مضى حضارتهم ونحن العرب اليوم نأخذ عنهم وندهش بحضارتهم فسبحان المعز المذل القابض الباسط.

الصحافة الباريزية

25

نشأت الصحافة هنا في مبدأ أمرها بنشر أخبار الملوك والوزارت والموظفين والحروب والدول ثم ارتقت بارتقاءِ المدارك إلى أن صارت تلم بمعظم الموضوعات التي تهم القراء وتعلمهم وعلى عهد الثورة اشتد ولوع الناس بالاطلاع على الحوادث والآراء السياسية وإلى هذا العهد ظلَّ الصحافي في وراء منضدته يكتب ليفيد مثل الأستاذ عَلَى منبره والواعظ في معبده لا يقصد إلا تثقيف عقل وتربية النفس.

ولما تكالبت النفوس على المال واتسع للصحافة المجال بكثرة المواصلات والبرقيات وأخذت التجارة ترقى دخلت الصحافة في طور جديد فبعد أن كانت هي خادمة لتجارة أصبحت هي بنفسها تجارة لا يقصد منها إلا الربح وأول من أنزل أجور اشتراكاتها إميل جيراردين مؤسس جريدة لابريس سنة 1836 من 80 أو 66 فرنكاً قيمة الاشتراك بالجرائد الكبرى إلى 40 فرنكاً وهي قيمة زهيدة لا تعادل النفقات أنزلها ليكثر قراؤها وإذا كثر قراء جريدة أقبل الناس عليها بإعلاناتهم ومنشوراتهم فاستطاعت بعض الصحف أن تعيش مستقلة عن معونة الأفراد والحكومة والأحزاب.

ولكن هذا الاستقلال وإن لم يكتب لها كلها إلا أن سعيها وراء الإعلانات وخدمة الشركات والبيوت المالية قيدها أكثر من قبل بل أخرجها عن المقصد منها حتى صارت العشرون الجريدة الكبرى الباريزية اليوم عبارة عن سمسار لا يهمه إلا أن يقبض العمالة من البائع والشاري وغدت الجريدة من مقالتها الافتتاحية إلى أنبائها البرقية فرفرف قصصها وتقاريظ الكتب والحوادث الداخلية والخارجية والأنباء المنوعة والمقالات الأدبية والاقتصادية والسياسية والإعلانات والمنشورات وغير ذلك مما تخوض الصحف عبابه مثل أخبار دور التمثيل والرياضيات البدنية والسباق لا ينشر منها اسم ولا سطر إلا قبل أن يذهب صاحبه الذي يهمه وينقد أمين صندوق الجريدة مبلغاً معلوماً عنه وعند ذلك ينشر له من الأفكار والمحامد ما يشاء وتشاء الأهواء.

فإن كتبياً أو طابعاً لا يقدر أن ينشر كتاباً طبعه إلا إذا انتقده كاتب أو عالم كبير وهذا إذا فرض أنه رضي بأن يخدمه بالمجان يسأَله مدير الجريدة عن ربح الإدارة من ذلك. فمقالة في تقريظ كتاب قد تكلف الطابع ألفي فرنك يأخذ نصفها كاتبها الموقعة باسمه والنصف الآخر مدير الجريدة ومثل ذلك يتناولون من المصورين والموسيقيين والممثلين والراقصات والعقيلات والآنسات والأعاظم والأصاغر لا تدون أسماؤهم بالطبع قبل أن يرشوا إدارة الجريدة بمال ترتضيه وكل ما تراه من أخبار الدعوات والرياضيات والمآدب ووصف الأزياء مع بائعات الزهور والجوهريين والخياطات والخياطيين يدفعه أرباب المأدبة وتجار هذه الأصناف بل أن أخبار الأعراس والأفراح وأخبار المناعي والأموات لا تكتب إلا لمن تؤخذ منه أجرتها والأعمال الأدبية مهما بلغ من مكانتها لا تذكر بكلمة قبل أن يدفع صاحبها جعالة لقاءَ ذكر اسمه وهناك الماليون وأرباب التجارة يريدون أن يعبثوا بحوالة الأسواق ويعرفون أن السياسة تؤثر كثيراً في أعمالهم فيعمدون إلى ابتياع الجرائد لتكتب في السياسة عَلَى هواهم فيرفعون الأسعار يوم يريدون الرفع ويخفضونها كذلك بمالهم بواسطة هذه الجريدة من التأثير في الأفكار العامة ومنهم من يبتاع من الجرائد كلامها كما يبتاع منها سكوتها فدار اللعب في إمارة موناكو تدفع مشاهرات إلى جميع الصحف الكبرى لتسكت عما يحدث فيها من ضروب الانتحار والخراب والنجائع التي تنشأ من المقامرة كما تدفع مبالغ جسيمة أيضاً في أوقات معينة لتأخذ الصحف في حمد مرافق مونتكارلو ونزلها ودور تمثيلها وسواحلها وصفاء العيش فيها.

وإن أعظم علماء الاقتصاد لا تنتشر له مقالة في موضوع مالي قبل أن يوافق عليها المصرف الذي ابتاع من تلك الجريدة روحها المالية ليصرفها كما يشاءُ وبعد حادثة بناما التي ظهرت فيها رشاوي الصحف الإفرنسية لم يعد يقدر الإنسان أن يقرأَ سطراً في شأن مالي في جرائدهم إلا ويشك فيه.

وهكذا أصبحت الصحافة الباريزية مقيدة في صورة حرة مطلقة ففي وسعها أن تصرب في كل ما تريد وتنزع كل أَساس وتهاجم كل موضوع وتغتاب كل امريءٍ وتنم عن كل عمل وتفتات عَلَى كل فرد ولا يحظر عليها إلا شيءٌ واحد وهو أن تكشف الغطاء عن الأسرار المالية فإذا فعلت يحكم عَلَى الكاتب والناشر والجريدة بأشد عقوبات العطل والضرر وكذلك إذا دلت عَلَى الطرق الاحتيالية التي يعيش بها المحل الفلاني منذ سنين.

وعَلَى ذلك فالجرائد هنا يجب أن لا تقرأ إلا بحذر شديد حتى مقالات لها في الكيمياء أو التاريخ فإنها لا تنشرها إلا ولها منها مآرب يظهر بعد أعمدة من نفس العدد أو في عدد تال. وخف كل الخوف من الصحف التي تخدم الأحزاب جهازاً فإن هذه تقلب الحقائق الناصعة وتجسم الحوادث أو تضعفها بحسب هواها وتستعمل من السفسطة ما يضحك ويبكي.

فكأن الصحافة الباريزية جعلت لقلب الحقائق لا لقدر أن تسقط فيها عَلَى حقيقة خالصة من الشوائب فهي تزيد إلى ضعف البشر الطبيعي وغلطهم وخطأهم أموراً تأتيها بذاتها بالقصد لتحريف الحق وتشويهه فمنها ما يخضع لحكومة في كل ما يكتب ومنها ما يخضع للأحزاب وكلهم خاضعون لزبنهم وكثير منهم يقولون كل ما يريدون عَلَى شرط أن يحسن المرءُ دفع المطلوب منه. فقد قيل أن الرياء تكريم الرذيلة للفضيلة والصحف الفرنسوية تكرم الحقيقة من هذا النوع أي أنها هي الرذيلة.

هذا ما اقتبسته من فكر الكاتب الفرنسوي في هذا الباب وصاحب الدار أدرى بالذي فيه وقد أجمع العقلاء الذين لقيتهم من أهل العلم والمطبوعات وغيرهم عَلَى أن الصحافة الفرنسوية كلها ترتشي وتلفق في أحاديثها وتكذب في رواياتها ما عدا جريدة لاومانيته أي الإنسانية وهي لجوريس أحد زعماء الاشتراكيين تعيش من وارداتها الشرعية ولا تسفّ لتناول رشوة من أحد وإن الصحافة الإنكليزية أشرف غاية وأنبل قصداً وأكثر مادة وأوسع مصادر أما أنا فعللت هذا التصريح من أصدقائي الفرنسويين بأن إنكلترا هي أرقى الأمم بأخلاقها والأخلاق هي معيار الأمم والجرائد مرآتها.

ومن الصحف الباريزية ما يصدر صباحاً وأكثرها جرائد لا تهتم بالمسائل السياسية بل بالأمور المالية والحركة الأدبية كدور التمثيل والخطب وغيرها أما جرائد المساء فأكثرها يهتم بالسياسة فالطان والديبا من الجرائد المسائية والجورنال والماتين والبتي باريزين والبتي جورنال من الجرائد الصباحية والجرائد طبقتان قسم لعامة القراء وهي التي ينادي عليها المنادون في الشوارع بأعلى أصواتهم وتباع في كل مكان فيقرأها البواب والحوذي والمساح والكساح وسائق الأتوموبيل والشرطي والمرتزق وبعض التجار وذلك ككثير الجرائد الصباحية وقسم للطبقة العالية وأبحاثها لهم بالطبع مثل الطان والديبا والغولوا والفيغارو وهذه لا ينادى عليها وتباع بثمن أغلى فالطان يبتاع عددها بثلاثة فلوس أو خمسة عشر سنتيماً في حين تباع تلك الجرائد العامية بفلس واحد وهي أكبر حجماً وأوسع مادة من هذه ولكن شتان بين مادة ومادة وحجم وحجم.

وجريدة الطان هي الجريدة الوحيدة التي تعنى كثيراً بأخبارها هذا الشرق الأدنى خاصة والسياسة الشرقية عامة وهي جريدة وزارية تقدس كل وزارة تأْتي وهذه بالطبع تعطيها أخباراً وربما أمدتها بمعونة مالية وهي لا تذيل المقالات السياسية والإخبارية بأسماء كتابها على عادة معظم الجرائد السياسية وبذلك قد يقع لها أن تؤيد اليوم في مقالتها الأولى فكراً مخصوصاً ثم يجيءُ كاتب آخر من الغد في نفس ذاك المكان من الجريدة فيضعف ذاك الرأْي بعينه وينتقده. وأعرف الجرائد بالشرق عَلَى التحقيق هي هذه وربما كانت جريدة الإيكو دي باري من جرائد الصباح أكثر منها مادة برقية إخبارية عنه بدون تعليق على الحوادث. ومقالات الطان عن السياسة الشرقية تتناقل لأنها أقرب إلى الثقة والتعقل من غيرها ومع هذا تؤخذ بكل حذرٍ شأننا مع عامة الصحف الإفرنجية التي تقول الحق ولكن إذا صادف هوى لها وهيهات أن تقوله بدون عوض. ولقد كنت أظن جريدة الديبا وحدها ترتشي من السلطان عبد الحميد المخلوع ولكن علمت هنا أن الطان أيضاً عَلَى ما فيها من الغمز واللمز بالدولة كانت لا تستنكف من قبض الخمسة آلاف ليرة من أعوان ذاك السلطان لتكتب على هواه يوماً لعلم المخلوع بمكانة أقوالها في الأندية السياسية.

وأنواع الجرائد هنا كثيرة ومنها اليومي الذي لا يكتب إلا في موضوع واحد مثل جريدة كوميديا وهي تبحث في دور التمثيل والقصص التمثيلية والفاجعات وغيرها ومنها جرائد للسباق مثل جريدة الأوتو وهي لنشر أخبار سباق الحوافل الأتوموبيل وغيرها من أنواع السباق ومن جرائدهم ما هو خاص بتأجير الأملاك والعقارات ومنها الخاص بطلاب الزواج وطالباته ومنها للأزياء وأخرى للعطور والطيوب ومنها للأخبار الخلاعية ولكنها مقصورة على طبقة خاصة تطبع سراً وتوزع كذلك وإذا رآها الشرطة صادروها وأنزلوا العقوبة الشديدة بكاتبها وبائعها ومشتريها.

أما تنظيم إدارات الجرائد الكبرى فهو الغاية ولا سيما الأمهات منها مثل الماتين وهي في أعظم جادة وبنايتها أجمل بناية وآلاتها الطابعة أحسن الآلات فيها اثنتا عشرة واحدة تطبع الواحدة مئة ألف نسخة في الساعة زرتها مع زهاء سبعين رجلاً وامرأَة رأيتهم سبقوني إلى زيارتها فما رأَيت نظاماً أتم ولا استعداداً استوفى من الكمال أوفى القسم ومن أحسن ما قرأته. مما كتب فوق غرف المحررين خلق المحرر ليكتب فلا تشغله فيما لا يعنيه وزرت أيضاً إدارة البتي باريزين وهي دونها في الاستعداد وإن لم تكن دونها في الانتشار والنفاد.