انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 34/الرومان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 34/الرومان

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 11 - 1908



فتح حوض البحر المتوسط

صبغة السياسة الرومانية: لم يخطر للرومان أن يفتحوا العالم أولاً حتى أنهم تمهلوا بعد أن بسطوا حكمهم على إيطاليا وقرطاجنة مدة مئة سنة قبل أن يخضعوا الشرق إلى سلطانهم والظاهر أنهم فتحوا فتوحاتهم دون أن يختطوا لها خطة من قبل لأن مصلحتهم كلهم كانت بأن يفتحوا الفتوح ويدوخوا الممالك.

فكان يرى الحكام وهم قواد الجيوش من الفتوحات فرصة لنيل علائم التشريف بالظفر الذي يكتب لهم ويكونون على ثقة من الاشتهار بين أمتهم والتأثير فيها. وكان أعظم رجال الحكومة في رومية مثل بابيرويوس وفابيوس وسيبيون الأول والثاني وكانوا من القواد الذين فتحوا الفتوح وكتب الظفر لأعلامهم ويربح الأشراف الذين يتألف منهم مجلس الشيوخ إذا كثر سواد رعايا رومية فيذهبون كما يذهب الحكام لقبول احتراماتهم وهداياهم. وأما الفرسان أي الصيارف والتجار وأرباب المشاريع فإن كل فتح حديث كان لهم بمثابة مشروع جديد يستثمرونه.

والأمة نفسها تنتفع من الغنائم التي تؤخذ من العدو وقد رفعت الضرائب بصورة دائمية بعد أن دخلت خزانة الدولة الرومانية كنور ملك مكدونية. أما الجنود فكانوا يقبضون رواتب عالية من قوادهم وقد أخذوا يحاربون البلاد الغنية دع عنك ما كانوا يمدون إليه أيديهم من مال المغلوبين. وعلى هذا فقد فتح الرومان العالم للفوائد المادية أكثر من المجد.

قرطاجنة: لما امتد سلطان روية إلى جزيرة صقلية حملت على قرطاجنة وعندئذ بدأت الحروب الفينيفية فحدثت ثلاثة حروب فكانت الحرب الأولى من سنة 264 ـ 241 حرباً بحرية ولا نعرف عنها شيئاً إلا ما روته الأساطير بعد زمن من حدوثها. فذكروا أن الرومانيين لم يملكوا سفناً حربية قط وأنهم جعلوا سفنهم على مثال سفينة قرطاجنة وقامت بالعرض على الشاطئ فأخذوا يمرنون فجذفيهم على استعمال المجاذيف في اليابسة هذه القصة لا أساس لها لأن بحرية رومية قديمة أما الرومان فقد نقلوا أخبار هذه الحرب كما يلي: غلب القنصل دوبليوس الأسطول القرطاجني في ميلي (260) وكان نزل إلى أفريقيا من البحر جيش روماني على عهد الحاكم رجولوس فغلب وتمزق شذر مذر (255) وأش رجولوس وأرسل إلى رومية ليعقد الصلح وقرر مجلس الشيوخ إباء الصلح فرجع هذا إلى قرطاجنة حيث قضى نحبه في العذاب ثم حمي وطيس الحرب في صقلية فكتبت الغلبة للأسطول القرطاجني أولاً (249) ثم دمر بالقرب من جزائر إيغات (241) وبعد ذلك حوصر هامليكار في جبل أركيس فوقع على الصلح ودخلت صقلية في حوزة رومية.

ونشبت الحرب الثانية من سنة (218 ـ 201) وكان قائدها هنيبال من نسل الأسرة القرطاجنية صاحبة الحول والسطوة في بادكاس وكان قاد أبوه هاميلكار إلى صقلية جيشاً قرطاجنياً في الحرب الفينيقية الأولى ثم عهد إليه أن يفتح أسبانيا وكان هانيبال إذ ذاك طفلاً فصحبه أبوه. وكانت العادة أن تقدم الضحايا للأرباب عندما يغادر الجيش البلاد ويقال أن هاكليكار بعد تقديم الضحايا حلف ابنه أن يكون أبداً عدواً أزرق للرومان.

ربي هانيبال وسط الجند فأصبح أحسن قائد وأمهر راجل في حرب. ولم يكن يعرف من الحياة إلا أنه محارب وكانت عنايته منصرفة إلى تعهد حصانه وأسلحته واشتهر أمره كثيراً حتى إذا هلك القائد اسدروبال الذي كان يقود الجيش الإسباني انتخبوه قائداً عليهم دون أن ينتظروا أوامر مجلس الأعيان القرطاجني في ذلك، وهكذا أصبح هانيبال في الحادية والعشرين من عمره قائد جيش لا يطاع أحد سواه فدخل غمار الحروب على الرقم من مجلس الشيوخ في قرطاجنة وراح يحاصر ساغونت حليفة رومية فاستولى عليها وخربها.

ومما كتب به المجد لهانيبال أنه عوضاً عن أن ينتظر الرومانيين جرأ على أن يقتحمهم في عقر دارهم في بلاد إيطاليا ولم يكن له أسطول يحمله وجيشه إليهم فعزم على اجتياز البلاد إليهم فقطع جبال البيرنيه ونهر الرون وجبال الألب وضمن لنفسه محالفة الشعوب الغالية وقطع جبال البيرنيه دون أن يلقى فيها مقاومة في جيش مؤلف من ستين ألف مقاتل من الجنود المستأجرة من الفريقيين والأسبانيين ومعه سبعة وثلاثون فيلاً مدربة على الحرب وقد طمع بع الشعب الغالي أن يحولوا بينه وبين المسير في نهر الرون فأرسل فرقة من جيشه تقطع النهر على مسافة بضعة أميال من أعلاه وتهاجم الغاليين من ورائهم على حين يجتاز معظم جيشه النهر على زوارق وتجر الفيلة على أرماث كبيرة. ثم صعد وادي أيزر وانتهى إلى جبال الألب في أواخر شهر تشرين الأول (أكتوبر) فقطعها على ما كانت مغشاة به من الثلوج وعلى الرغم من غارة السكان الجلبليين عليه فوقع الكثير من الرجال والخيول في الهاويات. وقضى تسعة أيام لبلوغ قمة جبل الألب وصعب عليه النزول لأن المضيق الذي كان يجب عليهم السير فيه غطته الثلوج فاقتضى لجيشه أن يتخذ له طريقاً يحفره في الصخر ولم يصل إلى السهل إلا وقد أصبح جيشه نصف ما كان. ثم لقي هانيبال ثلاثة جيوش رومانية في مسافة متدانية على شاطئ نهر تيسين وضفة نهر ترييا بالقرب من بحيرة ترازيمين في أوترويا فهزمها كلها وكان كلما تقدم إلى الأمام يزداد جيشه وينضم المحاربون من الغاليين (إيطاليا الشمالية) تحت لوائه ليخدموه وينصروه على الرومانيين.

فاجتاز هانيبال إيطاليا واتخذ لنزوله إقليم أيوليا في الجهة الثانية لرومية فهاجمه فيها الجيش الروماني. وكان جيشه نصف جيش ولكن كان معه فرسانه الغريقيون يركبون خيولاً سريعة وقد رابط في سهل (كان) بحيث جعل الرومانيين يقابلون بوجوههم الشمس والتراب الذي تثيره الريح فأحاط الفرسان بالجيش الروماني إحاطة السوار بالمعصم وذبحوه عن آخره (216) وكان يظن أن هانيبال سيزحف على رومية إلا أنه لم يكن على تعبية تامة. وهكذا ظل هانيبال في إيطاليا الجنوبية تسع سنين يحاول أن يفصل عن رومية الشعوب المحالفة لها ولم ينجح إلا بالاستيلاء على بضع مدن حاصرها الرومان وخربوها.

وبعد ذلك سافر أخور أسدروبال في جيش أسبانيا للالتحاق به فوصل إلى أوساط بلاد إيطاليا فسار الجيشان القرطاجنيان أحدهما على الآخر يقابل كلاً منهما جيش روماني بقيادة أحد حكام الرومان وكان نيرون محاذياً لهانيبال فجرأ على قطع إيطاليا الوسطى لينضم إلى رصيفه مقابل أسدروبال. ولقد سمع أسدروبال في صبيحة ذات يوم الأبواق تبوق مرتين في المعسكر الروماني وكان في ذلك إشارة إلى أنه كان في المعسكر قنصلان أو حاكمان فوقع في نفسه أن أخاه غلب وانهزم وأن الرومان يطاردونه وأنه قتل وذبح جيشه عن بكرة أبيه ثم رجع نيرون إلى الجيش الذي غادره أمام هانيبال وألقى في معسكر قرطاجنة رأس أسدروبال (207) فلم يبق لهانيبال غير قوته يعتصم بها وأقام خمس سنين في إقليم كالابرا وما أكره على الخروج من إيطاليا إلا لما علم أن جيشاً رومانياً كان نزل إلى أفريقية وأخذ يهدد قرطاجنة فذبح هانيبال الجند الإيطالي الذي أبى الالتحاق به وركب البحر إلى أفريقية (203) وانتهت الحرب بواقعة زاما (203) وكان هانيبال اعتمد بحسب عادته أن يسوق الجيش الروماني إلى الدخول في صفوفه ولكن القائد الروماني سبيون ثبت مع جيشه وما طكانت إلا هجمة وأختها حتى ركب هذا أكتاف عدوه وهزم جيشه شر هزيمة.

فاضطرت قرطاجنة إلى عقد الصلح وتنازلت عن كل ما تملكه خارج أفريقية وتركت أسبانيا للرومانيين. واضطرت زيادة على ذلك إلى تسليم سفنها وفيلتها وأن تدفع مبلغاً من المال يربو عن خمسين مليوناً من الفرنكات وتعهدت بأن لا تعلن حرباً قبل الاستئذان من رومية وكانت عاقبة الحرب الثالثة من سنة 149 إلى 146 القضاء على قرطاجنة فطال حصار الرومان كثيراً لها حتى أخذوها عنوة وجعلوا عاليها سافلها وفتحوا إقليمها وأعمالها وجعلوها ولاية أفريقية خاضعة لسلطانهم.

مكدونية والشرق: كان ملوك اليونان أخلاف قواد الاسكندر اقتسموا الشرق وحارب أعظهم سطوة مملكة رومية وغلبوا مثل ملك مكدونية فيليب سنة 197 وابنه برسي سنة 168 وملك سورية أنطيوشوس سنة 190 وهكذا خلا الجو للرومانيين فأخذوا يفتحون البلاد التي يرونها تناسبهم واحدة بعد أخرى فافتتحوا مكدونية سنة 148 ومملكة فرغانة 129 وبقية آسيا من سنة 74 إلى 64 بعد هزيمة ميترايداتس ومصر 30 وما عدا مكدونية لم يندب الشرق لقتالهم غير جنود مستأجرة أو برابرة غير منظمين يتفرقون أيدي سيا لأول صدمة يلقونها. ولم يقتل في الغلبة العظمى على أنطيوشوس في مانيزيا سوى 350 جندياً رومانياً وافتخر سيللا بأنه لم يفقد من جيشه في شيرونيا سوى اثني عشر جندياً.

ودخل الرعب قلوب سائر الملوك فخضعوا لسلطان مجلس الشيوخ من دون مقاومة فإن أنطيوشوس العظيم ملك سورية بعد أن فتح جزء من ديار مصر جاءه بوبيليوس مندوباً من قبل مجلس الشيوخ يأمره بالجلاء عما بسط يده عليه من البلاد فتردد أنطيوشوس وكان بيد بوبيليوس مجنة فاختط بها في الأرض خطوطاً حول ملك سوريا وقال له أجب مجلس الشيوخ قبل أن تخرج من هذه الدائرة التي رسمها لك. فلم يسمع أنطيوشوس إلا الخضوع وألقى حبل مصر على غاربها وجاء بروزياس ملك بيتنيا وقد حلق رأسه ولبس ثياب العبد المطلق وركع أمام مجلس الشيوخ الروماني. وحاول ميترايدتس ملك بون أن يقاوم وحده فطرد من بلاده بعد حرب خمس وعشرين سنة (63 ـ 89) واضطر إلى أن يتناول السم ويقول بيدي لا بيد عمرو.

إسبانيا وغاليا الجنوبية: لم يستطع الرومان أن يتغلبوا على الشعوب البربرية والمحاربين في الغرب بأدني سبب كما تغلبوا على غيرهم فقضوا قرناً لإخضاع إسبانيا لسلطانهم. وقد ناوشهم الحرب في جبال البرتقال رجل من الرعاة اسمه فيرياث (149 ـ 139) وهزم خمسة جيوش وأكره أحد قناصل الرومان على عقد الصلح معه ولم يتخلص مجلس الشيوخ من شره إلا بقتله. وأهلك الأريفاكيون وهم شعب صغير في الشمال الشرقي عدة جيوش رومانية واقتضى لرومية أن ترسل أحد قوادها سبيون للاستيلاء على عاصمة تلك البلاد وهي المدينة الصغرى المسماة نومانس. وكانت الشعوب الصغيرة الخاملة في صيتها المعتصمة في جبال جين كثيراً ما تناوش الرومانيين القتال. وكان الغاليون أشد الأعداء على رومية وهم منتشرون في جميع سهل بو ويزحفون على إيطاليا الجنوبية وقد استولت إحدى عصاباتهم على رومية سنة 390 فكان جندهم يدخل الذعر في قلوب الجند الروماني بأجسامهم الضخمة البيضاء وسبلاتهم الطويلة الشقراء وعيونهم الزرقاء وأصواتهم التي تعج فيبلغ صداها عنان السماء. والخوف يستولي على رومية عندما يبلغها مجيء العسكر الغالي فيصدر مجلس الشيوخ أمره بجمع عامة الجند.

وكانت هذه الحروب شديدة جداً ولكنها تضع أوزارها في الحال ففي الحرب الأولى استولى الرومان على إقليم غاليا المعروف بسيزالبين أي إيطاليا الشمالية ونشبت الحرب الثانية (120) للدفاع عن مارسيليا حليفة رومية فدمر الجيش الغالي وأخضعت رومية بلاد الرون وشاطيء البحر الرومي (إقليم لانكدوك وبروفانس ودوفينه)

عواقب الفتوح

سريان الإصطلاحات اليونانية: إن الفتوح هي التي دعت الرومان إلى رؤية الروم والمشارقة عن أمم فاستوطن رومية ألوف من اليونان جاؤوها أسرى أو للإتجار وتعاطى بعضهم الطب وآخرون التعليم وغيرهم العرافة وغيرهم التمثيل. وكان القواد والضباط والجنود الرومانيون يعيشون في آسيا وسط الشعوب التي تتكلم اليونانية فتخلقوا بأخلاق اليونان وهكذا عرف الرومان عادات حديثة ومعتقدات جديدة لم يكن لهم عهد بها وأخذوا يعملون بها على التدريج وقد بدأ هذا التبدل بعد الحرب المكدونية الأولى (200) ودام إلى أواخر المملكة الرومانية.

القائدان كاتون وسيبون: بينا كانت الأخلاق تتغير اشتهر أحد رجالهم كاتون باحتفاظه بعادات أسلافه. ولد هذا الرجل سنة 252 في بلدة توسكولوم وقضى شبيبته في الحرث والكرث وفي السابعة عشرة من سنه دخل في الجيش بحسب العادة المتبعة واشترك في عامة الحملات على هانيبال. ولم يكن من الأشراف ولكنه اشتهر بقوته واستقامته وزهده وقد انتخب مرات وزيراً للمالية وناظراً للأبنية والملاعب وقاضياً وقنصلاً ووكيلاً للإحساء وشغل مناصب الشرف عامة وكان في جميع حالاته على قدم قدماء الرومان قاسياً جافاً محتشماً وقد وبخ قنصله عندما كان وزيراً للمالية وكان القنصل سبيون غالب هانيبال فأجابه لست في حاجة إلى ناظر مدقق مثلك إلى هذا الحد. ولما عين ناظراً للأبنية والملاعب في ساردينيا أبى أن يمس المال الذي دفعته إليه تلك الولاية للنفقة. ولما صار قنصلاًَ تكلم بشدة عن قانون أوبيا القاضي بالحظر على النساء الرومانيات بأن لا يتزين بالحلي الثمينة فظفر النساء بمطلبهن وألغي ذلك القانون. ولما ذهب لقيلدة الجيش الروماني في إسبانيا أتى بأموال طائلة ودفعها إلى خزانة الإمبراطورية وباع حصانه عندما ركب البحر ليقتصد في نفقات نقله ولما عين وكيلاً للإحصاء أسقط من قائمة مجلس الشيوخ عهدة من الأعاظم لما عرفوا به من الترف والبذخ وأحال جباية الأموال الأميرية بثمن عال وقدر حلي النساء وزينتهن وعرباتهن بعشرة أضعاف ما تساوي وبعد أن خفقت له أعلام النصر لم يستنكف من الخدمة في الجيش الروماني ضابطاً بسيطاً.

صرف كاتون حياته في مناهضة الأشراف والبغض من بذخهم وترفهم وتجملهم وحمل خاصة على أمثال القائد سبيون متهماً إياه بالاختلاس إلا أنه لم ينج هو أيضاً من إلصاق التهم به فاتهم أربعاً واربعين مرة ولكنه كان يبرأ كلما اتهم. وكان يحرث أرضه مع عبيده ويواكلهم ويضربهم بالعصي منى رآهم يحيدون عن جادة الصواب وقد ذكر في رسالته في الزراعة التي كتبها إلى ابنه جميع ما كان يأتي الفلاحين الرومانيين من الإيرادات ويرى أن من الواجب على المرء أن يغتني وكان يقول: للأرملة أن تصرف من مالها وعلى الرجل أن يزيد وكل من شهدت دفاتر حساباته بعد موته بأنه ربح أكثر مما ورث جدير بالشهرة وملهم من الأرباب ولما رأى أن الزراعة لا تأتيه بأرباح طائلة أخذ يقرض ماله ليجهز به سفناً تجارية واتخذ له خمسين شريكاً جهزوا كلهم معاً خمسين سفينة ليتقاسموا بينهم الأخطار التي تنال سفنهم والأرباح التي تأتيهم بها. وعلى هذا كان كاتون زارعاً ماهراً وجندياً عظيماً عدواً للبذخ حريصاً على الكسب فهو مثال الروماني الأصيل وأنموذج الفضيلة والثبات.

وعلى العكس منه كان القائد سبيون مثالاً للاهتمام بالفنون والأفكار الفلسفية وهو صديق المؤرخ اليوناني بوليب الذي أمسك رهينة في رومية. ولم يكن يهتم بجمع المال وقد دفع إلى شقيقاته دفعة واحدة من المال كان عليه أن لا يدفعه إليهن إلا في أوقات مختلفة وتنازل لأخيه وكان أقل منه مالاً عن حصته في إرث أبيه ولم يخلف سوى كمية قليلة جداً من الأواني الذهبية والفضية.

الأخلاق القديمة: مضى زمن طويل على قدماء الرومانيين وهم يتوفرون على زرع حقولهم وقتال عدوهم والقيام بفرائض دينهم حتى كانوا حقاً الريفيين العاملين والجفاة. فكانوا يزرعون جانباً صغيراً منن إقليم لاتيوم ولاسابين وهم من نسل اللاتين والإيطاليين الذين تغلبت عليهم رومية وقد صور لنا الشيخ كاتون في كتاب له في الزراعة شيئاً من أخلاقهم بقوله: كان أجدادنا إذا أرادوا الثناء على رجل يصفونه بأنه زارع ماهر وحراث مجيد وهذا غاية ما يمدح به الإنسان.

فكان هؤلاء الزراع أشداء في أعمالهم وأهل طمع في مكاسبهم وتنظيم في شؤونهم واقتصاد في نفقاتهم وبذلك كانوا قوة الجيوش الرومانية. ولطالما تألف منهم مجلس الأمة أيضاً وكانت لهم القوة العظمى في الانتخابات. . فيجيء الأشراف الذين يطمعون في أن ينتخبوا حكاماً إلى ساحة السوق ليهزوا أيدي هؤلاء الفلاحين. رأى أحد المرشحين أنفسهم للانتخابات يد أحد الزراعين وهي شثنة غليظة فسأله: هل تمشي على يديك؟ وكان السائل من الأشراف ينتسب إلى أسرة كبيرو ولكنه لم ينتخب.

سكن الرومان بيوتاً ضيقة ذات طبقة واحدة لا نظام في بنائها وكان الأتريوم أهم ناحية من الدار وفيه المكان المقدس وهو مكشوف من أعلاه ينزل منه ماء المطر. والأثاث عبارة عن بضعة صناديق ومقاعد من الخشب. طعامه بسيط مؤلف خاصة من حساء معمول بالبر ومن خبز وبعض بقول وما كانوا يتناولون اللحم إلا في الأعياد وما شرب النساء الخمر قط والرجال يتناولون منه على الندرة. ولباسهم عبارة عن قميص يلبسون فوقه رداء من صوف زمن البرد. ويلبس الوطنيون في أيام الأعياد حلة من الصوف مزينة من جهة العنق ويلبسون في أرجلهم نعالاً منوطة بسيور. ويقضون حياتهم في التوفر على أعمالهم فالرجال يصطادون دون أن يحرثوا أو النساء يغزلن الصوف وينسجن الأقمشة ويطحن الحبوب ليجعلنها براً. ولم يكن للرومانيين من ضروب التسلية إلا أن يذهبوا كل تسعة أيام إلى السوق أو يحضروا الأعياد التي تقام إكراماً للأرباب.

كان يرى قدماء الرومان أن الرجل الشديد هو غاية ما تطمح إليه الآمال ويقال أن سينسيناتوس كان يسوق محراثه بنفسه عندما أتاه نواب الأمة من قبل مجلس الشيوخ يدفعون إليه الأمر بتنصيبه. ولم يكن عند فابريسيوس من الأواني غير كأس ومملحة من فضة. وكان كوريوس وأنتاتوس وهو غالب السامنتيين جالساً على مقعد يأكل بقولاً في قصعة من خشب عندما أتاه مندوبو السامنتيين ليقدموا له المال فقال لهم: اذهبوا وقولوا للسامنتيين أن كوريوس يؤثر أن يقود من عندهم ذهب أكثر مما يؤثر أن يكون هو مالكاً له. هذه هي بعض الأقاصيص التي يروونها عن قواد الأزمنة القديمة وسواء أكانت حقيقة أو ملفقة فإنها تدل على ما كان الرومانيون بعد يذهبون إليه بشأن قدماء أجدادهم.

الأخلاق الجديدة: أخذ كثير من الرومانيين بعد القرن الثاني ولاسيما طبقة الأشراف يقلدون الأجانب. وكان زعماؤهم قواداً رأوا بلاد اليونان والشرق عن أمم فكتبت الغلبة لسبيون على ملك سورية ولفلامنيوس وبولس أميل على ملوك مكدونية ثم للوكلوس على ملك أرمينية. فعزفت نفوسهم عن الحياة القاسية الصعبة التي كان عليها أجدادهم وأخذوا يسيرون في حياتهم على البذخ والرفاهية وما زال الحال كذلك حتى نسج على منوالهم عامة النبلاء والأغنياء بحيث لم يطلع فجر القرن الأول حتى لم يعد في إيطاليا إلا سادة عظام يعيشون المعيشة الشرقية أو اليونانية.

يرى الشرقيون من دواعي العجب أن يعرضوا للأنظار الأقمشة البديعة والأحجار الكريمة وأثاث الفضة وأواني الذهب وأن يستكثروا في بيوتهم من الخدم على غير طائل وأن ينشروا على الشعب المجتمع دراهم ليدهشوهم فكانوا يرغبون في الأعلاق النفيسة النادرة أكثر من رغبتهم في النفائس الجميلة المناسبة.

وأصبح للرومان على شدة عجبهم وضعف استعدادهم في الصناعات ذوق في هذا الضرب من البذخ فكانوا قلما يحفلون بالجمال أو بالموافق ولم يعرفوا قط إلا الأبهة والفخفخة فأنشؤوا لهم بيوتاً ذات حدائق واسعة وحشروا إليها التماثيل وأقاموا فيها المصايف الزاهية التي تمتد إلى البحر وسط الحدائق المتسعة واستكثروا من الخدم والحشم وأخذوا هم ونساؤهم يعتاضون عن ألبستهم المعمولة من الصوف بالشفوف (بزنجك ـ أكريشة) وأكسية الحرير والقصب. ويفرشون في ولائمهم بسطاً مطرزة ودثارات من الأرجوان وأواني من ذهب وفضة (وكان عند الحاكم سيللا مئة وخمسون صحفة من الفضة ووزن ما عند ماركوس وروزوس من الأواني الفضية عشرة آلاف ليرة وإذا ظل العامة يأكلون قعوداً بحسب عادة الشعوب الإيطالية القديمة فالخاصة من الأغنياء اتبعوا العادة الشرقية في الأكل مضطجعين على سررهم ثم سرت عادة التأنق في المآكل على الأسلوب الشرقي والاستكثار من المطاعم من الأباريز والصباغ (سلسا) والصيد والسمك الغريب ومخاخ الطواويس وألسنة الطيور.

واستحكم فيهم السرف حتى لقد مات أحد الحكام سنة 152 وقد ذكر في وصيته قوله لما لم يكن الإكرام الحقيقي عبارة عن أبهة باطلة بل هو لتذكر أقدار المتوفى وأجداده فأنا آمر أولادي أن لا ينفقوا على جنازتي أكثر من مليون آس (مئة ألف فرنك).

العلوم الأدبية اليونانية: رأى الرومانيون في بلاد اليونان المصانع والتماثيل والألواح التي كانت منذ قرون تغص بها المدن وعرفوا الأدباء والفلاسفة فصار لبعضهم ذوق في الصنائع النفيسة وأولع آخرون بالحياة العقلية فجعل أمثال القائد سبيون حولهم أناساً من اليونان المنورين ولم تطمح نفس بولس أميل من جميع الغنائم التي غنمها جيشه من مكدونية إلا إلى الاستيلاء على مملكة الملك برسي وعهد بتربية أولاده إلى أساتذة يونان وبذلك صارت الكتابة والتكلم باللغة اليونانية من الأمور المستحسنة في رومية. وأراد الأشراف أن يظهروا في مظهر العارفين بالتصوير والنقش فجلبوا بالألوف التماثيل وقلز كورنت المشهور وملؤوا بها بيوتهم. ودخل في ملك الحاكم فريس شيء كثير من النفائس والأعلاق جعلها في رواق وكانت مما نهبه من صقلية

وهكذا أخذ الرومان على التدريج من الفنون ظواهرها ومن الآداب اليونانية قشورها وسمي هذا التهذيب الجديد فن الأدب معارضة للخشونة التي كان عليها أهل الريف من الرومان ومع هذا لم تكن إلا قشوراً فقط فلم يعرف الرومان أن الجمال والحقيقة يرغب فيهما لذاتهما بل كانت الصناعات والعلوم عندهم أموراً يقصد بها الزينة والبذخ ليس إلا. ولم يكن الرومان على عهد شيشرون يعتبرون من أهل الأعمال غير الجندي والحراث والسياسي والناجر أو المحامي أما الكتابة والتأليف والاشتغال بالعلم والفلسفة والنقد فكل ذلك يسمى عندهم بطالة. وما قط أصاب أرباب الفنون والعلماء من الاعبار في رومية ما يسويهم بتاجر غني. قال لوسين أحد كتاب اليونان: متى صرت مثل فيدياس النقاش اليوناني تصنع ألف قطعة بديعة من النقوش لا يرغب أحد أن يتقبل مثالك لأنك مهما بلغت من الخدمة لا يطلق عليك إلا لقب صانع ولست إذ ذاك غير رجل يعيش بكد يمينه.

لوكلوس: ولد لوكلوس وهو مثال الروماني الحديث سنة 145 من أسرة شريفة وغنية جداً ولذا سهل دخوله في سلك أرباب المناصب والشرف واشتهر في غزواته الأولى بأنه يعطف على المغلوبين ويعاملهم باللطف ثم عين قنصلاً وقاد الجيش الذي انتدب لقتال ميترايدانس. وقد رأى سكان آسيا ساخطين من كثرة السرقة وفظاعة العشارين فعني بجعل حد لتلك الأعمال وحظر على جنده أن ينهبوا المدن المغلوبة وبذلك جلب لنفسه حب الآسياويين الباطل وبغض العشارين والجنو الخطر. فدست الدسائس لتستدعيه حكومته وكان قد هزم ميترايدانس وأخذ يطارده وهو سائر إلى حليفه ملك أرمينية وقد هزم جيشاً من البرابرة بجيشه الصغير المؤلف من عشرين ألف مقاتل فسلبت منه القيادة وسلمت إلى نديم العشارين وحبيبهم بومبي.

وإذ ذاك اعتزل لوكلوس الأعمال للاستمتاع بما جمعه في آسيا من الثروة وأصبح يملك في أحياء رومية حدائق غلبا وله في نابولي مصيف قام في البحر مبنياً بالحجر الصلد.

وفي توسلكولوم قصر صيفي وفيه متحف للأعلاق والنفائس فكان يقضي الصيف في توسكولوم بين أصحابه وجماعة العلماء وأهل الأدب يطالع مصنفات اليونان ويبحث في الأدب والفلسفة.

وتروى عن بذخه حكايات كثيرة منها أنه كان ذات يوم يتغدى وحده فرأى مائدته أكثر بساطة من العادة فوبخ الطاهي فاعتذر بقوله أن عدم وجود الضيوف هو الذي دعاه إلى تقليل المآكل فأجابه لوكلوس: أما علمت أن لوكلوس يتغذى اليوم عند لوكلوس؟ ودعا يوماً قيصر وشيشرون فقبلا دعوته على شرط أن لا يغير شيئاً من عادته فاكتفى لوكلوس بأن يقول لأحد الخجمة فقط اجعل الطعام في قاعة أبولون وكانت المأدبة على غاية من التأنق بحيث عجب منها المدعوان. ولما سئل عن إخلاله بشرط الضيافة قال أنه لم يأمر بشي وإن نفقات طعامه محددة بحسب القاعة التي تجعل فيها وإن بسط الموائد في قاعة أبولون لا يمكن أن يكلف أقل من خمسين ألف فرنك.

وظل لوكلوس في رومية ممثل الأخلاق الجديدة كما كان كاتون يمثل الأخلاق القديمة. ويرى قدماء الرومان أن كاتون هو الروماني الصالح وأن لوكلوس هو الروماني الفاسد ومع هذا فقد كان لوكلوس يبتعد عن عادة الأجداد ولذلك كان واسع المدارك حسن التربية لطيف المأتى مفطوراً على العطف على الخدم والرعايا.

الانقلاب الديني والعقلي

العبادات الجديدة: لم يكن بين أرباب الرومان وأرباب اليونان من الشبه حتى في الأسماء ومع هذا اعتقد اليونان بأن معظم الأرباب المعبودة في رومية كانت أربابهم أحبوا أن يعترفوا بأنها كذلك. وإلى ذاك العهد لم يكن للأرباب الرومانية شكل خاص ولا تاريخ معين وهذا ما دعا إلى الارتباك في حالتها فجرى تمثيل كل رب روماني على صورة رب يوناني واخترعوا له تاريخاً وحكايات.

فخلطوا بين المشتري اللاتيني وزيوس اليوناني وجونون مع هيرا ومنيرفا ربة الذاكرة مع بالاس ربة الحكمة وديان زوجة جانوس مع أرتيمس الصيادة البديعة وزجوا هركول رب السواد بهيراكليس الغالب على الغيلان. وهكذا دخلا المثولوجيا اليونانية تحت أسماء لاتينية واستحال أرباب رومية إلى أرباب اليونان. وامتزجت الأرباب بعضها ببعض حتى اعتدنا أن نطلق على الأرباب اليونانية أسماء لاتينية فلا نزال نقول أرتيمس ديان وبالاس منيرفا. وبالميثولوجيان اليونانية اعتاد الرومان أن يصوروا أربابهم في تماثيل كما اقتبسوا بعضاً من الاحتفالات اليونانية وكانت الحكومة الرومانية أدخلت إلى بلادها عبادة أبولون وبدأ بعض الأفراد يعبدون باخوس رب الكرمة. ويحتفل من يعبدون باخوس بعبادته في الليل سراً ولا يطلعون أحد على خفايا العبادة الباخوسية وأخذ المجلس يحقق فرأى المتعبدين بهذه العبادة سبعمائة شخص بين رجال ونساء اشتركوا معاً في هذه الأسرار فقضى عليهم بالموت.

ثم أن الرومان أخذوا أيضاً يعبدون ما يعبد شعوب الشرق فقد كان سنة 320 في رومية معبد للرب سبريبس المصري فأمر مجلس الشيوخ بهدمه فلم يجسر أحد الفعلة على ذلك وبقي المعبد لا يمس بسوء حتى جاء القنصل بنفسه فضرب أبوابه بالفأس.

وبعد سنين أي في سنة 204 خلال حرب هانيبال بعث مجلس الشيوخ إلى آسيا الصغرى بوفد للبحث عن المعبودة سيبيل وكانت هذه الأم الكبرى كما كانوا يدعونها مصورة على حجر أسود فأتى بها مندوبو مجلس الشيوخ باحتفال حافل وجعلوها في رومية وقد لحق بها كهنتها وأخذوا يطوفون الشوارع على أصوات المزامير والصنوج لابسين ألبسة شرقية يستوكفون الأكف على الأبواب.

ثم غصت بلاد إيطاليا بالسحرة من الكلدان ولم يكن العامة يعتقدون وحدهم بهؤلاء العرافين. ولما هدد برابرة السمبر مدينة رومية سنة 104 تقدمت عرافة من سورية اسمها مارت فعرضت على مجلس الشيوخ الروماني بأن تتوسط في غلبة رومية على عدوتها فطردها مجلس الشيوخ ولكن النساء الرومانيات بعثن بها إلى المعسكر فأبقاها مازيوس القائد العام لديه وما فتئ يأخذ رأيها إلى أن وضعت الحرب أوزارها. ورأى سيللا في نومه ربة كابودسيا فعمل بنصيحتها وسار إلى إيطاليا.

السفسطائيون: لم يكن يأتي إلى رومية كهنة وعرافون فقط بل كان ينزل فيها فلاسفة يحتقرون الدين القديم. ومن أشهرهم كارنياد سفير الآثينيين فإنه كان يصرح بأفكاره في رومية أمام الجمهور فيخف شبان الرومان إلى سماع أقواله حتى أراده مجلس الشيوخ على الخروج من المدينة إلا أن الفلاسفة ظلوا على بث مبادئهم في رودس وأثينة حتى أصبح من السنن المألوفة أن يبعث الرومان بفتيانهم إلى تينك المدينتين يتعلمون فيها الفلسفة.

وفي القرن الثالث قبل المسيح ألف إيفهمير اليوناني كتاباً ينفي وجود الأرباب وأنها ليست إلا رجالاً ألههم الناس حتى أن المشتري نفسه كان ملكاً على كريت فانتشر كتابه أي انتشار ونقله الشاعر أنيوس باللاتينية. وعلى هذا النحو أخذ أشراف رومية يسخرون من أربابهم ولم يبقوا من الدين القديم إلا على مراسيمه وظواهره. وكان أهل الطبقة العالية في المجتمع الروماني مدة زهاء قرن يعتقدون بالخرافات اعتقاد سفسطائيين لا يؤمنون بشيء.

الحياة العقلية: كان غاية ما يعلم اليونان الأقدمون أولادهم القراءة فقط في الزمن الذي كان فيه بوليب في رومية (قبل سنة 150) ويعهد المحدثون من الرومان بتعليم أبنائهم إلى مربين من اليونان ولذلك افتتح أناس من اليونان في رومية مدارس لتعليم الشعر والبلاغة والموسيقى. وكانت الأسرات الكبرى تنقسم إلى أنا س يتعلمون على الطريقة القديمة وآخرين على الحديثة. ولكن بقي في الأذهان شيء من الموسيقى والرقص فكانوا ينظرون إليهما بأنهما من الصناعات المهينة بمن يتعاطاها إذا كان كريم المحتد. قال سبيون أملين حامي اليونان في كلامه على مدرسة رقص كان يختلف إليها بنون وبنات من الخاصة: ما كنت أتوهم عندما ذكر لي ذلك أن أناساً من الأشراف يعلمون مثل هذه الأمور لأولادهم ولما أخذوا بيدي إلى مدرسة الرقص رأيت فيها زهاء خمسمائة صبي وبنت وفي جملتهم ولداً شريفاً في الثانية عشرة من عمره وهو أحد المرشحين للانتخابات يرقص على نغمات البوق كروتال وقال سالست في كلامه على عقيلة رومانية قليلة الاعتبار أنها كانت تضرب على الطنبور وترقص أحسن مما يليق بامرأة محتشمة.

التربية: استهوى نساء الرومان حب الأديان الشرقية والبذخ الشرقي في أسرع ما يكون فكن يذهبن زرافات زرافات إلى معابد باخوس ومساجد إيزيس. وقد سنت لهن قوانين ليمنعهن من لبس الألبسة الثمينة وركوب العجلات واتخاذ الحلي والجواهر ولم تلبث أن ألغيت فصار النساء في حل من أن يلبسن كالرجال ما يشأن وانقطع النساء النبيلات عن العمل والجلوس في بيوتهن وأنشأن يخرجن في أبهة ويختلفن إلى دور التمثيل والملاعب والحمامات والمجتمعات وإذ كن بلا عمل ومن الجهل على جانب سرى الفساد إليهن في الحال حتى أصبح النساء الطاهرات في طبقة الأشراف ن النوادر.

سقط النظام القديم في تربية الأسرات وجعل القانون الروماني الزوج سيد زوجته وابتدعوا ضرباً جديداً من الزواج يجعل المرأة تحت تصرف أبيها ولا يكون للزوج أدنى سلطة عليها وكان الآباء يجهزون بناتهم بجهاز وصداق ليجعلوهن أكثر استقلالاً.

وكان من حق الزوج وحده أن يطلق امرأته ومن العادة أن لا يحاد عن هذا الحق إلا في أحوال استثنائية شديدة فصار للمرأة الحق أن تترك زوجها وأصبح مذ ذاك العهد من الهين اللين أن يفصم الزوجان عرى ارتباطهما ولم يعودا يحتاجان إلى حكم حاكم ولا إلى سبب مشروع ويكفي أحد الزوجين متى استاء من زوجه أن يقول له: احمل ما يخصك وأعد لي ما أملكه. وبعد الطلاق يتيسر لكل منهما بل للمرأة أيضاً أن يتزوجا في الحال.

وبلغت الحال في الطبقة الرومانية العالية أن تعتبر الزواج عقداً مؤقتاً فقد تزوج سيللا بخمس نساء وقيصر بأربع وبومبي بخمس وأنطونيوس بأربع وتزوجت ابنة شيشرون من ثلاثة رجال وطلق هورتانسيون زوجته ليزوجها من أحد اصدقائه.

بيد أن هذا الفساد لم يصب غير أشراف رومية ومن حذا حذوهم من أهل النعمة الحديثة أما في أسر رومية والولايات فقد حفظت قروناً آداب الدور القديم القاسية الشديدة وأخذت تربية الأسرة ترق شيئاً فشيئاً والمرأة تحرر من استبداد الرجل ببطء.

التبدل الاجتماعي

زوال الطبقة الوسطى: كان الشعب الروماني القديم مؤلفاً من صغار أرباب الأملاك وهم يتعاطون زراعة حقولهم بأنفسهم ومن هؤلاء الفلاحين الصالحين الأقوياء يتألف الجيش والمجلس. وكان عددهم كثيراً سنة 221 خلال الحرب الفينيقية الثانية. وفي سنة 133 لم يبق منهم أحد. لا جرم أنه هلك منهم كثيرون في الحروب التي أعلنتها رومية على البلاد القاصية ولكن هلاكهم يحمل في الأكثر على أنه كان من المتعذر عليهم البقاء.

فقد كانوا يعيشون من زراعة القمح عندما أخذت ترد على رومية حبوب صقلية وأفريقية فسقطت أسعار الحنطة بحيث لم يتيسر للحراثين الإيطاليين أن يستخرجوا من غلاتهم ما يغذون به أسراتهم ويتحملوا أعباء الخدمة العسكرية فقضي عليهم من ثم أن يبيعوا حقولهم فيبتاع كل غني من جاره الفقير أرضه فغدت الحقول الصغيرة ملكاً عظيماً لواحد وصير أرباب الأملاك من تلك الأراضي مروجاً يقيمون فيها ماشيته وإذا عن لهم أن يزرعوها فيبعثون إليها برعاة وحراثين من العبيد بحيث لم يمض قليل حتى لم يبق على أرض إيطاليا إلا بعض كبار الأملاك وجماعات من العبيد وكان بلين القديم يقول أن الأملاك العظيمة قد أخطأت إيطاليا ومع هذا فالدوائر العظمى هي التي قضت في الأرياف على أحرار الفلاحين. فصاحب الأرض القديم الذي باع حقله لم يستطع أن يبقى أجيراً بل قضي عليه أن يتخلى عن مكانه ليحل محله العبيد وبذا أصبح هائماً على وجهه لا عمل له ولا شغل قال فارون في رسالته في الزراعة أن معظم زعماء الأسرات دخلوا بيوتنا تاركين المنجل والمحراث وآبوا يؤثرون التصفيق بأيديهم في الملاعب على العمل في حقولهم وكرومهم.

الطبقات الاجتماعية: ليس الشعب في رومية كما هو في يونان عبارة عن مجموع السكان بل هو مجموع الوطنيين ولا يعد وطنياً كل رجل ينزل بأرض البلاد بل الوطني هو الذي له حق التمتع بحقوق الوطنية. وللوطني عدة امتيازات فله الحق وحده أن يكون عضواً في الهيئة السياسية وله الحق وحده أن يقترع في مجالس الشعب الروماني وأن يخدم في الجيوش الرومانية ويحضر احتفالات رومية المقدسة وينتخب حاكماً رومانياً وهذا ما يسمونه بالحقوق العامة وللوطني الحق وحده أن يحميه القانون الروماني ويحق له فقط أن يتزوج على طريقة مشروعة ويكون رب أسرة أي حاكماً مطلقاً على زوجته وأولاده وأن يوصي بما يشاء ويبيع ويبتاع ممن يشاؤ وهذا ما يسمونه بالحقوق الخاصة.

ولا يحرم من لم ينالوا حق الوطنية الرومانية من الخدمة في الجيش والمجلس فقط بل لا يسوغ لهم أن يكونوا أزواجاً ولا آباء ولا أصحاب أملاك مشروعة ولا أن يتقاضوا إلى القانون الروماني ويحاكموا في المحاكم الرومانية ولذا تألفت من الوطنيي طبقة من الأشراف بين سواد الأمة من غير طبقتهم وهم لا يتساوون بينهم أيضاً. وبينهم فرق في الطبقات أو كما يقول الرومان في الصفوف.

النبلاء: النبلاء هم في الصف الأول من الأمة فكل وطني يعد في النبلاء إذا سبق لأحد أجداده أن تولى شيئاً من أمر الأمة لأن الحكم في رومية من علائم الشرف ينبل به من تولاه كما يكون بضعة شرف لا خلافه من بعده. إذا أنصب أحد من الوطنيين ناظراً للملاعب والأبنية أو قاضياً أو قنصلاً تخلع عليه خلعة مطرزة بالأرجوان ويمنح كرسياً كالعرش ويحق له أن يرسم ويصور. وهذه الصور عبارة عن تماثيل صغيرة تعمل من الشمع أولاً ثم تطلى بالفضة وتجعل في مزار الدار (أتويوم) بالقرب من الكانون وأرباب البيت وتجعل في مخادع خاصة بها كما تجعل الأصنام ويعبدها الذرية من أهل البيت. ومتى مات أحد في الأسرة يخرجون الصور ويجرونها على مركبه في موكب ويأخذ أحد أنسباء المتوفى يعدد صفاته ويرثيه. وهذه الصور هي التي تشرف الأسرة كلما احتفظت بها وكلما كثرت الصور في أسرة تزداد شرفاً فيقولون فلان شريف بصورة أو شريف بعدة صور. والأسر الشريفة في رومية قليلة جداً (ولم يكن فيها أكثر من ثلثمائة أسرة لأن المناصب التي تولي صاحبها شرفاً توسد في الغالب إلى أناس حازوا الشرف من قبل.

الفرسان: تجيء طبقة الفرسان بعد طبقة النبلاء وهم أغنياء الوطنيين الذين لم يعد لهم جدود من الحكام فتقيد ثرواتهم في سجلات الإحصاء وينبغي أن لا يقل ما يملكه أحدهم عن أربعمائة ألف سترس (أو مئة ألف فرنك) منهم التجار والصيارف والملتزمون وهم لا يحكمون بل يغتنون. ولهم في التمثيل أماكن خاصة بهم تقع إلى ما وراء مقاعد طبقة الأشراف. وربما ساغ للفارس منهم أن ينتخب حاكماً وعندها يدعونه الرجل الحديث النعمة ويصبح ابنه شريفاً.

العامة: العامة هم غير طبقة الأشراف والفرسان فهم جمهور الأمة ويكونون من نسل أبناء البلاد في إيطاليا ويتنقلون من فلاحين أصحاب أملاك إلى وطنيين رومانيين ويعد في طبقتهم العبيد المعتوقون أو قدماء العبيد وأبناؤهم. ويحافظون على مميزات أصولهم ولا يقبلون في خدمة الجيش الروماني ولا ينتخبون إلا بعد غيرهم. ولقد مضت أزمان وصغار أرباب الأملاك يؤلفون السواد الأعظم من الأمة. وبينا كانت الأرياف تصفر من قلة الناس غصت رومية بالواردين عليها فانهال عليها اليونان والسوريون والمصريون والآسياويون والأفريقيون والإسبانيون والغاليون ممن أخذوا من بلادهم وبيعوا بيع العبيد ثم أعتقهم مواليهم وأصبحوا وطنيين ضاقت بهم المدينة فهم كانوا شعباً جديداً ليس له من الرومانية غير اسمها.

خطب سيبون غازي قرطاجنة ولومانس جمهوراً من الناس في إحدى الساحات فقاطعه العامة بأصواتهم فقال لهم: صه أيها الأبناء الأدعياء المنتسبون لإيطاليا زوراً فمن العبث ما تفعلون لأن من جلبتهم إلى رومية مقيدين لا أهابهم ولو حلت قيودهم وهذه الطبقة الجديدة من السوقة تعيش بكدحها أو يقضي على الحكومة أن تطعمها وقد أخذت الحكومة سنة 125 تقدم لعامة الوطنيين حنطة بنصف ثمنها المعتاد تأتي بها من صقلية وأفريقية ومنذ سنة 63 أخذت توزع الحنطة مجاناً وتشفعها بزيت. ورأى قيصر سنة 46 أن من كانوا يتناولون هذه الجراية بلغوا 320 ألفاً.

العبيد: جميع الأسرى وسكان البلد المفتوح ملك الفاتح يتصرف فيهم فإذا أبقى عليهم ولم يقتلهم يستعبدهم له. هكذا كان الحق القديم. وقد ظل الرومان يعملون به بالحرف يعاملون الأسرى كأنهم بعض الغنيمة يبيعونهم من النخاسين الذين يتبعون الجيش وإذا حملوهم إلى رومية فإنهم يحملونهم ليبيعوهم في المزاد وهكذا كان يبيعون عقيب كل حرب ألوفاً من الأسرى رجالاً ونساءً والأولاد الذين يولدون من أسيرات يكونون أسرى كأمهاتهم فالأمم المغلوبة للرومانيين هي مادة لرقيق الروماني.

العبد ملك صاحبه فهو لا يعتبر اعتبار شخص بل اعتبار متاع فمن ثم ليس له حق من الحقوق فلا يكون وطنياً ةلا ملكاً ولا زوجاً ولا أباً. قال أحد الأبطال في رواية هزلية رومانية: أي شيء هذا أعرس عبيد! ما أعجب عبد يتزوج! إن هذا مخالف لعادة جماع الأمم.

وللمولى جميع الحقوق على عبده يرسله حيث يريد ويشغله على ما يرى بل شغله أكثر من طاقته ويطعمه أخشن طعام ويضربه ويعذبه ويقتله دون أن يسأله أحد عما جنى وعلى العبد أن يخضع لرغائب سيده كلها. ويقول الرومان أن العبد لا وجدان له وأن الواجب عليه أن يطيع مولاه طاعة عمياء فإذا قاوم أو أبق من بيته فالحكومة تعاون سيده على قمع جماحه والقبض عليه وكل من يؤوي عبداً آبقاً تجري علبه أحكام اللصوص كأنه سرق بقرة أو حصاناً لغيره.

والعبيد في المملكة الرومانية أكثر من الأحرار ويملك أغنياء الوطنيين من عشرة إلى عشرين ألف عبد وعند بعضهم منهم ما يكفون لتجنيد جيش كامل. وكان لسليوس إيزدوروس أحد قدماء العبيد زهاء أربعة آلاف عبد وكان عند هوراس سبعة أعبد فكان يشكو من فقره. ومن علائم الفقر في رومية أن لا يملك المرء سوى ثلاثة أعبد.

وإذا كان العبيد يعملون أشق الأعمال أو يسترسلون في البطالة مكرهين وهم ابداً عرضة للضرب بالسياط والتعذيب أصبحوا بحسب فطرهم إما متوحشين أغبياء أو أ، ذالاً مستعبدين ومن كان منهم على شيء من الشهامة ينتحرون وغيرهم يعيشون كالآلة الصماء. وكان الشيخ كانتون كثيراً ما يقول: على العبد دائماً أن يعمل أو ينام. ومعظم العبيد يفقدون الإحساس والشرف ولذلك كانوا يقولون هذا عمل عبيد يريدون به أنه دنيء ورذل.

الحياة السياسية

لحكام: ينتخب الشعب كل سنة رجالاً يتولون أمره ويفوض إليهم السلطة المطلقة ويطلق عليهم اسم الحكام أي ولاة الأمر فيسير أمامهم حملة الفؤوس يحملون حزمة من القضبان وفأساً ومعنى هذا الرمز لأأن للحاكم أن يضرب ويقتل على ما يراه مناسباً ومن حق الحاكم أيضاً أن يرأس مجلسي الأمة والشيوخ وأن يكون له محل في المحكمة ويقود الجيوش وهو السيد المسود في كل مكان فيجمع المجلس ويفضه بحسب ما يرى ويصدر الأحكام برأيه وحده.

وفي زمن الحرب يفعل ما يشاء بالجند ويقتلهم دون الرجوع إلى رأي ضباطه. وقد كان مافيوس القائد الروماني في إحدى الحروب التي أعلنت على اللاتين حظر على الجنود الخروج من المعسكر فدعا أحد المقاتلين من جيش العدو ابنه إلى المبارزة فخرج لبرزه وقتله فلم يعتم مافيوس أن قبض على ابنه وأعدمه في الحال.

وللحاكم بحسب التعبير الروماني سلطة ملك ولكن هذه السلطة قصيرة موزعة وذلك لأنه لا ينتخب إلا لسنة واحدة وله رصفاء لهم مثل سلطته ففي رومية قنصلان أو حاكمان يتوليان أمر الأمة وقيادة الجيش وفيها عدة قضاة يتولون الحكم أو القيادة بالنيابة ويصدرون الأحكام وهناك كثير من الحكام ومراقبان واربعة نظار للأبنية والملاعب للنظر في الطرق العامة والأسواق وعشرة محامين عن حقوق السوقة وصيارفة يتولون النظر في خزائن المملكة.

الإحصاء: أرقى الحكام هما الوكيلان المسيطران وهما مكلفان كل خمس سنين بتنظيم إحصاء للشعب الروماني فيتمثل أمام المكلفين بإحصاء جميع أبناء البلاد ليذكروا لهما وهم يقسمون الإيمانات أسماءهم وعدد أولادهم وعبيدهم ومقدار ثرواتهم ويقيد كل ذلك في سجلات خاصة. والقائمان بإحصاء الأمة هما اللذان يكتبان قائمة بأسماء أعضاء مجلس الشيوخ والفرسان والوطنيين ويحددان لكل واحد مقامه في المدينة ثم هما مكلفان أيضاًَ بأن يحتفلا احتفال الثريا وهي حفلة عظمى تقام للتزكية كل خمس سنين فيجتمع ذاك اليوم عامة الوطنيين في ساحة المريخ اجتماعهم في حرب ويطوفون ثلاث مرات حول المجلس يحملون ثلاث ضحايا لتكفر عن السيئات وهي عبارة عن ثور ونعجة وخنزير يخنقونها ويرشون المجلس بدمها وبذلك تصبح المدينة مزكاة مطهرة وسلماً مع الأرباب.

وللقائمين على الإحصاء الحق أن يقدان وأن يسجلا كل إنسان في المنزلة التي يريدانها ولهما أن يجردا أحد الشيوخ بإسقاطه من قائمة مجلس الشيوخ وأن لا يحسبا أحد الفرسان في جملة أهل طبقته أو يحرمان أحد الوطنيين بأن يحذفا اسمه من سجلات القبائل. ويسهل عليهما عقاب من يرونهم مجرمين ويتجاوزان عن السيئات التي لا تقدح بمنطوق القانون. ولطالما رأوهما يجردان الوطنيين لأنهم لم يحسنوا التوفر على مقولهم ولصرفهم كثيراً على خدمهم وسجنوا أحد الشيوخ لأنه كان يملك عشر ليبرات من الأواني الفضية وآخر لأنه أهمل تعهد قبور أجداده. وغيره لأنه طلق زوجته هذه السلطة المفرطة هي ما يطلق الرومان عليه حكومة الأخلاق فوكيلا الإحصاء عما سيدا المدينة على الجملة.

جلسة مجلس الشيوخ: يتألف مجلس الشيوخ من نحو ثلثمائة رجل يعينهم وكيل الإحصاء إلا أن هذا لا ينصبهم كيفما اتفق فلا ينتخب من أبناء البلاد إلا الأغنياء أصحاب المكانة وسلالة الأسرات الكبيرة ومعظمهم من قدماء الحكام ويختار على الأغلب دائماً أناساً كانوا في المجلس من قبل بحيث أن عضو مجلس الشيوخ يبقى في هذا المنصب طوال حياته فمجلس الشيوخ هو محل اجتماع أهم رجال رومية ولذلك كانت لهم سلطة وسطوة.

فإذا حدث أمر يجمع أحد الحكام أعضاء الشيوخ في أحد المعابد ويعرض عليهم المسألة ثم يسألهم رأيهم فيها فيجيبه كل واحد بمفرده مراعين في ذلك مراتبهم في الشرف وهذا ما يدعى أخذ رأي مجلس الشيوخ ويسطر الحاكم بعد ذلك رأي الأكثرية وهذا ما يسمونه مرسوم ديوان الأعيان أو الشيوخ ويكون قرارهم عبارة عن رأي لأن ليس من حق مجلس الشيوخ أن يقنن القوانين. بيد أن رومية تعمل بهذا الرأي عملها بأمر مفروض. وللشعب ثقة بشيوخه لعلمه أنهم أكثر خبرة منه ولا يجرأ الحكام على مقاومة مجلس مؤلف من أكفاء يساوونهم في الشرف. ولذلك كان المجلس يفض جميع المسائل فيقرر الحرب ويعين عدد الجيوش ويقبل السفراء ويعقد السلم ويفرض الدخل والخرج فيصدق الشعب على مقراراتهم والحكام ينفذونها. وفي سنة 200 قرر مجلس الشيوخ إعلان الحرب على ملك مكدونية فأوجس الشعب خيفة ولم يوافق على ذلك فصدر أمر مجلس الشيوخ بجمع المجامع من جديد وأن يلقى عليهم خطاب يكون أبلغ في إقناعهم من الخطاب الأول وعندها لم يسع الشعب إلا الموافقة. وبذلك رأيت أن الشعب في رومية كان يحكم كما يحكم الملك في إنكلترا ولكن كان الحكم لمجلس الشيوخ.

المجالس والانتخابات: تسمى حكومة رومية الجمهورية أي متاع الشعب وجماعة الوطنيين المدعوين شعباً كأنهم سادة مستقلون في المملكة فمنهم الذين ينتخبون الحكام ويوافقون على الحرب والسلام ويسنون الشرائع ويقول الفقهاء أن القانون هو ما أمر به الشعب والشعب في رومية كما في أثينة لا يعين نواباً عليه أن يوافق على كل شيء بنفسه حتى أن حكومة رومية بعد أن قبلت في المدينة زهاء خمسمائة ألغ رجل كانوا مشتتين في أطراف إيطاليا كلها اضطر الوطنيون للحصول على حقوقهم أن يحضروا بالذات إلى رومية.

ويجتمع الشعب في الساحة ويسمى المجلس المجتمعات يدعوه الحاكم إلى الالتئام برئاسته وكثيراً ما يدعى الوطنيون للاجتماع بصوت البوق فيذهبون إلى ميدان العمل (ساحة المريخ) يصطفون فرقاً تظللهم أعلامهم وعندما يتألف منهم مجتمعات ذات فرق وكثيراً ما يجتمعون في ساحة السوق (الفوروم) منقسمين إلى 35 جماعة يسمونهم القبائل فتدخل كل قبيلة في نوبتها إلى مكان مسور بسدود لتوافق على ما تقرر به وتسمى المجتمعات بحسب القبائل. والحاكم الذي جمع المجلس يبين له المسألة التي يجب عليه الموافقة عليها ومتى فعل ذلك ينفض. فمن ثم كان الشعب حاكماً ولكنه اعتاد الخضوع لزعمائه.

والمجلس أيضاً هو الذي يختار كل سنة الحكام فينتخب بحسب الفرق جميع الحكام الذين كان انتخبهم الشعب قديماً مثل القناصل والقضاة ووكلاء الإحصاء ونظار الأبنية والملاعب ومجلس القبائل ينتخب حكام أهل الطبقة المتوسطة ومحامي الشعب ونظار أبنية الشعب. وقد ضاقت ساحة الفوروم منذ القرن الثاني فأخذت تجتمع جميع مجالس الانتخابات في ساحة المريخ تنقسم الرحبة بحواجز ذات مرابض صغيرة تلقب بحدائق الغنم فتنقطع كل قبيلة إلى إحدى تلك الرحاب وتلاحظ كل قبيلة أكثرية الوطنيين في التصويت إذ ليس لكل قبيلة غير صوت واحد.

سلك المناصب: ليس تولي الحكم أو المشيخة عن الأمة في رومية صناعة من الصناعات فإن الحكام والشيوخ يصرفون وقتهم ومالهم دون أن ينالوا أجراً فمنصب الحكم في رومية يعد من دواعي الشرف فلا يتطال إليه غير الأشراف او الفرسان على الأقل على شرط أن يكونوا أغنياء ثم لا يطمع امرؤ أن يبلغ أرقى مناطب الحكم إلا بعد أن يتقلب في المناصب الأخرى.

ومن أراد يوماً أن يحكم على رومية يجب عليه أولاً أن يكون له في الجيش عشر وقائع وحملات وبعدها يسوغ له أن ينتخب صرافاً فيعهد إليه النظر في إحدى خزائن المملكة. ثم يصير ناظراً للأبنية والملاعب فينظر في أمور الشرطة والبياعات وبعد ذلك ينتخب قاضياً فيجري أحكام العدل وعقيب ذلك يصبح قنصلاً فيقود جيشاً ويرأس المجالس وعندئذ تحدثه نفسه بأن يكون وكيل إحصاء وهذه هي الدرجة التي دونها في العلو كل درجة لا يبلغها المرء قبل أن يبلغ الخمسين من العمر فترى بهذا أن رجلاً واحداً يكون مالياً إدارياً وقاضياً وقائداً وحاكماً قبل أن يتولى وظيفة وكيل الإحصاء الغريبة وهي عباة عن تنظيم المجتمع وتسمى سلسلة هذه الوظائف سلك المناطب ولا تدوم كل وظيفة من هذه الوظائف إلا سنة واحدة للارتقاء للوظيفة التالية يقتضي انتخاب جديد. ويجب على الموظف في خلال السنة التي تتقدم انتخابه أن يظهر في الشوارع بلا انقطاع ويسير كما يقول الرومان أو يطمع في امتياز المنصب أن يلتمس أصوات الشعب والعادة في خلال هذه المدة أن يلبس حلة بيضاء وهذا معنى مرشح باللغات الإفرنجية أي المكتسي بالبياض.

إدارة الولايات

الشعوب الخاضعة: ما انقضى القرن الأول قبل المسيح إلا وقد أخضعت رومية عامة الأقطار الواقعة حول البحر الرومي من إسبانيا إلى آسيا الصغرى ولم تضف هذه البلاد إلى المملكة الرومانية ولم يصبح سكانها وطنيين رومانيين ولم تغد أرضهم أرضاً رومانية بل ظلوا غرباء وانضموا فقط إلى هذه المملكة أي أنهم أصبحوا تحت استيلاء الشعب الروماني كما أن الهنود اليوم ليسوا وطنيين إنكليز بل هم رعايا إنكلترا والهند جزء لا من إنكلترا بل من المملكة الإنكليزية فقط.

فلا يصبح سكان البلاد المغلوبة وطنيين في رومية بل يبقون غرباء أجانب ولكنهم رعايا الشعب الروماني يؤدون إليهم الجزية وعشر غلاتهم وأتاوة من المال ورسماً على كل رأس وعليهم أن يخضعوا لجماع ما يأمرونهم به إذا ليس في استطاعة الشعب أن يحكم بالذلات ليبعث بحكام ينتدبهم لأن يحكموا عنه وكل بلد خاضع لوال كان يسمى ولاية ومعناها المهمة.

كان في أواخر عهد الجمهورية (في سنة 46) 17 ولاية منها عشر في أوربا وخمس في آسيا واثنتان في أفريقيا ومعظمها متنائية الأطراف جداً فلم تكن بلاد الغال كلها سوى أربع ولايات وإسبانيا ولايتين. قال شيشرون أن الولايات أملاك الشعب الروماني فإذاً أخضع هذه الشعوب بأسرها فذلك طمعاً في فائدتها لا لأجل منفعتهم ولذلك لا يتوخى أن يدير تلك الولايات بل يحرص على استثمارها.

الولاة: يتخذ الشعب حاكماً لإدارة كل ولاية وهو إما أن يكون قنصلاً أو قاضياً خرج من الوظيفة فيطيل أمد سلطته وليس هذا الموظف الكبير قنصلاً بل هو وال ينوب عن القنصل.

وللوالي كما للقنصل سلطة مطلقة يسير فيها على هواه لأنه وحيد في ولايته وليس لديه حكام آخرون ينازعونه السلطة ولا محامون عن الطبقة الوسطى ليصدوه عما يريد ولا مجلس شيوخ يسيطر على أعماله فهو وحده يقود الجيوش ويحملهم على القتال وينزل بهم حيثما يشاء فيتخذ له مقاماً في محكمته حاكماً بالغرامة والسجن والموت ويصدر أوامر تكون قانوناً متبعاً وله وحده السلطة العالية لأنه فيه يتجسد الشعب الروماني.

وكان هذا الحاكم الذي لا يقاومه مقاوم مستبداً حقيقياً فيقبض على من يريد ويحبس ويضرب بالعصي ويعدم من لا تروقه حالتهم وإليك مثالاً من ألوف الأمثلة التي كان الحكام يجرون فيها مع الهوى كما رواه أحد الخطباء الرومان قال: جاء القنصل مؤخراً إلى تيانوم فخطر لامرأته أن تتلذذ بالاستحمام في حمامات الرجال فأخرج من الحمام الرجل الذين كانوا يستحمون فيه فشكت المرأة من إبطائهم وقلة استعداد الحمام فنصب القنصل عموداً في الساحة العامة وأحضر أشهر رجل في المدينة ليجعل عليه فجرد من ثيابه وضرب بالعصي.

والوالي يأخذ من ولايته ما يستطيع من المال وينظر إليها كأنها ملك له ولا تعوزه الوسائط لاستثمارها بل يمد يديه إلى خزائن المدن وينزع التماثيل والحلي الموضوعة في المعابد ويجبي من السكان الأغنياء أتاوات من المال أو البر. وإذا كان له الحق أن ينزل جنوده حيث أراد فالمدن تقدم له المال لتعفى من قبول جنوده وإذا كان فغي حل من أن يعدم كل من يترآءى له فالأفراد يعطونه المال ليأمنوا غائلته. وإذا طلب شيئاً نفيساً أو مبلغاً من المال يجاب في الحال إىل ما طلب ولا يجرأ امرؤ أن يأبى عليه طلبه. وأتباعه يسيرون على مثاله وينهبون باسمه بل بحمايته ويسرع الوالي في جمع المالي إذ الواجب عليه أن يغتني في سنة وبعدها يعود إلى رومية ويخلفه آخر يعود بمثل ما بدأ فيه سلفه.

على أن هناك قانوناً يحظر على كل وال أن يقبل هدية ومحكمة مخصوصة (منذ سنة 149) تنظر في دعاوي الاختلاس. بيد أن هذه المحكمة تؤلف من طبقة الأشراف والفرسان الرومانيين فلا يرون أن يحكموا على ابن بلدهم والعاقبة المهمة في هذه الطريقة كما قال شيشرون أن يضطر الوالي إلى بسط يده في السلب من ولايته ليتسنى له ان يرشي المحلفين في المحكمة ولا ينبغي العجب إذا رأينا اسم الوالي مرادفاً لاسم مستبد ومن أشهر هؤلاء اللصوص فيريس والي صقلية وقاضيها وقد خطب في بيان أعماله الخطيب شيشرون لأسباب سياسية فطباً اشتهر بها ومن المحتمل أن كثيرين مثله قد أتوا ما أتاه.

العشارون: كان للشعب الروماني في كل ولاية مواد مهمة من الجمارك والمناجم والضرائب والحقول الصالحة لزرع الحنطة والمراعي يؤجرونها من شركات متعهدين يسمونهم العشارين فكان هؤلاء مثل المزارعين العموميين في فرنسا قديماً يبتاعون من الحكومة حق جباية الخراج ويجب على سكان الولايات أن يطيعوهم كأنهم وفود الشعب الروماني.

وكان في كل ولاية عدة شركات من العشارين ولكل شركة مستخدمون من الكتاب والجباة يظهرون في مظهر السادة ويتناولون أكثر مما يأخذون في آسيا حتى السكان بدون سبب ولما طلب ماروس من ملك بيتينا أن يقدم له جنداً أجابه الملك أن العشارين لم يبقوا عنده م الرعايا غير النساء والأطفال والشيوخ وقد عرف الرومان هذه المظالم حق معرفتها وكتب الخطيب شيشرون إلى أخيه وكان هذا حاكماً إذ ذاك: إذا وفقت إلى طريقة ترضي بها العشارين بدون أن تهلك سكان الولايات فتكون قد رزقت مهارة رب بيد أن العشارين كانوا قضاة في محاكمهم حتى أن الولاة أنفسهم خاضعون لهم. وقد أراد سكاروس والي آسيا المشهور بالإفراط في العفة أن يمنع العشارين من إطالة يد الأذى في ولايته فلما عاد إلى رومية رفعوا عليه شكوى وحكموا عليه.

ولطالما أثار العشارون سخط سكان الشرق الخاضعين الساكنين فقد ذبحوا بأمر ميتيريداتس في ليلة واحدة مئة ألف روماني وبعد قرن أي على عهد المسيح كان اسم عشار مرادفاً لاسم لص.

الصيارف: جمع الرومان في بلادهم ثروة الأمم المغلوبة ولذلك كانت الدراهم كثيرة جداً في رومية ونادرة جداً في الولايات فكان في رومية يمكن الاقتراض بفائدة أربعة أو خمسة في المئة أما في الولايات فلا يجد المستدين مالاً يقترضه بأقل من اثني عشر في المئة. وكان الصيارف الرومان يقترضون مالاً من رومية ويقرضونه للولايات ولاسيما باسم الملوك او المدن.

وإذا لم يستطع المستدين أن يوفي رأس المال ورباه يعمد الصيارف في تقاضي أموالهم إلى الطرق التي يستعملها العشارون فقد اقترضت مدن آسيا سنة 84 على نية ان تدفع مبلغاً كبيراً لتستعين به على الحرب فبعد أربع عشرة سنة فقط أي في سنة 70 صار المبلغ بفوائده ستة أضعاف ما كان فاضطر الصيارف مدن آسيا أن تبيع حتى التحف والطرف وقد شوهد أبوان يبيعان أبناءهما وبناتهما. وبعد بضع سنين أقرض برونوس من حكماء الرواقيين ومن أشهر رجال عصره من الرومان وأعلاهم كعباً ومكانة لمدينة سلامينة في قبرص مبلغاً من المال بفائدة 48 في المئة (أي 4 في المئة كل شهر) فلما طالب وكيله سكابتبوس بالمال مع فائضه تعذر على المدينة أن تؤدي إليه مطلوبه فقصد سكابتبوس الوالي أبيوس فأصبحه هذا بفرقة من الفرسان فجاء إلى سلامينة وحاصر مجلس شيوخها وكان أعضاؤه في قاعة الجلسات فمات خمسة منهم جوعاً.

رعايا رومية: كان سكان الولايات لا حول لهم ولا طول مع هؤلاء الظالمين بأسرهم وذلك لأن الولاة كانوا يمالئون العشارين والصيارف على رغائبهم ويأخذون بأيديهم في كل ما يطلبونه ووراء الوالي الجيش والشعب الروماني يعضدانه فكان يسمح للوطني الروماني أن يشتكي السلابين في الولايات ولكن لا يمس الوالي بأذى ولا تتأتى شكايته إلا مرة واحدة عندما يخرج من الخدمة فيصبر عليه الرعايا يسلبهم ويعتدي كما يشاء ريثما تنقضي مدته وإذا اتهم عند عودته إلى رومية فتكون محاكمته أمام محكمة مؤلفة من الأشراف والعشارين ممن تكون مصلحتهم في معاضدته لا في إحقاق الحق ورفع ظلامة أهل الولاية التي كان فيها وإذا صادف أن حكمت عليه المحكمة يستعيض عن الحكم بالنفي فيذهب إلى إحدى مدن إيطاليا يتمتع بها بما نهبه أيام ولايته وهذا القصاص لا يوازي ما أتاه بتة ولا يعد انتقاماً ولذلك كنت ترى سكان الولايات يؤثرون أن يقمعوا ولاتهم بخضوعهم لهم فيعاملونهم كما يعاملون الملوك وينافقونهم ويهادونهم ويقيمون لهم التماثيل وربما نصبوا للوالي في آسيا هياكل وبنوا لهم المعابد وعبدوهم كما يعبد الرب.

ولئن عامل الشعب الروماني رعاياه بقسوة فلم يكن يأبى عليهم الانضمام إليه كما كان شأن المدن اليونانية بل أن الغرب يصبح وطنياً رومانياً بإرادة الشعب الروماني والشعب يمنح هذه العاطفة أحياناً وكثيراً ما يمنحها إلى شعب برمته فمنح حق الوطنية الرومانية إلى اللاتين أولاً سنة 89 ومنح هذا الحق للطليان في سنة 46 ومنحه لأهل غاليا فأصبح سكان إيطاليا والرومانيين سواء حتى أن العبد الذي يعتقه سيده يسوغ له أن يكون وطنياً في الحال. وكلما عرضت للشعب الروماني عوارض الضعف ونقص في الأنفس يزيد عدده برعايا جدد وعبيد جدد فكان عدد الوطنيين يزيد في كل إحصاء ولا ينقص فبلغ عددهم في قرنين من 250 ألفاً إلى 700 ألف. وهكذا ظلت رومية غاصة بالسكان ولم تخل منهم كما خلت إسبارطة بل كانت تمتلئ بالقادمين إليها من المغلوبين على التدريج.

قانون الأراضي

الأملاك العامة: متى طلب شعب غلبته رومية على أمره أن يعقد معها الصلح يجب على نوابه أن يلفظوا الجملة التالية: نتخلى لكم عن الشع والمدين والحقول والمياه وتماثيل الأرباب الحامية للحدود والأثاث وجميع ما يملكه الأرباب والناس قد جعلناه بيد الشعب الروماني وبهذا التسجيل تصبح الأمة الرومانية مالكة لما يملكه المغلوبون لهم بأسره بل مالكة حتى لأشخاصهم. وكثيراً ما يبيعون السكان وقد باع بولس أميل مئة وخمسين ألفاً من أهل أبير على هذه الصورة كانوا استسلموا إليه. ومن العادة أن تمنح رومية لمن تتغلب عليهم حريتهم وأن تبقي أملاكهم ملكاً للشعب الروماني يجعلونها ثلاث حصص متساوية فيعطى للأهالي قسم من أراضيهم على أن يدفعوا شيئاً معلوماً من المال أو الحبوب عنها وتحفظ رومية لنفسها الحق أن تأخذ منها كما تشاء. وتؤجر الحقول والمراعي إلى أناس من الملتزمين وتترك الأراضي البائرة شاغرة يأخذها من يريد ويحق لكل وطني روماني أيقيم فيها ويزرعها.

قوانين العقارات: شملت قوانين الأراضي التي اختل بها نظام رومية الأملاك العامة وما كان لأحد الرومان أن يخطر في باله نزع الأملاك من أربابها لأن حدود تلك الأملاك نفسها كانت أرباباً يدعونها آلهة التخوم والدين يمنع من نزعها. إلا أن الشعب كان يستولي بموجب قانون الأرضي على أرض من الأملاك العامة فقط ويوزعها بصفة ملك على مواطنيه وللشعب من حيث الشرع الحق في ذلك لأن الأراضي كلها ملكه إلا أن الرومانيين تسامحوا قروناً بأن تركوا أناساً من رعاياهم أو ابناء وظنهم يتمتعون بغلات تلك الأراضي وقد انتهت بهم الحال أن صاروا ينظرون إلى تلك الأراضي كأنها ملكهم يحبسونها ويبيعونها ويبتاعونها ولو أخذت منهم لقضي على جمهور عظيم من الأمة بالإفلاس في الحال. وقد حدث في إيطاليا خاصة أن ينزع من أهل المدينة بأسرها جميع ما يملكون. هكذا نزع أغسطس جميع أراضي مانتو من سكانها وكان الشاعر فرجيل من جملة المنكوبين فتوصل بفضل شعره إلى أن تعاد أملاكه ولكن سائر الشعب الذي لم يكن شاعراً كفرجيل بقي مسلوباً من أملاكه. وتوزع هذه الأراضي المأخوذة على تلك الصفة أحياناً على أناس من فقراء الوطنيين في رومية وفي الأغلب على جماعة من قدماء الجند وقد وزع سيللا أراضي أهل إيتروريا على 20 ألفاً من قدماء الأجناد.

الأخوان الاشتراكيان: كان الشقيقان تيبريوس وكايوس غراشوس من أشرف أسرات رومية ولكن حاول أحدهما بعد الآخر وقد تولى زعامة السوقة أن ينزع الحكومة من يد الأشراف الذين يتألف منهم مجلس الشيوخ.

وكان في ذلك العهد في رومية بل في إيطاليا جمهور كبير من الوطنيين لا سيد لهم ولا لبد يطمحون إلى إحداث ثورة ومنهم الأغنياء ومعظمهم من طبقة الفرسان الذين يشكون من حرمانهم من الحكومة. فعرض تيبريوس غراشوس نفسه على أن يتولى الدفاع عن العامة وسعى إلى وطيد سلطته هذه وكان في قلق مما يراه في بلاد الأرياف في إيطاليا من إقامة الرعاة العبيد يخلفون قدماء أصحاب الأملاك الفلاحين ومن رؤية رومية غاصة بأناس من الوطنيين لا يملكون فتيلاً ولا نقيراً.

قال مرة في خطاب له يخاطب به العامة: للوحوش البرية في إيطاليا مغاور تأوي إليها والرجال الذين يهرقون دماءهم في الدفاع عن بيضة إيطاليا ليس لهم إلا النور والهواء الذي يستنشقونه يهيمون على وجوههم مع أزواجهم وأبنائهم لا بيوت تؤويهم ولا منازل يسكنونها. إلا وأن القواد الذين يحرضونهم عل الدفاع عن مدافنهم ومعابدهم ليكذبون في أقوالهم. وليت شعري هل ملك واحد منهم حتى الآن مذبحاً مقدساً في بيته ومدفناً يضم رفات أجداده، يدعونهم سادة الأرض وهم لا يملكون مدرة منها.

فاقترح على الشعب سن قانون للأراضي وذلك بأن تأخذ الحكومة من الأفراد جميع الأراضي التي هي من المنافع العامة فتضع يدها عليها ويترك لكل فرد منهم خمسمائة فدان ويوزع الباقي من الراضي حصصاً صغيرة على فقراء الوطنيين فوافق المجلس على هذا القانون فحدث بذلك اضطراب عام في نظام الثروات لأن معظم أراضي المملكة على التقريب كانت من الأملاك العامة ولكن وضع الواضعون أيديهم عليها واعتادوا أن يعتبروا أنفسهم مالكيها. على أنه كان كثيراً ما يصعب التمييز بين الملك الخاص والملك العام إذ لم يكن للرومانيين سجلات للأراضي.

فأقام تيبريوس ثلاثة مفوضين عهد إليهم قسمة الأراضي كما أن الشعب أعطاهم سلطة مطلقة. وكان هؤلاء المفوضون هم تيبريوس نفسه وأخوه وعمه. فقام خصوم تيبريوس يتهمونه بأنه سن قانون الأراضي ليتخذ من ذلك حجة لتكون له بها السلطة. فمضت سنة وهو السيد المتحكم في رومية ولكنه لما أراد أن ينتخب محامياً من العامة عن السنة التالية أقام أعداؤه الحجة (وهذا كان منافياً للعادات المتبعة) فنشأت من ذلك فتنة انتهت باستيلاء تيبريوس وأصحابه على معبد الكابتول فنهض أنصار مجلس الشيوخ وعبيدهم مسلحين بالدبابيس وخشب المقاعد وطاردوا تيبريوس وأتباعه وضربوهم.

وبعد عشر سنين انتخب كايوس أصغر الأخوين غراشوس محامياً عن الشعي وجدد التصديق على قانون الأراضي وقرر توزيع حنطة على فقراء الوطنيين وقرر أن يجري انتخاب القضاة ن طبقة الفرسان ليتوصل بذلك إلى هدم سلطة الأشراف فكانت كلمته هي العليا مدة حولين كاملين ولكنه لما قصد قرطاجنة ليسكن فيها جماعة من الطوارئ (المستعمرين) الوطنيين تخلى الشعب عنه مدة غيابه جتى إذا عاد لم يتيسر له أن يعاد انتخابه إذ كان أعداؤه اغتنموا تلك الفرصة للتخلص منه وعندها أمر الحاكم بتسليح أشساع مجلس الشيوخ وزحف على كايوس وأحبابه وكانوا اعتصموا في جبل أفنتين فقتل كايوس بيد أحد العبيد وذبح أشياه أو أعدموا في السجون ونقضوا بيوتهم من أسسها وصادروا أملاكهم.

ماريوس وسيللا لم يكن النزاع بين الشقيقين غراشيوس ومجلس الشيوخ إلا عبارة عن هرج في شوارع رومية ينتهي بفتنة تنشأ بين العصابات المسلحة على عجل أما الفتن التي حدثت بعد فكانت حروباً حقيقية بين جيوش منظمة وكان رؤساء الأحزاب من القواد.

الحروب المدنية: ليس الشعب الروماني سوى مجموعة فقراء لا عمل لهم وما الجيش إلا حفنة من المتشردين نزاع الآفاق فلا المجلس ولا الكتائب خاضعة لمجلس الشيوخ لأن الأشراف الفاسدين فقدوا كل سلطة أدبية فلم يبق ثمة سوى قوة حقيقية واحدة نعني بها الجيش ولم يبق سطوة إلا للقواد وقد أبى القواد أن يخضعوا فتعذر الحكم بواسطة مجلس الشيوخ حتى أصبح بيد القائد. وغدت الثورة لا مناص منها ولكنها لم تنشأ دفعة واحدة بل تخمرت زهاء مئة سنة وكان مجلس الشيوخ يقاوم وقد أمسى من الضعف بحيث لا يتيسر له أن يجري الأحكام بذاته على أنه ما زال على شيء من القوة تحول دون غيره من القبض على قياد الأمة والقواد يتنازعون بينهم فيمن يكون السيد المتحكم وهكذا قضى الرومانيون قرناً يتخبطون في الفتن والحروب المدنية.

ماريوس: كان أصل ماريوس القائد الأول الذي جعل جيشه تحت أمرة في رومية من أربينوم وهي مدينة جبلية صغيرة ولم يكن من سلالة شريفة واشتهر بأنه ضابط وانتخب محامياً عن العامة ثم قاضياً بمساعدة الأشراف له. ثم انقلب عليهم وانتخب قنصلاً وعهد إليه محاربة جوكورتا ملك النوميديين الذي بدد شمل عدة جيوش رومانية.

وعندها جند ماريوس جماعة من فقراء الوطنيين ممن أصبحت الخدمة العسكرية صناعتهم فتغلب ماريوس بجيشه على جوكورتا وأهلك الشعوب البربرية كالسمبريين والتوتون ممن أغاروا على غاليا وإيطاليا الشمالية. وإذا لم يكن للشعب ثقة من غيره لقيادة الجيش انتخبه قنصلاً ست مرات متولية خلافاً للقوانين المتبعة.

عاد إلى رومية بعد هذه الانتصارات فأصبح مطلق اليد في الحكومة وعندئذ تألف في تلك العاصمة حزبان دعيا أنفسهما باسم حزب الشعب (وهو حزب ماريوس) وحزب الأشراف (وهو حزب مجلس الشيوخ).

الحرب الاجتماعية: ارتكب أشياع ماريوس من الفظائع ما انتهى بتلويث شهرته بين الناس فاغتنم أحد الشراف من أسرة كورنيوليوس الكبيرة واسمه سيللا هذه الفرصة لينازعه السلطة وكان هو أيضاً من جملة القواد. وفي خلال ذلك استشاط الطليان غيظاً من قيامهم بمثل ما يقوم به الرومانيون من التكاليف دون أن يكون لهم مثل امتيازاتهم فنزعوا إلى مقاومته لينالوا حقوقهم المدنية وهذا ما دعوه بالحرب الاجتماعية أي حرب مقاومة المتحالفين فجيشوا جيوشاً كبيرة قدمت إحداها على مقربة من رومية وكان سيللا هو الي أنقذ رومية بقتاله الطليان أشد قتال. وبعد حرب دامت سنتين (91 ـ 89) خضع الطليان بيد أنهم نالوا ما طلبوه وغدوا وطنيين رومانيين.

سيللا: طارت شهرة سيللا في هذه الحرب فنصب قنصلاً وعهد إليه أن يزحف على ملك بحر الخزر ميتريدانس الذي أغار على آسيا الصغرى وذبح فيها الرومانيين عن بكرة أبيهم (88) فحمل الحسد ماريوس على أن يثير فتنة في رومية فخرج سيللا للالتحاق بجيشه الذي كان ينتظره في إيطاليا الجنوبية وعاد معه وكان الدين الروماني يحظر على الجنود الدخول إلى المدينة وعليهم أسلحتهم وعلى الحاكم نفسه قبل أن يجتاز الباب أن يخلع عنه رداء الخرب ويلبس الحلة الرومانية فكان سيللا القائد الأول الذي جسر على خرق سياج هذا المنع ودخل إلى رومية فانهزم ماريوس أمامه.

ولما وصل سيللا إلى آسيا عاد ماريوس في جيش له من المتشردين ودخل رومية بالقوة (87) وعندئذ بدي بقتل المعتدين قبل محاكمتهم وجعل خاصة أشياع سيللا تحت الأحكام العرفية بل صدرت أوامر الحكومة أن يقتلوا حيثما وجدوا وصودرت أموالهم ومات ماريوس بعد بضعة أشهر وظل سين أهم أنصاره يجري أحكامه في رومية ويقتل كل من لا تروقه حالته وكان سيللا في خلال هذه المدة قد تغلب على ميترايداتس وضمن إخلاص جنده له بأن أباح لهم نهب آسيا على ما يشاءون. وقد عاد (83) في جيشه إلى إيطاليا فبعث عليه خصومه بخمسة جيوش فانهزم بعضها وانحاز الآخر إليه ثم دخل سيللا إلى رومية وذبح الأسرى وخنق أنصار ماريوس.

الأحكام العرفية: بعد أن مضت بضعة أيام في المذابح شرع سيللا ينفذ الأحكام العسكرية على الأصول وعلق ثلاث قوائم بأسماء من يريد إهلاكهم قال: أعلنت أسماء جميع من ذكرتهم وقد نسيت كثيراً منهم وسأعلن أسماءهم كلما خطروا في بالي. وكل من علق اسمه في قائمة المحكوم عليهم كان معداً للقتل ومن أتى برأسه ينال مكافأة وتصادر أموال القتيل وكان يقتل الواحد بدون محاكمة بل بمجرد هوى القائد وبدون أن ينذر بالقتل. وعلى هذا الوجه لم يكتف سيللا بذبح أعدائه فقط بل قتل الأغنياء الذين كان يطمع في ثروتهم ويرى أحد الوطنيين البعيدين عن السياسة نظر وهو مار إلى قائمة المحكوم عليهم بالقتل فرأى اسمه مسطوراً في أول القائمة فهتف قائلاً: ما أتعسني فقد قتلني بيتي في آلب ويقال أن سيللا قتل ألفاً وثمانمائة ألف فارس.

قوانين سيللا: بعد أن تخلص سيللا من خصومه حاول أن ينظم حكومة تكون الكلمة فيها لمجلس الشيوخ، فعينوه حاكماً مطلقاً (ديكتاتور) ويطلق هذا اللقب قديماً على القواد في أيام الشدة والخطر ممن تكون لهم السلطة المطلقة فاستخدم سيللا هذه السلطة ليسن قوانين تغير النظام الدستور القديم وذلك بأن ينتخب القضاة بموجب هذا القانون من مجلس الشيوخ ولا تجري المناقشة في قانون قبل أن يوافق عليه مجلس الشيوخ ولا يحق لمحاميي الشعب بتة أن يقترحوا شيئاً وبعد هذه الإصلاحات التي خولت مجلس الشيوخ سلطة مطلقة استقال سيللا من منصبه وأخذ نفسه بالانقطاع إلى داره والعيش في العزلة (79) وكان يعرف بأنه في مأمن إذ كان له مئة ألف من جنوده في إيطاليا.

بومبي

بومبي: عاد مجلس الشيوخ فقبض على السلطة لأنه حسن في رأي سيللا أن يعيدها إليه ولكنه لم يكن له من القوة ما يستطيع معه المحافظة على تلك السلطة متى قام أحد القواد ينازعه إياها. ودامت حكومة مجلس الشيوخ أيضاً في الظاهر أكثر من ثلاثين سنة وذلك لأنه كان ثمة عدة قواد وكل منهم يحول دون خصمه أن يستأثر بالحول والطول. ولما هلك سيللا كان في البلاد أربعة جيوش على قدم الاستعداد اثنان منها خاضعين لقائدين من أنصار مجلس الشيوخ وهما كراسوس وبومبي والآخران بقيادة قائدين خصمين لمجلس الشيوخ وهما لبيدوس في إيطاليا وسرتوريوس في إسبانيا. والمأثور أنه لم يكن أحد في تلك الجيوش على استعداد ونظام وإن ليس في أولئك القواد حاكم له الحق بقيادة الجند.

وكان القواد إلى ذاك العهد أبداً من القناصل أما الآن فأصبحوا من الأفراد ينضم إليه الجند لا ليخدموا الجمهورية الرومانية بل ليغتنوا بسلب الأهلين.

ولقد انهزمت جيوش خصوم مجلس الشيوخ وبقي القائدان كراسوس وبومبي وحدهما واتفقا بينهما على الزعامة وجرى انتخابهما قنصلان.

سبارتاكوس: تكرر حدوث عصيان العبيد مرات (حروب العبيد) وكان ذلك في الأغلب في جزيرة صقلية وجنوبي إيطاليا حيث كان العبيد يحملون السلاح لحراسة القطعان. وبعد أن ولي الولاية القائدان كراسوس وبومبي بدأت أشهر تلك الحروب وذلك أن عصابة مؤلفة من 70 مصارعاً هربت من كابو ونهبت عربة تحمل أسلحة وأنشأت تحمل على البلاد حملاتها فخف العبيد وانضموا إليها زرافات زرافات فلم تلبث تلك العصابة أن أصبحت جيشاً. وقد هزم هؤلاء العبيد على الولاء ثلاثة جيوش رومانية أرسلت لتأديبهم وكان سبارتكوس زعيمهم أسر في الحرب وهو من إقليم تراسيا جيء به إلى إيطاليا ليستخدم في الصراع فحدثته نفسه أن يجتاز بلاد إيطاليا كلها للعود إلى تراسيا بلده. بيد أن جيش كراسوس قاوم عصابات سابرتاكوس مؤخراً وكانت مختلة النظام فقتلها عن آخرها وبعدها حظرت رومية على العبيد أن يحملوا سلاحاً. ويحكى أنه أعدم راع من العبيد لأنه قتل خنزيراً برياً بحربة كانت معه.

حروب في الشرق: عهد مجلس الأمة لبومبي أن يتولى قيادة الجيوش في حربين متعاقبتين في الشرق الأولى (67) كانت مع قرصان البحر في شواطئ آسيا الصغرى وقد غزوا شواطئ إيطاليا ونهبوها والثانية (66) كانت مع ميترايداتس الذي لم يبرح على ما أصابه من الفشل يدافع عن حوزته في أطراف آسيا الصغرى.

ولقد عاد بومبي من آسيا في جيش يتفانى في الإخلاص له وكان في بضع سنين السائد المسود في رومية وإذ كان ينظر إلى الشرف أكثر منه إلى السلطة لم يدخل أدنى تعديل في الحكومة. وفي خلال ذلك نال الحظوة في الأمة شاب الأشراف اسمه قيصر فاتفق بومبي وكراسوس وقيصر بينهم على اقتسام السلطة (60) فانتخب قيصر قنصلاً ثم والياً على غاليا وتولى كراسوس قيادة الجيش الذي أرسل إلى آسيا للحملة على البارثيين ولقي حتفه سنة 53 وبقي بومبي في رومية.

كاتالينا: بينما كان بومبي يحارب في الشرق حدثت في رومية أزمة كادت تؤدي إلى ثورة وذلك أن أحد الأشراف من قدماء أنصار سيللا واسمه كاتالينا كان فقد ثروته لاسترساله في الشهوات فحاول أن يسترجع ماله بالقبض على أزمة الأحكام وكان رجلاً قوي الشكيمة جريء النفس مقداماً لا يتطرق إلى قلبه وسواس وله أصدقاء كثيرون من أشراف الشبان المستهترين الفاسقين أخلصوا في حبه إذ كان يقضي معهم أوقات صفائه ويقرضهم مالاً ويهديهم خيولاً وكلباب صيد. وله من الأنصار قدماء أشياع سيللا وقدماء الجنود الذين أسكنهم سيللا في إيطاليا ممن باعوا أراضيهم وأخذوا يبحثون عن مورد يعيشون منه.

فاتفق كاتالينا مع جمهور من هؤلاء الساخطين على أن يذبحوا في آن واحد القنصلين يوم يذهبان معاً على معبد الكابتول فلم يفلحوا فيما دبروه لأن الخبر ترامى إلى القنصلين غلا أن كاتالينا احتفظ بأنصاره وظل يدس الدسائس وكان أعداء مجلس الشيوخ وربما قيصر أيضاً يعضدونه سراً فقدم نفسه لينتخب قنصلاً فكان خصمه في هذا الانتخاب شيشرون أشهر محام وأعظم خطباء الرومان وكان هذا توصل إلى ينتخب حاكماً لأن الأسرات الشريفة غدت منذ عهد ماريوس لا تسمح إلا بانتخاب أناس من الأشراف.

وساعد أشياع مجلس الشيوخ الخطيب شيشرون فجرى انتخابه وسقط كاتالينا إلا أن القنصل الآخر رصيف شيشرون وهو أنطونيوس كان ممالئاً سراً للحانقين، فدر كاتالينا مكيدة أخرى على أن يذبح أصحابه شيشرون وأعضاء مجلس الشيوخ في رومية ويحرقوها بينا يكون قدماء أجناد سيللا المقيمين في أتروريا زاحفين على رومية فبلغ الخبر شيشرون فلم يخرج إلا في كوكبة من الفرسان محدقة به إلا أنه لم يكن عنده جيش لقتال قدماء الأجناد الذين شرعوا يتجمعون ويتسلحون والعبيد الذين أخذوا يسلحونهم في كابو فقضى جزءاً من السنة التي تولى فيها القنصلية وهو في قلق مستمر.

وأخيراً رجع واليان يقودان جنوداً فشعر شيشرون بقوة تمكنه من الدفاع فاستدعى مجلس الشيوخ ليوافق على قيام القناصل بما فيه سلامة الجمهورية الرومانية وأن يعطي القناصل سلطة ليتخذوا عامة الأسباب التي يرونها مناسبة وأدخل الجند إلى رومية يرابطون في الساحات ودعا مجلس الشيوخ إلى الاجتماع ثانية وفي هذه الجلسة ألقى خطبته الأولى في مقاومة كاتالينا وسأله مشعراً إياه بما دبره من المكيدة التي افتضح أمرها وأنذره بالانصراف.

فغادر كاتالينا رومية وذهب للالتحاق بقدماء الأجناد المتمردين في أتروريا وظل أشياعه في المدينة فاتفقوا سراً مع وجود الألوبروج بأن يقدموا لهم فرساناً ثم غيروا آراءهم وأفشوا سر المتآمرين. فطلب شيشرون خمسة من رؤوس زعماء المؤامرة واضطرهم إلى الإقرار. ثم أخذ رأي مجلس الشيوخ فيما يجب أن يعاملوا به فأجاب بأنه يجب إعدامهم ولكن أحد المجرمين واسمه لاتنتولوس قاضياً، ولا يحق لأأحد أن يوقفه إلا حاكم له مقام أرقى من مقامه فذهب شيشرون بذاته لتوقيف المجرمين الخمسة وأخذهم إلى سجن الكابتول وخنقهم وعاد ليقول لمجلس الشيوخ: لقد عاشوا.

فأعلن كاتالينا الحرب ولم يكن سوى جزء من رجاله يحملون سلاحاً ومعظمهم انفضوا من حوله وزحف عليه جيش بقيادة القنصل أنطونيوس آتياً من الجنوب وزحف آخر من الشمال ولم يبق لكاتالينا سوى ثلاثة آلاف رجل حاول بهم الفرار نحو الشمال فرأى جبال ابنين في وجهه مسدودجة فانفض على جيش أنطونيوس وهاجمه وقتل مع أصحابه جملة واحدة (63) فنال إذ ذاك شيشرون من مجلس الشيوخ لقب أبو الوطن دلالة على أنه أنقذ رومية من مخالب العدو ولكن لما انتهت سنة حكمه لم يعهد له بسلطة.

فتح بلاد الغال

دخول قيصر إلى غاليا: اتفق قيصر مع بومبي وكراسوس أن يتولى كل منهم القيادة في إحدى الولايات العظمى على أن يكون له الحق في أن يجيش جيشاً فوضع كراسوس يده على سورية وبومبي على إسبانيا وقيصر على الثلاث ولايات المجاورة لغاليا وذلك لمدة خمس سنين. وقد ذهب قيصر لما انقضت سنة حكمه بصفته والياً إلى مقر ولايته لينشيء فيها جيشاً ويكون هو قائده ودخل في الحال في عدة حروب وظل عشر سنين بعيداً عن رومية (ولم يدم حكمه أكثر من خمس سنين إلى سنة 53 ولكنه جدده دفعة ثانية إلى سنة 48).

وكانت رومية إلى ذلك العهد لم تخضع غير جزء من البلاد التي تنزلها الشعوب الغالية بل لم يكن لها سوى ولايتين غاليتين: غاليا سيزالبين وهي مؤلفة من البلاد الواقعة بين جبال البنين والألب (وهي اليوم إيطاليا الشمالة) والبروفانسيا وهي عباورة عن شواطئ البحر المتوسط وبلاد الرون من جبال الألب إلى جبال البيرنيه. وكانت هذه البلاد مع إقليم إيبيريا (الجبال الواقعة في شرقي الإدرياتيك) هي الثلاث ولايات التي تولاها قيصر.

أما باقي بلاد فرنسا الحالية التي دعاها الرومانيون غاليا فكانت مستقلة بعد يسكنها ثلاث عناصر من الناس، أحدهم الغاليون وهم يشغلون القسم الأعظم من البلاد أي جميع فرنسا الواقعة بين نهر الغارون ونهر السين ويصفهم اليونان والرومان بأن هؤلاء السكان من الرجال العظام بيض البشرة شقر الشعور زرق العيون طوال السبلات يأكلون اللحوم ويسكرون بنبي السرفواز (ضرب من الجعة) أو بشراب الأيدرومل وهم أشد شبهاً بالجرمانيين منهم بالفرنسيس اليوم. وكان السواد الأعظم من هذه الأمة يعيش شقياً في الأكواخ لا شأن لهم في إدارة شؤون بلادهم يخضعون لكبار أرباب الأملاك الذين يقاتلون راكبين صهوات خيولهم ويدعوهم قيصر بلافرسان ويذكرهم كما يذكر محاربين شجعاناً للغاية ولا يبعد أن يكون هؤلاء الفرسان الغاليون شبيهين بالجرمانيين هم من الفاتحين نزلوا وسط شعب أصغر منهم أجساماً أشقر أصهب يشبه الشعب النازل اليوم في البلاد الغربية أي فرنسا وإيرلاندا وبلاد الغال.

والقسم الثاني من تلك العناصر الثلاثة هم البلجيكيين نزلوا البلاد الواقعة في شمالي السين إلى نهر الرين وهم يشبهون كما كان يقول الرومان الجرمانيين النازلين في الشاطئ الآخر من نهر الرين والظاهر أنهم كانوا أقل اختلاطاً بالشعب القديم من الغاليين وأحسن الفرسان فيهم كانوا يقاتلون راكبين.

والقسم الثالث من تلك العناصر هم الآكيتيون نزلوا في جنوبي نهر الغارون وهم ضئال الأجسام شجعان يشبهون الإيبريين في إسبانيا ويتكلمون بلغة إيبرية ويعتبرون سائر شعوب غاليا كأنهم غرباء وهؤلاء خضعوا لقيصر أول الأمر. وبعد فلم يكن الغاليون والبلجيكيون والآكتيون أمماً معدودة بل لم يكن ثمة غير شعوب صغيرة يسمو إلى قدرها على نحو ثلاث أو أربع من مقاطعاتنا اليوم وكل مقاطعة تؤلف حكومة مستقلة ودعاها قيصر سيفيتا أي التي يحكمها كما يشاء وتحارب غيرها. وكان لبعض تلك الحكومات ملك ويحكم معظمها مجلس من الأشراف (الفرسان) وكان للكهنة عند الغاليين سلطة كبرى.

لم تبرح تلك الشعوب على حالة من التوحش بعد تعيش بما تنتجه لها ماشيتها وما مدنها إلا أسوار صغيرة محصنة يجعلون فيها مواشيهم وعيالهم إبان الحرب ولئن كان معظم البلاد غابات وحراجاً فقد بدؤا يزرعون حنطة ليتيسر أن تطعم جيشاً رومانياً بأسره.

جاء قيصر ينوي فتح غاليا في جيش اختاره من سكان الولايتين الغاليتين والخاضعتين لرومية خاصة وكان مؤلفاً بحسب العادة الرومانية من مشاة منظمين كتائب وعليهم أسلحتهم وهم مدربون أكثر من جيوش الشعب الغالي ولقد عني قيصر بذكر خبر الفتح في مفكراته فأوهم القارئ بأن الغاليين ساقوا عليه جيوشاً أكثر عدداً من جيشه ومن المحتمل بأنه لم يقل الحقيقة إذ لم يكن في استطاعة غاليا أن تطعم غير عدد قليل من الناس ومعظم سكانها ليسوا محاربين.

غارة الهيلفتيين والسويفيين: عندما وصل قيصر إلى بلاد الغال كان الإيدوانيون النازلون في جبال مورفان أشد شعوب أواسط غاليا بأساً وعاصمتهم بيبراكت بالقرب من أوتون وبلادهم واقعة بين نهر السون واللوار. ومن أشداء البأس الأرفرنيون النازلون في البلاد الجبلية التي أطلق عليها اسم (أوفرنيا) وكانوا حاكمين على الأمم النازلة في البلاد الصخرية الوسطى.

فحارب الإيدوانيون السكانيين النازلين في جبال جورا لاختلاف طرأ بينهم على الملاحة في نهو سون فاستدعى السكيانيون من ألمانيا زعيماً سويفياً وهو الملك أريوفيست فأتى بعصابة من خيرة المحاربين مؤلفة من العامة خاصة وهم السويفيون. وبعد أن تغلب الأيدوانيين طلب الملك أيوفيست إلى السيكانيين جزءاً من أرضهم لينزل فيها جيشه. وكان السكيانيون صالحوا الإيدوانيين لقتال أريوفيست الذين نزلوا عليهم وعندما استنجد الإيدوانيون برومية ولما قاد قيصر جيشه إلى بلاد سون تقدم على أنه حليف شعب غالي لمقاومة غارة جرمانية وفي غضون ذلك أخذ الهيلفتيون وهم شعب غالي يسكن سويسرا بالهجرة من بلادهم فانقلبوا منها يحملون أسراتهم ومواشيهم وأمتعتهم محمولة على مركبات قائلين أنهم يريدون مهاجمة بلاد الغال ليستوطنوا شواطيء المحيط. وربما كان ذلك حيلة منهم ليذهبوا لنصرة الأيدوانيين على أريوفيست وتقدموا إلى قيصر أن يسمح لهم باجتياز تلك الولاية الرومانية فأبى عليهم ذلك فلم يبق أمام الهيلفتيين إلا أن يقطعوا وادي سون فداهمهم قيصر بالقرب من نهر سون وحمل أولاً على ساقة جيشهم ثم هاجم مجموعهم فذبح منهم جزءاً عظيماً واضطر من أفلتوا من القتل إلى الرجوع إلى بلادهم ثم ارتد على أعقابه لقتال أريوفيست وأسرع حتى بلغ في جيشه إلى فيرونوسيو (بزانسون) وحاذر جنده من هول هذه الحرب وهم في بلاد جبلية مغشاة بالغابات يهاجمون برابرة أشداء على أهبة تامة فجمع قيصر قواد المئة من جنده (يوزباشية) وقال لهم على ن يوجسون خيفة أن يسافروا مع الفرقة العاشرة فأجابه قواد المئة بأنهم يتبعونه حيثما ذهب.

وقطع الجيش الروماني مجاز جبال الفوسج ونزل إلى سهل الإلزاس وجاء يعسكر أمام العدو. وألف أريوفيست معسكره من مركباته وتحصن وراءها وكان قيصر يمرن جيشه في السهل ويعبيه للقتال ثم صحت عزيمة أريوفيست على الخروج من المعسكر فداهم الجيش الروماني في فرسانه فجرح وفر جنده فطارده العدو حتى نهر الرين. وكان المهاجمون الجرمان يطردون إلى خارج غاليا ولكن قيصر لم يأت مع جيشه إلى ولايته بل رابط معه ي وادي سون حيث قضى الشتاء وقد أخذ يعامل بلاد غاليا كالبلاد المغلوبة فاضطرت الشعوب الغالية أن تحالف رومية.

فتح شمال غاليا: أبى البلجيكيون النازلون بين نهري السين والرين وهم أشجع شعوب غاليا كافة أن يدخلوا في محالفة رومية فتعاهدوا بينهم وتحالفوا وجمعوا جميع المحاربين من أبنائهم في بلاد لاون. فجاء قيصر في الربيع في ثماني فرق من الجند وعقد محالفة مع أحد هذه الشعوب وهم الريمسيون ونزل في معسكر حصين على رابية يفصلها عن معسكر البلجيكيين واد ذو بطائح وظل الجيشان زمناً أحدهما قبالة الآخر وإذ كان الجيش الروماني منظماً كانت تأتيه النجدات من الطعام تباعاً أما البلجيكيون فشق عليهم أن يتغذوا في تلك الأدغال والحراج فأنفذ قيصر الإيدوانيين أحلافه يخربون بلاد الييلوفاكيين أهم تلك الشعوب المتحالفة ولما بلغ البلجيك ذلك انفضت جموعهم ليذهبوا للدفاع عن بلادهم فتخلص قيصر من جيش العدو بدون قتال وراح يطوف بلاد البلجيكيين ويهاجم مدنهم الواحدة بعد الأخرى مكرهاً كل أمة أن تكون حليفة لرومية وأن تعطيها على سبيل الرهن رجالاً من الأسر النبيلة في بلادها.

وقد داهم النيرفيون (أهل بلاد السامبر) أحد هذه الشعوب الجيش الروماني في غابة على شاطيء نهر السامبربينا وكان يبني معسكره وهزم الفرسان الغاليين أحلاف الرومان وعساكر الرجالة الخفيفة إلا أن الكتائب حمت المؤخرة وحالت دون الهزيمة فأخذ قيصر يحارب النيرفيين حرباً يريد بها إبادتهم عن آخرهم. ولما أخضع الجيش الروماني الشعوب البلجيكية قضى الشتاء في وسط بلاد غاليا على شاطيء اللوار.

فتح الغرب: قبلت الشعوب النازلة على ضفاف البحر المحيط أن تحالف رومية وتقدم لها رهائن وما جاء الشتاء حتى تحالفوا بينهم وأبوا أن يرسلوا حنطة لإطعام الجيش الروماني وأسروا عندهم مندوبي الرومان الذين جاؤوهم في طلب ذلك ليكرهوا قيصر على أن يعيد إليهم من استبقاهم عنده من رجالهم رهينة. وكان للفنتيين (سكان فان) وهم من الشعوب الخطير في ذاك الحلف سفن حربية صنعوها من شجر البلوط وجعلت بحيث تسير على إرادة ربانها ولها مقدم مرتفع يقاوم الأمواج وطبقات سفلى منبسطة تستطيع أن تبحر على قيعان الشاطيء وفي البحار الصغيرة فأنشأ قيصر سفناً ذات قلوع في مصب نهر اللوار هاجم بها أسطول الفنتيين. وصعب عليه أن يحطمه لأن سفنه لم يكن لها من العلو ما يكفي للوصول إلى ساماة تلك السفن الفنتيية وكانت مراكبه داخلة في الماء كثيراً بحيث لا يتسنى لها أن تطارد مراكب عدوه في وسط الصخور والقيعان وبعد اللتيا والتي صنع الرومان مناجل ذات مقابض وعصي طويلة قطعوا بها الحبال التي كانت تمسك قلوع سفن الفنتيين فلما سقطت القلوع من هذه السفن. ولم يكن عندها مجاديف تقذف بها وقفت لا تبدي حراكاً فداهمها الجيش الروماني وأخذها عنوة فطلب الفنتيون الصلح إلا أن قيصر أمر بأشرافهم فضربت أعناقهم وباع سائر الشعب بيع العبيد. وفي تلك السفن أيضاً كان اقتطع قيصر فرقة صغيرة من جيشه لتخضع لسلطان رومية جميع الشعوب النازلة في الإقليم المعروف اليوم بإقليم نورمانديا وهناك فرقة أخرى له تحارب شعوب الأكتيين في جنوب نهر الغارون وعلى هذا فقد أخضع قيصر في ثلاث حملات (58 ـ 56) عامة بلاد غاليا واغتنم فرصة الشتاء للعودة إلى ولايته في إيطاليا المعروفة بسيزالبين.

وفي العام التالي (56) ضرب موعداً للقائدين الآخرين اللذين كانا يقاسمانه الحكم وهما بومبي وكراسوس فاجتمع ثلاثتهم على تخوم ولايته في ولاية لوكس وقرروا تجديد حكومتهم لخمس سنين أخرى.

حملات إلى خارج غاليا: حارب قيصر خارج ولاية غاليا دلالة على سطوته وإشغالاً لجيشه وكان شعبان جرمانيان اجتازا نهر الرين وهاجما بلاد البلجيك فسار قيصر في جيشه وفرسان شعوب غاليا على نهر الرين بالقرب من ملتقى نهر الموز وهاجم الجرمان وذبحهم مع نسائهم وأولادهم ثم بنى على الرين جسراً من جذوع الأشجار وذهب لتخريب الشاطيء الأيمن.

ولما عاد إلى غاليا ركب البحر مع فرقتين (55) واجتاز بحر المانش ونزل إلى بريطانيا (إنكلترا) ولما أنشأ في السنة التالية سفناً متسعة قليلاً لنقل الأثقال والخيول عاد إلى بريطانيا في جيش كبير واجتاز الغابات التي دافع عنها المحاربون البريطانيون حتى بلغ نهر التيمس (54).

قيام الغاليين: كان الأشراف في معظم الشعوب الغالية من أشياع رومية يقاتلون في الجيش الروماني على أنهم رديءٌ من الفرسان ويعاشرون الضباط الرومانيين وكان بعضهم من اصحاب قيصر إلا أن السواد الأعظم من تلك الأمم كانوا يتبرمون بأولئك الجنود الغرباء الذين يسيرون سير السادة فانشق بعض الزعماء من حزب الأشراف واتفقوا بينهم سراً على تهييج الشعب. وكان قيصر قد وزع جيشه على شعوب كثيرة لقضاء فصل الشتاء وذلك لأن القمح كان نادراً في تلك السنة فقرر زعماء الغاليين أن يغتنموا هذه الفرصة لمهاجمة الفرق المنعزلة وقطع مواصلاتهم فانتظروا ريثما يبتعد قيصر إلى ولاية سيزالبين حيث ذهب لقضاء الشتاء.

إلا أن شعب الكارلوت (شارتر) أبدى نواجذ العصيان قبل أن يتم ما دبروه مستشيطاً غضباً من ملكه الذي نصبه قيصر وحاكمه فحكم عليه بالإعدام وقتل. فبلغ قيصر هذا النبأ فاستعد للحرب ولما أزمعت الفرقة الرابطة في بلاد السامبر الخروج من معسكرها داهمها الأيبورون وذبحوها. ورأت فرقة رومانية أخرى أن تبقى في معسكرها فأحاط بها الغاليون فأسرع قيصر وتمكن من إنقاذها وعند ذلك استراحت الجنود الرمانية إلى آخر الشتاء.

ولما طلع الربيع أبى عدة شعوب غالية من الشمال أن يبعثوا وفودهم إلى قيصر فجمع جيشه برمته وسحقهم واحداً بعد واحد فانتقم من الأيبوريون بتخريب زروعهم وحرق قراهم وبح السكان وطارد المنهزمين إلى غابات آردن وما جاء الخريف إلا وقد خضعت غاليا الشمالية بأسرها.

الفارس فرسنجتوريكس: أجمع شعوب أواسط البلاد في خلال الشتاء أمرهم بينهم على العصيان ثانية وبدأ الكارنتيون أولاً فداهموا مدينة سنابوم على نهر اللوار فقتلوا فيها تجار الطليان كافة. وفي هذه المرة تسلح عامة الشعوب النازلين بين نهر السين والغارون لقتال الرومان وبقي الأكتيون على الحياد. وبدأت الشعوب المحالفة لرومية تنزع السلطة من يد الأشراف أشياع قيصر وأقاموا زعماء جدداً ودخل هؤلاء في التحالف الغالي.

وكان زعيم الثورة شاباً من أسراف أرفرنا اسمه فرسنجتوريكس وهو فارس يحسن الفروسية خدم في الجيش الروماني وكان صديق قيصر وأحدث ثورة في بلاده أولاً وما هاج سكان القرى حتى نزع السلطة من أيدي الأشراف وأصبح ملكاً على أرفرنا ثم بعث برسل إلى الشعوب الأخرى وجمع جيشاً وجعل من نظامه أن يحرق الخائنين ويصلم آذان الآبقين ويسمل عيونهم، فداهم الغاليون الرومانيين في آن واحد في الجنوب من ولاية بروفنسيا (من إقليم لانكدوك) وفي الشمال من البلاد الواقعة بين هري السين والسون حيث كانت ترابط الفرق الرومانية، واضطر قيصر أن يجتاز جبال سيفين وهي مكللة بالثلوج وأكره فرسنجتوريكس من رجاله أن يعود للدفاع عن بلاده فاتسع الوقت لقيصر أن يجمع جيشه بالقرب من سانس ويذهب فيه إلى إقليم اللوار فخرب فرسنجتوريكس جميع البلاد وجعل المدن قاعاً صفصفاً لتكون قفراً لا يجد فيها العدو سيئاً يطعمه بيد أن البيتوريجيين لم يقبلوا بتخريب مدينتهم أفاريكوم ودافعوا قيصر عنها زمناً.

بعث قيصر في الربيع (52) فيلقاً لمباغتة شعوب السين وذهب بنفسه في معظم جيشه للهجوم على جركوفيا قلعة الأرفرنيين فرد على أعقابه وحرج موقفه إذ لم يكن لديه طعام (لخراب مخازن ذخائره في نرفر) وهو محصور بين شعورب الأرفرنيين والأيدوانيين الذين ذبحوا التجار الطليان ومع ذلك أصر على عدم إخلاء غالياً وتمكن من الوصول إلى سانس. وفي خلال ذلك عين المجلس المؤلف من مندوبي جميع الشعوب الغالية الزعيم فرسنجتوريكس قائداً عاماً على الجيوش الغالية.

فاستدعى قيصر من جرمانيا فرساناً أخذهم لحساب رومية وقاد جيشه من ناحية سون ولعله فعل ذلك ليتمكن من مراسلة بروفنسيا فتبعه فرسنجتوريكس في جيشه وحاول أن يقطع عنه مواد الطعام ورمى الجيش الروماني وهو في مسيره بفرسانه الغاليين فهزمهم فرسان الجيش الغالي ورجع فرسنجتوريكس على أعقابه إلى مدينة أليزيا الحصينة في بلاد الآكام بين نهر السون ومصب نهر السين فتبعه قيصر وحاصره فيها جاعلاً حول أليزيا سوراً تعلوه دائرة مجنحة ذات أبراج يحميها بخندق.

وصل جيش من الغاليين لرفع الحصار عن جيش فرسنجتوريكس وداهم الرومانيين ولكن حال دون الوصول إليه ذاك السور الذي أقامه قيصر من ناحية الخلاء. وبعد اشتباك القتال بين الجيشين رد الجيش الغالي على أعقابه وتفرق شذر مذر فلم يبق عند الجيش المحاصر في أليزيا شيء من الزاد فسلم فرسنجتوريكس (52) فبعث به قيصر إلى رومية حيث قضى ست سنين سجيناً ثم شهد حفلة انتصار قيصر وضرب عنقه.

وهكذا انتهى العصيان العام. وقضى قيصر سنة أخرى في إخضاع الشعوب التي كانت تقاوم واحداً بعد الآخر فأبادها. وكان يفاخر بأنه ذبح في ثماني سنين مليوناً من السكان وأنه أسر منهم مليوناً آخر باعه بيع العبيد وقضى سنة أخرى لتنظيم شؤون حكومة غاليا وبعد ذلك صفا الجو لرومية بهلاك أعدائها. وقد وسد قيصر الحكم إلى الأشراف أشياع الرومان وألف فرقة من الغاليين لقبوها بالسنونو وكان جيشه المدرب يحبه فحدثته نفسه أن يستخدمه في الاستيلاء على المملكة الرومانية بأشرها فخضعت غاليا لرومية مباشرة وتقسمت ولايات ولكن تنظيمها لم يتم إلا على عهد أغسطس.