مجلة المقتبس/العدد 12/تراسل الأفكار
مجلة المقتبس/العدد 12/تراسل الأفكار
حدث مرةً أن أميراً شهيراً من أمراء بلاد بعث بنفر من أخص اتباعه إلى إيالة يتولى أمرها رجل وافر الثروة عظيم الجاه نافذ الكلمة حتى صبح نداً للأمير المشار إليه يخشى بأسه ويحذر جانبه فلم ير الأمير من وسيلة للتفرد بالحكم والسلطان سوى التخلص من ذلك الند بطريقة من الطرق وبعد التروي في الأمر عول على اغتياله فأسر ذلك إلى الأتباع المنوه عنهم وبقي سراً مدفوناً في قلوبهم لا يعلم به أحد من البشر. وبينما الأتباع سائرون لقضاء مهمتهم في وسط واد وإذا برجل واقف على صخر شاهق يناديهم قائلاً أيها القوم ألا يكفي اثنان منكم لقتل فلان وذكر اسم الرجل فعرتهم الدهشة وتولاهم الهلع والذهول لأن رجلاً آخر في العالم وقف على سر الدسيسة وهم على يقين أنه لم يعلم أحد سواهم به إلا الأمير.
وهذه الحقيقة وأمثالها التي كان يسخر منها العلماء منذ بضع سنين وينسبونها إلى الصدفة أو الأوهام قد أصبحت شغلاً شاغلاً لعلماء ما وراء المادة وسيكون لها شأن خطير في رفع ستار الإبهام عن حقيقة القوى العقلية التي لا نعلم من أمرها حتى الآن سوى النزر اليسير.
الطريقة التي جرى عليها البشر في نقل الأفكار من دماغ إلى دماغ أو من عقل إلى عقل هي واحدة من اثنتين وهما اللفظ والكتابة ففي الأولى يكون عضو السمع هو الواسطة في نقل الفكر إلى الدماغ وفي الثانية يكون الواسطة عضو البصر إلا أنه قد تبين الآن بعد طول البحث والاختبار أن هنالك طريقة ثالثة ينتقل بها الفكر من دماغ إلى آخر في الفضاء على مسافة ألوف من الأميال دون وسيلة من الوسائل المادية وهذه الظاهرة الغريبة من ظواهر علم ما وراء المادة التي لم يتفق العلماء حتى الآن على وضع لفظ لها في اللغات الأجنبية يقع عليه الإجماع قد أطلقنا عليها في العربية لفظ تراسل الأفكار وهي الغرض من هذه المقالة.
والمراد بتراسل الأفكار انتقال فكر من دماغ إلى دماغ دون توسط إحدى آلات الحس المعروفة فقد يتفق أن ينقل شاب في القاهرة وهو في حال النزع شعوره في لحظة حدوث تلك الأعراض لوالدة له قد تكون في باريس مثلاً فتشعر بنزع ابنها في تلك اللحظة عينها وليس فقط بل قد يتاح له أن ينقل إليها في تلك اللحظة أيضاً وصيته وأمانيه الأخيرة بحيث تتجلى لوالدته واضحة كل الوضوح وليس هذا من باب التخرصات والأوهام ولكنه حقيقة علمية أجمع جلة الفلاسفة على الإقرار بصحتها ولكنهم اختلفوا في تعليلها وهم في ذلك فريقان فريق الماديين وفريق الروحيين.
والشواهد على صحة ما تقدم كثيرة تعد بالألوف نجتزئ هنا بذكر واحدة منها يكون بمثابة أنموذج للمطالع اللبيب وهو أن شقيقة أحد الجنود الذين توجهوا إلى الترنسفال أثناء حرب البوير شعرت فجأة في لندرا أن أخاها أصيب برصاصة في صدره والدم ينزف غزيراً من جرحه وأفادها في تلك اللحظة عينها أنه عندما سقط جريحاً في ميدان الوغى عاونه رفيقان احتملاه من موضعه وأغاثاه جهد الطاقة وذكر اسميهما لها دون أن تكون قد سمعت بهما قبلاً على الإطلاق وأوصاها أن تخصهما بهبات مخصوصة من ملكه عينها لها تكون بمثابة تذكار منه إليهما اعترافاً بشهامتها فدونت الشقيقة هذا الشعور والتاريخ بالدقة ولم يكن سوى بضعة أسابيع حتى وردتها التفاصيل مؤيدة لما تقدم كل التأييد.
وليس من داع إلى الأغراب في إيراد الأدلة والشواهد فقد جرى في نفس القاهرة منذ عام أو عامين ما هو بمثابة ثبت لما تقدم إذ جاء رجل وامرأة وأظهرا من البراعة في قراءة الأفكار ما حير الحاضرين وأدهشهم ولقد تفنن الحضور في الإضمار تفنناً حتى أن أحدهم أخذ دبوساً ووضعه ضمن لفافة وضعها مع لفائف أخرى في علبة جعلها في جيبه فلما اقتربت المرأة من الرجل اعترتها هزة عصبية كمن هو في حيرة ثم ما لبثت أن وضعت يدها في جيب الرجل وأخرجت منها اللفافة فقطعتها قطعاً وأخرجت من وسطها الدبوس وهي تنتفض انتفاضاً.
ومن أهم شروط قراءة الأفكار أن يكون القارئ معصوب العينين لكي لا يستعين بقوة فراسته والاستدلال بملامح الوجه على ما يدور في خلد من أمامه وليتمكن من جمع قوى الذهن حتى تكون أشد تأثيراً وانفعالاً إذا كان مفتوح العينين وقد جلس مشاهير قراء الأفكار في حضرة أعظم ملوك العالم والقابضين على أعنة أحكامه فأدهشوا الحضور بما كانوا يأتونه من الإصابة في الحكم وكشف مخبآت الأفكار.
غير أن هنالك فرقاً جوهرياً بين قراءة الأفكار وتراسلها إذ أنه لابد في الحالة الأولى للقارئ من لمس أطراف أنامل الشخص أو جبهته أما في الحالة الثانية فلا شيءٌ من الملامسة بل تنتقل الأفكار من دماغ إلى دماغ آخر على بعد ألوف من الأميال دون توسط آلة من آلات الحواس المعروفة على ما مر بيانه وهو العقدة التي وقفت عندها الباب علماء ما وراء المادة حيارى يتلمسون لها حلاً ينطبق على شرائع الطبيعة ونواميسها.
إذا رميت حجراً في بركة ماء ساكن تكونت نقطة الوقوع في دوائر لا تحصى من التموجات تزيد كل منها عن التي ضمنها حتى تتلاشى في المحيط وذلك لأن دقائق السوائل سهلة الحركة فتفعل فيها القوة فعلاً متساوياً إلى كل الجهات وهذا هو السبب في تكون الحركة الناشئة من سقوط الحجر على شكل دوائر مختلفة الحجم لها مركز واحد وهو نقطة الوقوع ونفس هذه التموجات التي تحدث في الماء تحدث أيضاً في الهواء الذي هو في عرف علماء الطبيعة سائل لطيف فإذا صفقت كفاً بكف أحدث الصفق تموجات في الهواء إلى سائر الجهات فتقع على الأذن فتهتز طبلتها اهتزازاً يختلف باختلاف شدة الصفق وتنتقل الاهتزازات المذكورة على طرق لا مجال لتفصيلها إلى العصب السمعي الذي ينقلها إلى حاسة السمع في الدماغ فيشعر بالصوت.
إلا أن هناك سائلاً آخر في غاية اللطافة يملأ جوانب الفضاء ويتخلل إبعاد الأجرام السماوية ومسافات الكون لم تشاهده عين ولم تسمعه إذن ولم يخطر على قلب بشر في العصور السالفة أطلق عليه العلماء اسم الأثير واستدلوا على وجوده بأدلة ليس هنا محل شرحها فإذا تموجت دقائق هذا السائل تموجات خصوصية أحدثت الظاهرة الطبيعية التي نسميها بالنور وما اختلاف ألوان النور التي نشاهدها في قوس قزح سوى اختلاف تموجات الأثير فإذا انخفضت إلى درجة معلومة أصبحت حرارة أي أمواجاً لا تدرك بالعين بل يشعر بها بأعصاب الحس فالنور والحرارة إذاً صنوان إنما يدرك أحدهما بحاسة البصر والآخر بحاسة اللمس تبعاً لتموجات هذا الوسط اللطيف المسمى بالأثير.
واعتقاد الفريق الأكبر من العلماء الآن هو أن الفكر الذي يتولد في الدماغ يحدث أمواجاً خصوصية في الأثير شبيهة بأمواج النور التي مر بك بيانها ولكل فكر تموجه الخاص كما أن للأزرق من النور تموجات خصوصية في الأثير وللأحمر مثلها فكذلك لكل نوع من الأفكار تموجه الخصوصي في الوسط المشار إليه وكما أن النور يسير بسرعة مدهشة تبلغ نحواً من مائتي ألف ميل في الثانية حتى يتاح لنا إبصاره لحظة حدوثه فكذلك يتاح للفكر أن يحدث تموجاته الخصوصية في الأثير سائراً بمثل هذه السرعة العجيبة وكما يتأتى للقوة الباصرة في الدماغ أن تشعر بالنور على مثل هذه المسافة فكذلك يتأتى للدماغ أن يشعر بتموجات الفكر الصادر إليه من دماغ آخر لحظة حدوثها ولو كان أحدهما في جانب من الكرة الأرضية والآخر في الجانب المقابل.
فإذا أدركت ذلك هان عليك أن تقفه كيف تنتقل الأفكار لحظة حدوثها من دماغ إلى دماغ على مسافات شاسعة وكيف يمكن لقريب أن يشعر بما يجول في دماغ قريب له يقضي نحبه غير أن ذلك لا يتأتى لكل فرد الحصول عليه إذ لابد هنالك من استعداد خاص في الدماغ يؤهله لهذا الشعور البالغ منتهى الرقة ولولا ذلك لكان كل فرد من البشر قارئ أفكار والواقع يدلنا على أن ذلك محصور بفئة قليلة جداً ثم إن هذا الشعور دليل على وجود نفس للإنسان تتجلى لقريبها لحظة انفصالها عن الجسد أو هو ظاهرة طبيعية محضة يكفي التعليل عنها بما تقدم فهو مما لم يقطع به العلماء حتى الآن وليس من راضنا الخوض به في هذه المقالة فلكل فريق أدلته ولكل عالم دينه.
القاهرة
الدكتورخليل سعادة