انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 971/عالم الذباب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 971/عالم الذباب

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 02 - 1952


3 - عالم الذباب

بقلم المرحوم الأستاذ معروف الرصافي

(تتمة)

تكلم الدكتور في الفصل المذكور عن دوريل مكتشف البكتريوفاج. وقال أنه أثبت أن البكتريوفاج هو العامل الوحيد على إطفاء جائحات الهيضة المسماة بالهواء الأصفر أو الكوليرا، وإنه موجود في براز من هم في دور النقاهة من المرض المذكور، وإن الذباب يأخذه وينقله من براز هؤلاء، وإنه متى ظهر وانتشر الذباب الحامل للبكتريوفاج بكثرة في البلاد انطفأت جذوة الهواء الأصفر، وانقطع دابره بسرعة.

فيفهم من هذا، أن البكتريوفاج لا يوجد إلا في أيام الهيضة، لأن الذباب إنما يأخذه من براز الناقهين من هذا المرض، فإذا انقطعت الهيضة لم يبق للبكتريوفاج وجود. ولم يذكر لنا الدكتور في كتابه لا صراحة ولا ضمنا أن البكتريوفاج موجود في كل براز من براز الإنسان والحيوان لأنه إذا كان موجودا في كل براز لزم أن يكون موجودا في الذباب دائما وأبدا فأينما وجد الذباب وجد معه البكتريوفاج وإلا فلا.

ثم تكلم الدكتور في الفصل المذكور، فبين كيف كان دوريل يعمل على تكثير البكتويوفاج بازدراعه، وكيف كان يداوي به المريض بمرض الهيضة، وقال ثم أخرجت تجارب عديدة في الهند فأتت بنتائج باهرة فيما يختص بباسيل الدوز نطاريا الحادة، إلى أن قال فحصلوا على نتائج باهرة. وكان البكتريوفاج العامل في شفاء الكوليرا والدوزنطاريا الحادة. وقال ثم جاءت مجلة التجارب الطبية في عددها (54) الصادر في عام 1927 بمقال عنوانه البكتريوفاج في ذباب البيوت، قالت فيه لقد أطعم الذباب الذي يألف البيوت زرع الجراثيم المرضية، وبعد حين اختفى أثر هذه الجراثيم في الذباب فماتت كلها وتولد في الذباب مادة قاتلة تسمى البكتريوفاج. ويدعي الكاتب أنها خلاصة من الذباب، ومن محلول ملحي فسيولوجي، وأن هذه الخلاصة تحتوي على مادة البكتريوفاجين القوية المضادة لأربعة أنواع من الجراثيم المولدة للأمراض، أو أنها تحتوي على مادة نافعة أخرى ليست من نوع البكتريوفاج، ولكنها من حيث الجوهر تفيد الدفاع العضوي عند مقاومته أربعة أنواع من الجراثيم المرضية. هذا آخر ما قاله الدكتور في الفصل المذكور.

فيفهم من هذا فهما جليا، أن البكتريوفاج لا يشفي من جميع الأمراض وإنما يشفي من مرض الهيضة والدوزنطاريا لأن هذين المرضين يشتركان في أنهما اختلال في الأمعاء. ويفهم أيضاً أن البكتريوفاج لا يضاد جميع الجراثيم المضادة التي ينقل الذباب بواسطتها الأمراض إلى الناس، وتكلم الدكتور عنها وعددها في الفصل الثاني من رسالته، فذكر منها السل والدراخوما والتيفوئيد والزحار والطاعون والحمرة والجمرة الخبيثة والكوليرا والجذام والتيفوس والرمد بأنواعه.

وبهذا يتضح أن الذباب لا يأخذ البكتريوفاج إلا من براز الناقهين من مرض الهيضة، وهذا لا يوجد في كل زمان ومكان. وأما الخلاصة التي ذكرها عن مجلة التجارب الطبية والتي تحتوي على المادة البكتريوفاجية، فالبكتريوفاج فيها حاصل بالتطعيم ولم يأخذه الذباب من الخارج، إلا أنها تدل على أن الذباب فيه خاصية توليد المادة البكتريوفاجية المضادة لأربعة أنواع من الأمراض لا للأمراض كلها، وهذا لا يلزم منه أن يكون الذباب مطهرا بالبكتريوفاج من جميع الأدواء، ولا شافيا من جميع الأمراض، كما أنه لا يستوجب غمس الذباب في الشراب على الإطلاق. أما الحديث فإنه يطلق الأمر بغمس الذباب ولم يقيده بشيء.

هذا ما نستخلصه من كلام الدكتور للجواب على السؤالين المذكورين في صدر المقال ثم نقول

إن البكتريوفاج لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون موجودا في الذباب دائما وأبدا وشافيا من جميع الأمراض، وإما أن لا يكون كذلك. فعلى التقدير الأول يلزم أن نتخذ الذباب في حياتنا واقياً لنا من جميع الأمراض، وأن نعني كل العناية به وبتنميته وبتكثيره في بيوتنا وألا نتحاشاه، بل نضعه في أطعمتنا وأشربتنا لنأمن به من عاديات الأسقام وجائحات الأمراض.

وإذا كان هذا حقا فلماذا نرى الدكتور في رسالته يصيح بالناس صيحة النذير العريان، فيحذرهم من أخطاره وينذرهم بأضراره، ويستحثهم على محوه واستئصاله، كما أطال الكلام بذلك في الباب السادس والسابع والثامن من رسالته.

وأما على التقدير الثاني، وهو أن البكتريوفاج لا يوجد في الذباب دائما وأبدا، وإنما يوجد فيه عند حدوث أحوال وظروف خاصة، وأنه لا يشفي من جميع الأمراض ولا يضاد جميع الجراثيم، وإنما يشفي من أمراض خاصة، ويضاد أربعة من الجراثيم المضرة، فنقول فيه أنه يلزم حينئذ أن يكون الأمر بغمس الذباب في الشراب مقيدا بتلك الظروف والأحوال، لا مطلقا. ولا يخفى أن الحديث الذي جعله الدكتور من معجزات الرسول يطلق الأمر بالغمس ولم يقيده بشيء، كما أنه يخص بالشفاء أحد الجناحين دون الآخر.

أما أنا فلا أشك في أن الحديث موضوع لا أصل له كما ذكرت ذلك وبينته في كتابي (الشخصية المحمدية) عند الكلام على الرواية عند العرب. ومن العبث أن نفتش عن معجزات رسول الله في مثل هذه الأمور التي يكتشفها الناس ويصلون إلى معرفتها بالطرق العلمية والوسائط الفنية، ولو كانت معجزة لما قدروا على اكتشافها. ولو جاز أن نثبت معجزة من هذا النوع لجاز أن نثبتها للمتنبي شاعر العرب فإنه قبل عشرة قرون قال:

لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعلل

انتقد المتنبي على هذا وقيل له هذا من قول الطبيب أو الحكيم كما تفي رسالة الحاتمي أو غيره، فأنظر إليها فقد قال هذا في الأيام التي كان التطعيم فيها بجراثيم الأمراض غير معلوم، وفي البكترويولوجيا غير موجود، فأين هذا وأين المعجزات؟

إن الله لم يرسل رسوله إلى الناس لتعليمهم العلم وإنما أرسله إليهم ليصلحهم ويأخذهم بالطاعة وبالأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، ذلك لأن السعادة الإنسانية لا تتحقق إلا في مجتمع، وإن المجتمع لا يتم بناؤه إلا بالتعاون المخلص، والخلق المستقيم الصادق وبالعمل الصالح كما ذهب إليه ابن رشد وغيره من فلاسفة الإسلام، فليس غرض الشارع تلقين العلم، بل غرضه كما قلنا أخذ الناس بالطاعة وبالأعمال الصالحة.

أما المعجزة فهي كل ما خرج عن مقدور البشر عادة، فلا بد للمعجزة من خرق العادة، ولذلك قالوا (لله خرق العادات) وأما هذه الأمور المجهولة فهي داخلة في مقدور الناس عادة. لأنهم يتوصلون إلى اكتشافها ومعرفتها بالتجريب أو بالبحث والتنقيب أو بغير ذلك من الطرق العلمية.

ونحن إذا أردنا أن نعرف معجزة المعجزات فلننظر إلى رسول الله محمد بن عبد الله يتيم مكة وفقيرها كيف قام بالدعوة إلى الإسلام في أيام كان العرب فيها محتربين متعادين متناكرين، يأكل بعضهم بعضا كالنار تأكل بعضها إن لم تجد من تأكله، وكيف قاومته العرب حتى عشيرته الأقربون، وكيف استمر على الدعوة بنفسه الكبيرة وعزمه العظيم الجبار متحملا في سبيل ذلك من المصائب والمتاعب ما فوق طاقة كل إنسان، حتى جمع أشتات العرب ووحد كلمتهم! وأحدث بهم نهضة كبرى، عربية المبدأ، عالمية المنتهى، فسارت بهم أعلامهم إلى أقصى الشرق وأقصى الغرب خافقة بالنصر ومرفوفة بالعدل والإحسان، وكان كل ذلك في مدة لا تزيد على عشرين سنة بعد وفاته.

ولو أن سائحا في ذلك الزمان الذي لا واسطة فيه أسرع من البعير، أراد أن يسيح سياحة متفرج لا فاتح في البلاد التي نشروا فيها لواء العدل والتوحيد لما استطاع أن يتم سياحته في أقل من هذه المدة. فهذه معجزة المعجزات التي أظهرها الله على يد محمد، والتي لم يسبق ولن يكون لها نظير في تاريخ البشر.

بغداد 1943

معروف الرصافي