انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 25/الخاصة والعامة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 25/الخاصة والعامة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 2 - 1908



قال الراغب: الناس ضربان خاص وعام فالخاص من قد تخصص من المعارف بالحقائق دون التقليدات ومن الأعمال ما يتبلغ به إلى جنة المأوى دون ما يقتصر به على الحياة الدنيا والعام إذا اعتبر بأمور الدين فالذين يرضون من المعارف بالتقليدات ومن أكثر الأعمال بما يؤدي إلى منفعة دنيوية وإذا اعتبر بأمور الدنيا فالخاص ما يتخصص بأمور البلد مما ينخرم من افتقاده إحدى السياسات المدنية والعام ما لا ينخرم بافتقاده شيء منها. وهم من وجه آخر ثلاثة خاصة وعامة وأوساط والأوساط هم المسمون في كلام العرب بالسوقة فالخاص هو الذي يسوس ولا يساس والعام هو الذي يساس ولا يسوس والوسط هو الذي يسوسه من فوقه وهو يسوس من دونه. ومن وجه آخر ثلاث أضرب أصحاب الشهوات وهمهم الجدة واليسار والأكل والشرب والبعال وأصحاب الكرامة والرياسة وهمهم المدح واستجلاب الصيت والمحمدة وأصحاب الحكمة وكل واحد منهم يستعظم من هو من جنسه. قال بعض الحكماء: ما من إنسان إلا وفيه خلق من خلاق بعض الحيوانات وبعض النبات لكون الإنسان مشاركاً لها في الجنسية وإن كان مبايناً لهما في النوعية فمن الناس غشوم كالأسد وعائث كالذئب وخب كالثعلب وشره كالخنزير وجامع كالنمل ووقح كالذباب وبليد كالحمار وألوف كطير الوفاء وصنع كالسرفة وآنف كالأسد والنمر وغيور كالديك وهادئ كالحمام ومنهم حسن المنظر والمخبر كالأترج ومنهم بخلاف ذلك كالعفص والبلوط ومنهم قبيح المنظر حسن المخبر كالجوز واللوز ومنهم حسن المنظر قبيح المخبر كالحنظل والدفلى والمؤمن الخير هو في الحيوانات كالنحل يأخذ أطايب الأشجار ولا يقطف ثمراً ولا يكسر شجراً ولا يؤذي بشراً ثم يعطي الناس ما يكثر نفعه ويحلو طعمه ويطيب ريحه وهو في الأشجار كالأترج يطيب حملاً ونوراً وعوداً وورقاً والمنافق الشرير هو في الحيوانات كالقمل والأرضة وفي الأشجار كالكشوت فلا أصل له ولا ورق ولا نسيم ولا زل ولا زهر يفسد الثمار وييبس الأشجار وكالشجرة التي قل ورقها وكثر شوكها وصعب مرتقاها.

هذا ما ذكره الأصفهاني في وصف طبقات الناس وما يرجى منهم من المنافع وما يخشى من مضارهم قاله منذ زهاء ثمانمائة سنة ويقال مثله بعد قرون كما يصح إطلاقه على ألوف من السنين من قبل. ويرى الناظر في هذه الحياة الدنيا من سلطان الأوهام الكثيرة تأثيراً في دفع الناس بعضهم عن بعض ولولا ذلك لاختل النظام أو كاد. وكان معظم تأثير الأوهام في خلال القرون الوسطى أيام انتشار الإقطاعات وتسلط الأشراف ورؤساء الديانات في الغرب أما في الشرق ـ ونريد به البلاد العربية ـ فإن الأوهام كانت تتسلط على الناس بعد الإسلام بحسب حال الحكومات المتغلبة من العقل والجهل والدين والإلحاد ولذلك أتت على العامة أدوار كانوا يعتقدون أن الخاصة من طينة غير طينة البشر فهم أحق بالتقديس فقدسوهم ورفعوهم فوق أقدارهم ولم تكن نفوس الطبقة العالية من التهذيب بحيث تحسن استعمال هذه الامتيازات التي امتازت بها بل استعملتها ذرائع إلى الاستكثار من الثروة من غير حلها وللتبجح بالباطل بما لم يأمر به شرع إلهي ولا عقل إنساني ولذلك صرت ولا تزال ترى بين الطبقة العليا والدنيا من الفروق ما لا تراه في أكثر الأمم اللهم إلا الهنود والصينيين فإن مسافة الخلف بين طبقات الناس هناك مما يعجب منه أيضاً.

انتبه أهل الغرب لسر الاجتماع البشري أكثر منا. والغالب أن سلطة الأشراف أو أهل الطبقة العالية بلغت عندهم قبيل نهضتهم مبلغاً لا تطيقه نفس بشرية فكان القيام على نزع تلك السلطة من أول الإصلاح عندهم ثم بقيت الطبقات تتقارب بعضها مع بعض وإلى اليوم لم يبلغ هذا التقارب أشده عندهم ولكنه لو قيس بما بين مختلف الطبقات في شرقنا لعد غاية الارتقاء.

إذا تقارب الخاصة من العامة وعرف كل حقه ولم يتعده تستقيم أحوال المجتمع وتقوى دعائمه وتثبت في نفوس أبنائه روح التضامن الحقيقي وإذا بقيت كل طبقة مقتصرة على أهل طبقتها يحدث بين الطبقات سوء التفاهم ما لا يكون منه حضارة ولا غبطة والعامة هم سواد كل أمة وهم القائمون على الزراعة والصنائع المختلفة والأعمال الصعبة والخاصة أفراد قلائل وقوتهم بأفكارهم وعقولهم في الأعم الأغلب من أحوالهم. والعاقل ينبغي له أن يحسن الانتفاع من كل شيء في هذا الوجود فما الحال بانتفاعه من مخلوق مثله لو علمه بعض الضروريات لكان عمله له ولغيره أتم وأعم.

مضى العهد الذي كان العلم فيه مقصوراُ على أهل طبقة خاصة ككهنة قدماء المصريين وأشراف اليونان والرومانيين ورهبان الأديار والصوامع في القرون الوسطى. مضى ذلك الزمن وما نظن يعود مثله على البشر بعد وقد أخذت حضارة الغرب تنفذ أنوارها حتى إلى القفار ويستنير بها المتمدن والمتوحش بحسب ما رزق من قوة بصر وبصيرة. طوي ذلك البساط بما عليه جملة ولن يعود إلى سالف حاله بعد أن توفر جمهور كبير من علماء الغرب يخطبون العامة في مجالسهم بما لا يعلو عن أفكارهم ويعلمونهم في مدارس ليلية أقاموها لتعليم من لم يسعده الحظ بالتعليم وبعد أن أنشؤا جرائد خاصة ووضعوا المجلات والكتب ليلقنوهم الأفكار الصحيحة والمعارف اللازمة من أيسر الطرق وأخصرها وبعد أن فتحوا لهم المعارض والمتاحف ودور التمثيل لتكون منهم مقومات العقول على طرف الثمام وبعد كل ما أقاموه لمنفعتهم من أسباب التعليم يستحيل أن يغالط عامتهم في حقائق الأشياء بعد اليوم وقد غولطوا فيها زمناً طويلاً.

قال سيايل: لا غنية للديمقراطية عن خيرة رجال كما لا يسعها إلا أن تقدر الذكاء والعلم والفضيلة حق قدرها. ولا مشاحة في أن الديمقراطية تأتي على الحواجز التي كانت تحول بين الطبقة العالية وجمهور الأمة فتدكها من أساسها وذلك لأن المجتمع يختار كبار الرجال من جمهور أهل البلاد ممن ينشؤون أبداً بين ظهراني عامة الناس ولا يزالون ينمون ويتجددون بما يصدر إليهم من حوض القوة والنشاط وأعني بهذا الحوض العامة. فإذا اعتزل أولئك الرجال واقتصروا على الاجتماع بأبناء طبقتهم محتقرين ما عداها فإنهم يقضون على أنفسهم بالضعف وعلى أمرهم بالفشل. ليس الشعب هو الجمهور بل هو الأمة وهو الحاكم المتحكم. والفكر لا يكون إلا مجردات ونظريات إذا لم يكن له كيان وحقيقة تؤثر في عقول أبناء الأمة وإرادتهم. وعلى الطبقة الخاصة من الناس وهي في الأصل ممتزجة بجهلاء الأمة وأهل الوضاعة منهم أن يكون لها اتصال بالشعب وعليها أن تعمل على إقناعه لتنال ثقته تتصل به وتشركه في معرفة الحقيقة السامية التي تخضع لناموسها الإرادات مختارة وعلى مجموع من يتألف من هم المجتمع الديمقراطي أن يشتركوا في الحياة الوطنية. أهـ.

ولقد وقر في نفوس خاصتنا زمناً طويلاً بأن اجتماعهم بالعامة يعد منقصة وسبة لذلك كانوا وأكثر من يتطاولون إلى التشبه بهم من أهل الطبقة الوسطى في العقول يشمئزون من الاختلاط بغير طبقتهم كأن العلم بزعمهم يفسد إذا ألقي على من ينتفع به أو أنه تذهب بركته ويزول بهاؤه ورواؤه وقد كان هذا الخلق يقوى في الشرق على عهد ضعف الوازعين الديني والسياسي وانحلال التربيتين البيتية والمدرسية.

وما مجالس الوعظ أيام الحضارة الإسلامية إلا من بركة تلك العقول الكبيرة والتربية الراقية فكنت ترى أمثال الحسن البصري والفخر الرازي وابن الجوزي ومئات غيرهم في المساجد والمنابر يعظون العامة ليعلموهم ما حرموا منه فيما ينفعهم في دينهم ودنياهم. بدأ ذلك على عهد الخليفة الرابع فكان يأتي بواعظ العامة ويسأله فإن رآه متمكناً من العلم بحيث لا يضل الناس بكلامه أذن له بالوعظ وإلا منعه وما كان جلة العلماء يبستنكفون من تفهيم العامة كما كانوا يعلمون الخاصة.

وظاهر أن ما كانوا يلقونه على مسامع جمهور الناس من أنواع العلوم لم يكن في صعوبته كالذي يلقونه على خواصهم ولذلك قلما كان يتأتى العبث بعقول العامة في القرون الستة الأولى للإسلام فقربوا من الخير والسلامة من أكثر خاصة العصور المتأخرة ممن جعلوا الدين سلماً إلى الدنيا وقشور العلم للمباهاة. ومقادير الخاصة والعامة في كل أمة نسبية في الغالب فقد يكون رجل من طبقة الخواص في أمة فإذا قيس بغيرها من الأمم الراقية لا تنزله إلا منزلة العوام.

قال الصفهاني: لا شيء أوجب على السلطان من مراعاة المتصدين للرياسة بالعلم فمن الإخلال بها ينتشر الشر وتكثر الأشرار ويقع بين الناس التباغض والتنافر وذلك أن السواس أربعة الأنبياء وحكمهم على الخاصة والعامة ظاهرهم وباطنهم والولاة وحكمهم على ظاهر الخاصة والعامة دون باطنهم والحكماء وحكمهم على بواطن الخاصة والوعظة وحكمهم على بواطن العامة وصلاح العالم بمراعاة أمر هذه السياسات لتخدم العامة الخاصة وتسوس الخاصة العامة وفساده في عكس ذلك ولما تركت مراعاة المتصدي للحكمة والوعظ ترشح قوم للزعامة بالعلم من غير استحقاق منهم لها فأحدثوا بجهلها بدعاً استغووا بها العامة واستجلبوا بها منفعة ورياسة فوجدوا من العامة مساعدة لمشاكلتهم لهم وقرب جوهرهم منهم:

فكل قرين إلى شكله ... كأنس الخنافس بالعقرب

وفتحوا بذلك طرقاً منسدة ورفعوا بها ستوراً مسبلة وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوا إليها بالوقاحة وبما فيها من الشره فبدعوا العلماء وكفروهم اعتصاباً لسلطانهم ومنازعة لمكانهم وأغروا بهم أتباعهم حتى وطؤهم بأخفافهم وأظلافهم فتولد من ذلك البوار والجور العام.

أهـ.

ولقد بقي من دروس الوعظ أو القصاصين كما كانوا يدعون قديماً أثر ضئيل في بعض البلاد الإسلامية ولكن ضررها يربو على نفعها لأن من يتولون أمرها في الأكثر قلما يدركون مبلغ أقوالهم وتأثيراتهم ومعظمهم ممن تزييوا قبل أن يتحصرموا فراحوا على قلة علمهم وعملهم يدعون إلى الخرافات في الأغلب يستسهلون الكلام في الزهد في الدنيا وذكر فضائل الأيام والمواسم وأكثر خطب الجمع من هذا القبيل أو هي أدهى وأمر. وأما الخاصة الحقيقيون في الأمة فقد اضطرتهم الفوضى في العلم والنظام إلى أن يقبعوا في بيوتهم ويكونوا أحلاسها واقتصروا اليوم في تعليم العامة على من يلوذون بهم من أهلهم وأصحابهم وجيرانهم والعشرة تعدي جراثيمها.

القيام على تعليم العامة عندنا ليس بالأمر الحديث كما هو في الغرب ولكن أصوله بليت بين أظهرنا ونمت أي نمو عندهم شأن الأمم الراقية والنازلة هذه يمسخ فيها كل شيء حتى جمال وجوه أهلها وتلك يرتقي فيها كل شيء حتى موبقاتها وشرورها. ولا نقصد بتعليم العامة أن نعلمهم ما يصدهم عما هم بسبيله من أمور المعاش ولكننا نقصد أن يعلموا كعامة أبناء اليابان القواعد الأساسية القليلة ليستحيل بعدها التلاعب بأهوائهم ويكونوا عوناً للخاصة في كل عمل نافع لا عثرة في سبيل كل مشروع ينهضون بلا سبب معقول ويسكنون كذلك.

نريد أن يعلم العامة القراءة والكتابة البسيطة ومبادئ التاريخ والجغرافيا والحساب والاقتصاد والصحة وتدبير المنزل وشيئاً من آداب الدين التي لا تعلو عن أفهامهم وعندما يشاركون الخاصة في الفهم إن لم يكن في معظم مسائل الوجود

ففي بعضها وهناك من الفائدة للخاصة ما لا ينكره عاقل ويكفي أنهم لا يعدون غرباء كأنهم من عالم أخر إذا نزلوا بين قوم في الأرياف والقرى والدساكر إذ يجدون فيها من يزيل عنهم موجبات الوحشة ويقدرهم قدرهم في الجملة. هذه الطبقة من العامة إذا كثرت في الشرق العربي مثلاً تكون حاله أحسن مما هي عليه بما لا يقاس ويقل تبرم المتعلمين النورين من عشرة الأميين العاميين ولاسيما في المدن الصغرى حيث لا عقل يفكر إلا في الأمور البسيطة من المعاش وقل من يشارك في الشؤون العامة.

قال الجاحظ تقول العرب: لولا الوئام لهلك الأنام وقال بعضهم في تأويل ذلك لولا أن بعض الناس إذا رأى صاحبه قد صنع خيراً فتشبه به لهلك الناس وقال الآخرون إنما ذهب إلى أنس بعض الناس ببعض كأنه قال إنما يتعايشون على مقادير الأنس الذي بينهم ولو عمتهم الوحشة عمتهم الهلكة.

وإذا لم يتيسر لبلادنا الآن أن نؤسس لها مجامع ومدارس لهذا الضرب من التعليم فما أحرى كل من رزق علماً خرج به عن العامية أن يجمع حوله طائفة من أهله وجيرانه يرشدهم ويلقنهم بحسب ما يعرف ويصحح لهم أفكارهم إلقاءً ويعلمهم ما لم يسعدهم الحظ بتعلمه في كتاب. ولا أعلم في بلادنا أحداً يهتم لتعليم العامة وتصحيح الأفكار مثل الشيخ طاهر الجزائري على اتساع مادته في العلوم المختلفة اتساعاً لم أره في عالم عربي وقد انتبه بعض علماء فارس لهذه النكتة فأخذوا ولاسيما في العهد الأخير يخدمون العامة بما ينفعهم ويطبقون لهم المدنية على حسب عقولهم وهم هناك بضعة عشر رجلاً ورأسهم المجتهد السيد جمال الدين فقد قرأت له خطباً في هذا الموضوع لا تقل في جودتها عن خطب أرنست لافيس وجبرائيل سيايل وغيرهما من فلاسفة فرنسا المعاصرين ممن لا يرون حطة في أقدارهم أن يتنزلوا لتعليم العامة لاعتبارهم إياهم عمد أخبية المجتمع وقواعد بنيان بني الإنسان.

إن يوماً نرى فيه هذه البلاد مملوءة بخزائن كتب يختلف إليها العامة فيتناولون فيها ما شاؤوا من المطبوعات والأسفار البسيطة النافعة ومدراس ليلية أو نهارية ابتدائية لتعليم الكبار والصغار والبنات والصبيان ومعارض ومتاحف في كل مديرية أو متصرفية أو عمالة لهو يوم سعيد يسوغ بعدها لأمتنا أن تدعي أنها راقية تستحق استقلالها في سياستها إذ حررت العقول من ظلمتها.