انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 25/الأدب الصغير

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 25/الأدب الصغير

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 2 - 1908


لابن المقفع

عني بنشره الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري

توطئة الناشر

من أعظم ما تدعو الحاجة إليه علم تهذيب الأخلاق لتوقف نجاح الأمم عليه وهو فن ذو أفنان تحتاج إليه الأفراد على اختلاف طبقاتها. ومع قلة ما انتشر من كتبه ففي جلها من عدم التنقيح وانسجام العبارات ما يصد كثيراً من الطالبين عن الإقبال عليها. ومن ثم كثر بحثنا عن كتب تفي بهذا المطلب مع رشاقة مبانيها لتكون الفائدة مزدوجة وهو أقصى آمال الذين يسعون في إحياء اللغة العربية وإعادتها إلى ما كانت عليه في عهدها الأول.

ولما ذهب إلى مدينة بعلبك سنة 1233 رأيت عند بعض الأفاضل الواردين عليها مجموعاً استعاره من بعض أعيانها فرأيت فيه الضالة المنشودة وهي رسالة الأدب الصغير لعبد الله بن المقفع الكاتب الذي يضرب ببلاغته المثل فكتبتها بخطي في نحو يوم وأرجو أن ييسر لنشرها من عرف بحسن الطبع ليعم بها النفع والله الموفق.

وهذا بيان الرسائل التي في المجموع المذكور:

1 ـ كتاب عجائب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو في نحو ثلاث كراسات يشتمل على ما نقل عنه من بدائع الأحكام.

2 ـ ذكر الخلائف وعنوان المعارف تأليف الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد أوله الحمد لله الواحد العدل وصلى الله على النبي وخيرة الأهل وقد أسعفنك بالمجموع الذي التمسته في نسب النبي عليه السلام وبنيه وبناته وأعمامه وعماته وجمل من غزواته وسائر ما يتصل بذلك وهو إثنتا عشرة ورقة وفي آخره. وكتب في رجب سنة عشرين وأربعمائة.

3 ـ رسالة إلى أحمد بن أبي داؤد في فضل العلم وهي 3 أوراق وفي آخرها: وكتب في شهر ربيع الأول سنة عشرين وأربعمائة.

4 ـ ويتلوها كتاب الأدب الصغير الذي نقلناه وهو في الصفحة اليسرى من آخر ورقة من الرسالة السابقة بخط كاتب واحد فتكون كتابتها في التاريخ المذكور ولم يذكر في آخرها تاريخ.

5 ـ ويتلوه كتاب ذخائر الحكمة تأليف أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي وهو في نحو ثلاث وعشرين ورقة.

6 ـ مختصر من كتاب جاويدان خرد في حكم الفرس والهند والروم والعرب تأليف أحمد بن مسكويه وهو أكثر من كراس.

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد فإن لكل مخلوق حاجة ولكل حاجة غاية ولكل غاية سبيلاً والله وقت للأمور أقدارها وهيأ إلى الغايات سبلها وسبب الحاجات ببلاغها فغاية الناس وحاجاتهم صلاح المعاش والمعاد. والسبيل إلى دركها العقل الصحيح. ومارة صحة العقل اختيار الأمور بالبصر. وتنفيذ البصر بالعزم. وللعقول سجيات وغرائز تقبل الأدب وبالأدب تنمي العقول وتزكو فكما أن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدر على أن تخلع يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرض بزهرتها ونضرتها وريعها ونمائها إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها فيذهب عنها أذى اليبس والموت ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة فكذلك سليقة العقل مكنونة في مغرزها في القلب لا قوة لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعتملها الأدب الذي هو نماؤها وحياتها ولقاحها. وجلُّ الأدب بالمنطق وكل المنطق بالتعلم ليس حرف من حروف معجمه ولا اسم من أنواع أسمائه غلا وهو مروي متعلم مأخوذ عن إمام سابق من كلام أو كتاب وذلك دليل على أن الناس لم يبتدعوا أصولها ولم يأتهم علمها إلا من قبل العليم الحكيم. فإذ خرج الناس من أن يكون لهم عمل أصيل وأن يقولوا قولاً بديعاً فليعلم الواصفون المخبرون أن أحدهم وإن أحسن وأبلغ ليس زائداً على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتاً وزبرجداً ومرجاناً فنظمه قلائد وسموطاً وأكاليل ووضع كل فص في موضعه وجمع إلى كل لون شبهه مما يزيده بذلك حسناً فسمي بذلك صائغاً رفيقاً. وكصاغة الذهب والفضة صنعوا فيها ما يعجب الناس من الحلي والآنية. وكالنحل وجدت ثمرات أخرجها الله طيبة وسلكت سبلاً جعلها الله ذللاً فصار ذلك شفاء وطعاماً وشراباً منسوباً إليها مذكوراً به أمرها وصنعتها فمن جرى على لسانه كلام يستحسنه أو يستحسن منه فلا يعجبن به إعجاب المخترع المبتدع فإنه إنما اجتباه كما وصفناه.

ومن أخذ كلاماً حسناً عن غيره فتكلم به في موضعه على وجهه فلا يرين عليه في ذلك ضؤولة فإنه في أعين على حفظ قول المصيبين وهدي للاقتداء بالصالحين ووفق للأخذ عن الحكماء فلا عليه أن لا يزداد فقد بلغ الغاية وليس بناقصه في رأيه ولا بغائضه من حقه أن لا يكون هو استحدث ذلك وسبق إليه وإنما حياة العقل الذي يتم به ويستحكم خصال ست: الإيثار بالمحبة، والمبالغة في الطلب، والتثبت في الاختيار، والاعتقاد للخير، وحسن الوعي، والتعهد لما اختير واعتقد، ووضع ذلك موضعه قولاً وعملاً.

أما المحبة فإنما يبلغ المرء مبلغ الفضل في كل شيء من أمر الدنيا والآخرة حين يؤثر بمحبته فلا يكون شيء أمرأ ولا أحلى عنده منه. وأما الطلب فإن الناس لا يغنيهم حبهم ما يحبون وهواهم ما يهوون عن طلبه وابتغائه ولا يدرك لهم بغيهم نفاستها في أنفسهم دون الجد والعمل. وأما التثبت والتخير فإن الطلب لا ينفع إلا معه وبه فكم من طالب رشد وجده وألغي معاً فاصطفى منهما ألذ منه هرب وألغى الذي سعى فإذا كان الطالب يحوي غير ما يريد وهو لا يشك بالظفر فما أحقه بشدة التبيين وحسن الابتغاء. وأما اعتقاد الشيء بعد استبانته فهو ما يطلب من إحراز الفضل بعد معرفته. وأما الحفظ والتعهد فهو تمام الدرك لأن الإنسان موكل به النسيان والغفلة فلا بد له إذا اجتبى صواب قول أو فعل من أن يحفظه عليه ذهنه لأوان حاجة شديدة فإننا لم نوضع في الدنيا موضع غناء وخقض ولكن موضع فاقة وكد ولسنا إلى ما يمسك بأرماقنا من المطعم والمشرب بأحوج منا إلى ما يثبت عقولنا من الأدب الذي به تفاوت العقول وليس غذاء الطعام بأسرع من نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل ولسنا بالكد في طلب المتاع الذي يلتمس به دفع الضر والعيلة بأحق منا بالكد في طلب العلم الذي يلتمس به صلاح الدين والدنيا.

وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفاً فيها عون على عمارة القلوب وصقالها وتجلية أبصارها وإحياء للتفكير وإقامة للتدبير ودليل على محامد الأمور ومكارم الأخلاق إن شاء الله.

الواصفون أكثر من العارفين. والعارفون أكثر من الفاعلين، فلينظر امرؤ أين يضع نفسه فإنه لكل امرئ لم تدخل عليه آفة نصيباً من اللب يعيش به لا يحب أن له به من الدنيا ثمناً. وليس كل ذي نصيب من اللب بمستوجب أن يسمى في ذوي اللباب ولا أن يوصف بصفاتهم. فمن رام أن يجعل نفسه لذلك الاسم والوصف أهلاً فليأخذ له عتاده وليعد له طول أيامه وليؤثره على أهوائه فإنه قد رام أمراًُ جسيماً لا يصلح على الغفلة ولا يدرك بالمعجزة ولا يصير عليه الأثرة وليس كسائر أمور الدنيا وسلطانها ومالها وزينتها التي قد يدرك منها المتواني ما يفوت المثابر ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم.

وليعلم أن على العامل أموراً إذا ضيعها حكم عليه بمقارنة الجهال. فعلى العامل أن يعلم أن الناس مشتركون مستوون في الحب لما يوافق والبغض لما يؤذي وأن هذه منزلة اتفق عليها الحمقى والأكياس ثم اختلفوا بعدها في ثلاث خصال هن جماع الصواب وجماع الخطإ وعندهن تفرقت العلماء والجهال والحزمة والعجزة.

الباب الأول في ذلك

أن العاقل ينظر فيما يؤذيه وفيما يسره فيعلمك أن أحق ذلك بالطلب إن كان مما يحب وأحقه بالاتقاء إن كان مما يكره أطوله وأدومه وأبقاه فإذا هو قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا وفضل سرور المروءة على لذة الهوى وفضل الرأي الجامع العام الذي تصلح به الأنفس والأعقاب على حاضر الرأي الذي يستمع به قليلاً ثم يضمحل وفضل الأكلات على الأكلة والساعات على الساعة.

والباب الثاني هو أن ينظر فيما يؤثر من ذلك فيضع الرجاء والخوف فيه موضعه فلا يجعل اتقاءه لغير المخوف ولا رجاءه في غير المدرك فيترك اللذات طلباً لآجلها ويحتمل قريب الأذى توقياً لبعيده فإذا صار إلى العاقبة بدا له أن فراره كان تورطاً وأن طلبه كان تنكباً.

والباب الثالث من ذلك هو تنفيذ البصر بالعزم بعد المعرفة بفضل الذي هو أدوم وبعد التثبت في مواضع الرجاء والخوف فإن طالب الفضل بغير بصر تائه حيران ومبصر الفضل بغير عزم ذو زمانه محروم. وعلى العاقل مخاصمة نفسه ومحاسبتها والقضاء عليها والإبانة لها والتنكيل بها.

أما المحاسبة فيحاسبها بما لها فإنه لا مال لها إلا أيامها المعدودة التي ما ذهب منها لم يستخلف كما تستخلف النفقة وما جعل منها في الباطل لم يرجع إلى الحق فيتنبه لهذه المحاسبة عند الحول وإذا حال والشهر إذا انقضى واليوم إذا ولى فينظر فيما أفنى من ذلك وما كسب لنفسه فيه وما اكتسب عليها في أمر الدين وأمر الدنيا فيجمع ذلك في كتاب فيه إحصاء وجد وتذكير وتبكيت للنفسي وتذليل لها حتى تعترف وتذعن.

وأما الخصومة فإن من طباع النفس الأمارة بالسوء أن تدعي المعاذير فيما مضى والأماني فيما بقي فيرد عليها معاذيرها وعللها وشبهاتها.

وأما القضاء فإنه يحكم فيما أرادت من ذلك على السيئة فبأنها فاضحة مردية موبقة وللحسنة بأنها زائنة منجية مربحة. وأما الإبانة والتنكيل فإنه يسر نفسه بتذكر تلك الحسنات ويرجو عواقبها وتأمين فضلها ويعاقب نفسه بالتذكر للسيئات والبشع بها والاقشعرار منها والحزن لها.

فأفضل ذوي الألباب أشدهم لنفسه بهذا أخذاً وأقلهم عنها فترة ولى العاقل أن يذكر الموت كل يوم وليلة مراراً ذكراً يباشر القلوب ويقذع الطماح فإن كثرة ذكر الموت عصمة من الأشر وأماناً بإذن الله من الهلع.

وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين وفي الرأي وفي الأخلاق وفي الآداب فيجمع ذلك كله في صدر أو في كتاب ثم يكثر عرضه على نفسه ويكلفها صلاحه ويوظف ذلك عليها توظيفاً في إصلاح الخلة أو الخلتين والخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر فكلما أصلح شيئاً محاه وكلما نظر إلى ثابت اكتأب.

وعلى العاقل أن يتفقد محاسن الناس ويحفظها ويحصيها ويصنع غي توظيفها على نفسه وتعهدها بذلك مثل الذي وصفنا في إصلاح المساوي.

وعلى العاقل أن لا يخادن ولا يصاحب ولا يجاور من الناس ما استطاع إلا ذا فضل في الدين والعلم والأخلاق فيأخذ عنه أو موافقاً له على صلاح ذلك فيؤيد ما عنده وإن لم يكن له عليه فضل وإن الخصال الصالحة من البر لا تحيا ولا تنمى إلا بالموافقين والمهذبين والمؤيدين وليس لذي الفضل قريب ولا حميم هو أقرب إليه وأحب ممن وافقه على الخصال فزاده وثبته ولذلك زعم بعض الأولين أن صحبة بليد نشأ مع العلماء أحب إليهم من صحبة لبيب نشأ مع الجهال.

وعلى العاقل أن لا يحزن على شيء فاته من الدنيا أو تولى وأن ينزل ما أصاب من ذلك ثم انقطع عنه منزلة ما لم يصب وينزل ما طلب من ذلك ثم لم يدركه منزلة ما لم يطلب ولا يدع حظه من السرور بما أقبل منها ولا يبلغن سكراً ولا طغياناً فإن مع السكر النسيان ومع الطغيان التهاون ومن نسي وتهاون خسر.

وعلى العاقل أن يؤنس ذوي الألباب بنفسه ويجرئهم عليها حتى يصيروا حرساً على سمعه وبصره ورأيه فيستنيم إلى ذلك ويريح له قلبه ويعلم أنهم لا يغفلون عنه إذا هو غفل عن نفسه.

وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على نفسه أن لا يشغله شغل عن أربع ساعات ساعة يرفع فيها حاجته إلى ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يقضي فيها إلى أخوانه وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه وينصحونه في أمره وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها مما يحل ويجمل فإن هذه الساعات عون على الساعات الأخر وإن استجمام القلوب وتوديعها زيادة قوة لها وفضل لغة وعلى العاقل أن لا يكون راغباً إلا في إحدى ثلاث خصال تزود لمعاد أو مرمة المعاش أو لذة في غير محرم.

وعلى العاقل أن يجعل الناس طبقتين مختلفتين متباينتين ويلبس لهم لباسين مختلفين فطبقة من العامة يلبس لهم لباس انقباض وانحجاز وتحرز وتحفظ في كل كلمة وخطوة وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدد ويلبس لباس الأنسة واللطف والبذلة والمفاوضة ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحد من ألف كلهم ذو فضل في الرأي وثقي في المودة وأمانة في السر ووفاء بالإخاء.

وعلى العاقل أن لا يستصغر شيئاً في الخطأ والزلل في العلم والإغفال في الأمور فإن من استصغر الصغير أوشك أن يجمع إليه صغيراً وصغيراًَ فإذا الصغير كبير وإنما هي ثلم يثلمها العجز والتضييع فإذا لم تسد أوشكت أن تنفجر بما لا يطاق ولم نر شيئاً قط قد أتى إلا من قبل الصغير المتهاون به.

قد رأينا الملك يؤتى من قبل العدو المحتقر ورأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يحفل به ورأينا الأنهار تنبثق من الجدول الذي يستخف به وأقل الأمور احتمالاً للضياع الملك لأنه ليس منه شيء يضيع وإن كان صغيراً وإلا اتصل بآخر يكون عظيماً.

وعلى العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقاً وإن ظن أنه على اليقين، وعلى العاقل أن يعرف أن الرأي والهوى متعاديان وأن من شأن الناس تسويف الرأي وإسعاف الهوى فيخالف ذلك ويلتمس أن لا يزال هواه مسوفاً ورأيه مسعفاً.

وعلى العاقل إذا اشتبه عليه أمران فلم يدر في أيهما الصواب أن ينظر أهواهما عنده فيحذره.

من نصب نفسه للناس إماماً في الدين فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمة والرأي واللفظ والأخدان فيكون تعليمه بسيرته أبلغ من تعليمه بلسانه فإنه كما أن كلام الحكمة يونق الأسماع فكذلك عمل الحكمة يروق العيون والقلوب ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم.

ولاية الناس بلاء عظيم.

وعلى الوالي أربع خصال هي أعمدة السلطان وأركانه التي بها يقوم وعليها يثبت: الاجتهاد في التخير ـ والمبالغة في التقدم ت والتعهد الشديد ت والجزاء العتيد.

أما التخير للعمال والوزراء فإنه نظام الأمر ووضع مؤونة البعيد المنتشر فإنه عسى أن يكون بتخيره رجلاً واحداً قد اختار ألفاً لأنه من كان من العمال خياراً فسيختار كما اختير ولعل عمل العامل وعمل عماله يبلغون عدداً كثيراً فمن تبين التخير فقد أخذ بسبب وثيق ومن أسس أمره على غير ذلك لم تجد لبنيانه قواماً. وأما التقديم والتوكيل فإنه ليس كل ذي لب وذي أمانه يعرف وجوه الأمور والأعمال ولو كان بذلك عارفاً لم يكن صاحبه حقيقاً أن يكل ذلك إلى عمله دون توقيفه عليه وتبيينه له والاحتجاج به عليه وأما التعهد فإن الوالي إذا فعل ذلك كان سميعاً بصيراً وأن العامل إذا فعل ذلك به كان متحصداً حريزاً وأما الجزاء فإنه تثبيت المحسن والراحة من المسيء.

لا يستطاع السلطان إلا بالوزراء والأعوان ولا تنفع الوزراء إلا بالمودة والنصيحة ولا المودة إلا مع الرأي والعفاف وأعمال السلطان كثيرة وقلما تستجمع الخصال المحمودة عند أحد وإنما الوجه في ذلك والسبيل إليه الذي يستقيم به العمل أن يكون صاحب السلطان عالماً بأمور من يريد الاستعانة به وما عند كل رجل من الرأي والغناء وما فيه من العيوب فإذا استقر ذلك عنده عن علمه وعلم من يأتمن وجه لكل عمل من قد عرف أن عنده من الرأي والنجدة والأمانة ما يحتاج إليه فيه وإن ما فيه من العيوب لا يضر بذلك ويتحفظ من أن يوجه أحداً وجهاً لا يحتاج فيه إلى مروءة إن كانت عنده ولا يأمن عيوبه وما يكره منه.

ثم على الملوك بعد ذلك تعهد عمالهم وتفقد أمورهم حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن ولا إساءة مسيء.

ثم عليهم بعد ذلك أن لا يتركوا محسناً بغير جزاء ولا يقروا مسيئاً ولا عاجزاً على الإساءة والعجز فإنهم إن تركوا ذلك تهاون المحسن واجترأ المسيء وفسد الأمر وضاع العمل. اقتصاد السعي أبقى للجمام ومن بعد الهمة يكون النصب ومن سأل فوق قدرة استحق الحرمان.

سوء حمل الغنى أن يكون عند الفرح مرحاً وسوء حمل الفاقة أن يكون عند الطلب شرهاً وعار الفقر أهون من عار الغنى والحاجة مع المحبة خير من الغنى مع البغضة. والدنيا دول فما كان منها لك أتاك على ضعفك وماكان عليك لم تدفعه بقوتك. إذا جعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق وأبين في المعنى وآنق للسمع وأوسع لشعوب الحديث.

أشد الفاقة عدم العقل وأشد الوحدة وحدة اللجوج ولا مال أفضل من العقل ولا أنس آنس من الاستشارة مما يعتبر به صلاح الصالح وحسن نظره للناس أن يكون إذا استعتب المذنب ستوراً لا يشيع وإذا استشير سمحاً بالنصيحة مجتهداً بالرأي وإذا استشار مطرحاً للحياء ومعترفاً بالحق.

القسم الذي يقسم للناس ويمتعون به نحوان فمنه حارس ومنه محروس فالحارس العقل والمحروس المال.

والعقل بإذن الله هو الذي يحرز الحظ ويؤنس الغربة وينفي الفاقة ويعرف النكرة ويثمر المكسبة ويطيب الثمرة ويوجه السوقة عند السلطان ويستنزل للسلطان نصيحة السوقة ويكسب الصديق وينفي العدو.

كلام اللبيب وإن كان نزاراً أدب عظيم ومقارفة المآثم وإن كان محتقراً مصيبة جليلة ولقاء الأخوان وإن كان يسيراً غنم حسن.

قد يسعى إلى أبواب السلطان أجناس من الناس كثيراً أما الصالح فمدعو وأما الطالح فمقتحم وأما ذو الأدب فطالب وما من لا أدب له فمحتبس وأما القوي فمدافع وأما الضعيف فمدفوع وأما المحسن فمستثيب وأما المسيء فمستجير فهو مجمع البر والفاجر والعالم والجاهل والشريف والوضيع.

الناس إلا قليلاً ممن عصم الله مدخولون في أمورهم فقائلهم باغ ـ وسامعهم عياب ـ وسائلهم متعنت ـ ومجيبهم مكتف ـ وواعظهم فغير محقق لقوله بالفعل ـ وموعوظهم غير سليم من الاستخفاف ـ والأمين منهم غير متحفظ من إتيان الخيانة ـ وذو الصدق غير محترس من حديث الكذبة ـ وذو الدين غير متورع عن تفريط الفجرة ـ والعازم منها غير تارك لتوقع الدوائر ـ يتناقضون البنى ـ ويترقبون الدول ـ ويتعاطون القبيح ـ ويتعاينون بالغمز ـ ويرعون في الرخاء بالتحاسد ـ وفي الشدة بالتجاذب.

ثم قد انتزعت الدنيا ممن قد استمكن منها واعتكفت له فأصبحت الأعمال أعمالهم والدنيا دنيا فغيرهم وأخذ متعهم من لم يحمدهم وخرجوا إلى من لا يعذرهم فأصبحنا خلفاً من بعدهم نتوقع مثل الذي نزل بهم فنحن إذا تدبرنا أمورهم أحقاء أن ننتظر ما نغبطهم به فنتبعه وما نخاف عليهم منه فنجتنبه.

كان يقال أن الله تعالى قد يأمر بالشيء ويبتلي بثقله وينهى عن الشيء ويبتلي بشهوته فإذا كنت لا تعمل من الخير إلا ما اشتهيت ولا تترك من الشر إلا ما كرهت فقد أطلعت الشيطان على عورتك وأمكنته من أزمّتك فأوشك أن يقتحم عليك فيما تحب من الخير فيكرهه إليك وفيما تكرهه من الشر فيحببه إليك. ولكن ينبغي لك في حب ما تحب من الخير التحامل على ما يستثقل منه وينبغي لك في كراهة ما تكره من الشر التجنب لما تحب منه.

للدنيا زخرف يغلب الجوارح ما لم تغلبه الألباب والحكيم من لم يغض عليه طرفه ولم يشغل به قلبه أطلع من أدناه فيما وراءه وذكر في بدئه لواحق شره فأكل مره وشرب كدره ليحلولي له ويصفو في طول من إقامة العيش الذي بقي ويدوم غير عائف للرشد إن لم يلقه برضاه ولم يأته من طريق هواه.

ولا تألف المستوخم ولا تقم على غير الثقة. فقد بلغ فضل الله على الناس من السعة وبلغت نعمته عليهم من السبوغ ما لو أن أخسهم حظاً وأقلهم منه نصيباً وأضعفهم علماً وأعجزهم عملاً وأعياهم لساناً بلغ من الشكر والثناء عليه بما خلص إليه من فضله ووصل إليه من نعمته ما بلغ له منه أعظمهم حظاً وأوفرهم نصيباً وأفضلهم علماً وأقواهم عملاً وأبسطهم لساناً لكان عما استوجب الله عليه مقصراً وعن بلوغ غاية الشكر بعيداً ومن أخذ بحظه من شكر الله وحمده ومعرفة نعمه والثناء عليه والتمجيد له فقد استوجب بذلك من أدائه إلى الله والقربة عنده والوسيلة إليه والمزيد فيما شكره عليه خير الدنيا وحسن ثواب الآخرة.

أفضل ما يعلم بع علم ذي العلم وصلاح ذي الصلاح أن يستصلح بما أوتي من ذلك ما استطاع من الناس ويرغبهم فيما رغب فيه لنفسه من حب الله وحب حكمته والعمل بطاعته والرجاء لحسن ثوابه في المعاد إليه وأن يتبين الذي لهم من الأخذ بذلك والذي عليهم في تركه وأن يورث ذلك أهله ومعارفه ليلحقه أجره بعد الموت.

الدين أفضل المواهب التي وصلت من الله تعالى إلى خلقه وأعظمها منفعة وأحمدها في كل حكمة فقد بلغ فضل الدين والحكمة أن مدحا على ألسنة الجهال على جهالتهم بهما وعماهم عنهما.

أحق الناس بالسطان أهل الرأفة وأحقهم بالتدبير العلماء وأحقهم بالعلم أحسنهم تأديباً وأحقهم بالغنى أهل الجود وأقربهم من الله أنفذهم في الحق علماً وأكملهم به عملاً وأحكمهم أبعدهم من الشك في الله تعالى وأصوبهم رجاء أوثقهم بالله وأشدهم انتفاعاً بعلمه أبعدهم من الأذى وأرضاهم في الناس أفشاهم معروفاً وأقواهم أحسنهم معونة وأشجعهم أشدهم على الشيطان وأفلجهم بالحجة أغلبهم للشهوة والحرص وآخذهم بالرأي أتركهم للهوى وأحقهم بالمودة أشدهم لنفسه حياء وأجودهم أصوبهم بالعطية موضعاً وأطولهم راحة أحسنهم للأمور احتمالاً وأقلهم دهشاً أرحبهم ذرعاً وأوسعهم غنى أقنعهم بما أوتي وأخفضهم عيشاً أبعدهم من الإفراط وأظهرهم جمالاً أظهرهم حصافة.

وآمنهم في الناس أكلهم ناباً ومخلباً.

وأثبتهم شهادة عليهم أنطقهم عنهم.

وأعدلهم فيهم أدومهم مسالمة لهم.

وأحقهم بالنعم أشكرهم لما أوتي منها.

أفضل ما يورث الآباء الأبناء الثناء الحسن والأدب النافع والأخوان الصالحون.

فصل ما بين الدين والرأي أن الدين يسلم بالإيمان وأن الرأي يثبت بالخصومة فمن جعل الدين خصومة فقد جعل الدين رأياً ومن جعل الدين رأياً فقد صار شارعاً ومن كان هو يشرع لنفسه الدين فلا دين له.

قد يشتبه الدين والرأي في أماكن لولا تشبههما لم يحتاجا إلى الفصل.

(للكتاب بقية).