انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 971/دعوة محمد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 971/دعوة محمد

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 02 - 1952


3 - دعوة محمد

لتوماس كارليل

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

دين القوة والعدل

لقد اتهم كثيرون الدين الإسلامي بالشهوانية والدعوة إلى الاستكانة والخلود إلى الكسل، ولكني أرى أن كل ما كتب في هذا الموضوع وكل ما قيل فيه إنما هو جور وظلم لا يقبلهما منصف ولا يقرهما عاقل، فإن ما أباحه الإسلام مما تحرمه النصرانية، لم يكن من عند محمد وإنما كان متبعا لدى العرب جاريا عندهم من قديم الزمان. وكل ما عمله الإسلام أنه أراد أن يقلل من عادات العرب المستهجنة جهد استطاعته، وجعل عليها من الحدود والأحكام مما جعل الدين الإسلامي ليس سهلا هينا كما يدعي أولئك الحاقدون.

وكيف يكون الإسلام دينا هينا وفيه من القواعد الصعبة التي تربي المسلمين على الطاعة والنظام والنظافة والأخذ بأسباب القوة والمتعة؟ إن دينا فيه الوضوء وإقامة الصلاة خمس مرات في اليوم والصوم شهرا كاملا كل سنة، وتحريم الخمر والميسر والزنا وأكل أموال اليتامى وغير ذلك، لا يكون إلا دينا يعمل لخير البشرية جمعاء. وإن دخول الناس في الإسلام أفواجا، وإقبالهم عليه، لم يكن كما يدعون، لسهولته ويسره وقلة تكاليفه، لأنه من أفحش الطعن على بني البشر والقدح في عقولهم وذم أعمالهم، أن يتهموا بأن السبب في محاولتهم القيام بجلائل الأعمال والإتيان بعظائم الأمور، هو الراحة والدعة والإخلاد إلى الهدوء، والتماس الجانب اللذيذ من الحياة الدنيا والتمتع بما في الآخرة بأيسر السبل، فإن أي آدمي لا يخلو من العظمة ومحاولة الوصول إلى جلائل الأعمال.

فنحن نجد الرجل المقاتل الذي يؤجر روحه ويمينه بأبخس الأجر، يتمسك بالشرف والرفعة ولا ينفك يقول: لأفعلن ذلك وشرفي. ولن نجد آدميا مهما كان وضيعا يقبل أن يكون كل همه من الحياة ملء جوفه بالطعام، ولكنا نجده يحاول دائما أن يأتي بأعمال شريفة يذكر بها ليثبت للناس أنه يستحق الحياة، وأنه ليس أقل من سواه من بني البشر. وما أشد تعس الذين يرمون الإنسان بأنه ميال بفطرته إلى الراحة والدعة وأنه يحب الترف ويستكين إلى اللذة، وفاتهم أن الذي يجذب الإنسان ويستهويه إنما هي الأهوال والصعاب والقتل والاستشهاد. ومن أراد دليلا على قولي هذا، فليعمد إلى أبلد إنسان ويرشده إلى سبيل المكرمات والمحامد، فإنه لا يلبث أن يراه وقد اتقدت نفسه غيرة وتأجج قلبه حماسة، بل وإنه سيصبح بطلا عظيما. وما علينا إلا أن نقدح ما بنفس المرء من زناد الفضل فإنه لا بد وأن تشتعل نفسه نارا تحرق ما فيه من أوشاب ونقائص.

فمن الخطأ الفاحش أن نعتقد أن اعتناق الناس لدين من الأديان، عما يجدون فيه من يسر ودعة ومتاع ولذة، ولكنهم يدخلونه لما يثير في قلوبهم من عوامل الشرف والعظمة، ولما يبعث في نفوسهم من دواعي المجد والبطولة، والإسلام على الخصوص، ليس كما يتهمه خصومه دين راحة ودعة واستكانة ورضى بأي الحياة تكون، ولكنه دين عزة ومتعة ودين تربية وقوة، ودين شرف وفضيلة. وليس أدل على ذلك من سرعة انتشاره في أكثر بقاع الأرض في أقل من قرن من الزمان، صار العرب فيه سادة العالم وأساتذته.

وهذا ما للإسلام من مزايا وخلال عظيمة لا توجد - كما قلت - في دين غيره. وإن أشرف هذه المزايا وأجلها هي مساواته بين الناس، وهذه أكبر دليل على صواب الرأي وصدق النظر فالناس في الإسلام سواء لا يفضل أحدهم غيره إلا بالتقوى والعمل النافع (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)، (الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لابن البيضاء على ابن السوداء إلا بالتقوى والعمل).

ومن خلاله الحميدة، أنه لا يقتصر على جعل الصدقة سنة محبوبة بل جعلها فرضا على كل مسلم، وأنها إحدى قواعد الإسلام الخمس وقرنها بالصلاة (وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة) وجعلها جزءا مقدرا من مال المسلم الذي يستطيع إخراجها، توزع على الفقراء والمساكين وغيرهم ممن هم في حاجة إلى العون والمساعدة (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم).

ما هذا؟ أنه صوت الإنسانية الطاهرة الكبيرة. أنه نداء الرحمة والإخاء والمساواة يخرج من ذلك القلب الكبير قلب ابن الصحراء، يحث الناس أن يواسي أغنياؤهم فقراءهم ويقول لهم إن ما ستنفقونه سيرد إليكم أضعافا مضاعفة. (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء)، (مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين، فإن لم يصبها وابل فطل) ثم يحذرهم ويخوفهم عاقبة شحهم وكنزهم المال وعدم إنفاقه على من يستحقونه (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)

وأي دليل أقوى على تبرئة الإسلام من الميل إلى الملاذ والشهوات، من صيام شهر كامل كل سنة تزجر فيه النفس عن مطالبها وتحبس عن غاياتها، وتلجم فيه الشهوات، ويحال بينها وبين مآربها؟ وليس بالمهم أن يباشر المرء اللذات، وإنما المنكر هو أن تذل النفس وتخضع ضارعة لجبار الشهوات وتنقاد ذليلة خانعة لرغبات الشيطان، فإذا استطاع المرء أن يكون له على نفسه سلطان يكبح جماحها ويسلسل قيادها فإنه بذلك يكون قد بلغ أشرف المكارم وأمجد الخصال. وبهذا يستطيع أن يجعل من نفسه هاديا إلى الرشاد والخير، ومن لذائذه بدل أن تكون سلاسل وأغلالا تعييه وترهقه، يجعلها حليا وزخارف تزينه وتشرفه. وهذا هو المقصود من صوم شهر رمضان كل عام. وسواء أكان مقصودا من محمد لمسايرة ما كان عليه العرب قبل الإسلام أو كان من وحي الله له فهو والله نعم الأمر (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)

القرآن

أما القرآن فهو الكتاب الذي جاء به محمد من عند ربه، وضمنه تعاليم الإسلام وقواعده التي يجب على المسلمين اتباعها، وقد ضم بين دفتيه أحكاما لو اتبعها العالم لكان خيرا مما هو عليه الآن. وقد أعجب المسلمون به وحفظه أكثرهم عن ظهر قلب. وإن إعجابهم به وقولهم بإعجازه لأقوى دليل على اختلاف الأذواق في الأمم.

وقد ادعى كثير من الأوربيين أنه كتاب خال من الجمال والروعة، وفاتهم أن الترجمة هي التي تفقده روعته وتذهب بكثير من حسن صياغته وجمال صنعته. فإذا وجد غير العربي عناء ومشقة في فهمه ومعرفة وأسراره وأنه يخيل إليه وهو يقرأه أنه يقرأ صحيفة لا شيء فيها ويحمل نفسه المشاق والتعب ويحمل على ذهنه جبالا وهضابا من الكلم لا يجد بينها كلمة لها معنى في نفسه؛ ذلك لأنه قد ذهبت روعة المعاني وجمال الألفاظ بالترجمة التي لا يمكن أن تكون كالأصل.

أما العربي فإنه يرى القرآن على عكس ما يراه غيره؛ لأن هناك صلة قوية بين لغة القرآن وبين لغة العربي، بل أنه نزل بها وهي اللغة الفصيحة المحببة إليه (إنا أنزلناه قرآناً عربياً غير ذي عوج) (بلسان عربي مبين) ولما بينه وبين الذوق العربي من الملاءمة والاتصال، ولذلك عرف العرب قدره وعظموه وأعطوه من التبجيل والاحترام، ما لم ينل بعضه الإنجيل من أتقى النصارى، بل إنهم عدوه معجزة خارقة. وكيف لا يكون كذلك وقد عجزوا وهم البلغاء والفصحاء على أن يأتوا بسورة من مثله (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين).

إنه الوحي المنزل من عند الله هدى للناس وتبصرة وسراجا منيرا يوضح لهم سبل العيش ويهديهم صراطا مستقيما، ومنذ أن نزل القرآن وهو قاعدة التشريع والعمل والقانون المتبع في شؤون الحياة ومسائلها، وما برح في كل زمان ومكان مصدر أحكام القضاة ومرشدهم يستنيرون به ويهتدون بهديه، ومن تعظيم العرب له أنهم جعلوه درسا واجبا على كل مسلم حفظه ودرسه والاسترشاد به في أمور الحياة ومشكلاتها. وفي البلاد الإسلامية مساجد يرتل فيها القرآن صباح مساء وفي بعضها يتلى القرآن جميعه كل يوم مرة، يقوم بهذا العمل نحو ثلاثين قارئا.

إن هذا الكتاب ما يزال رغم انقضاء اثني عشر قرنا على نزوله، يرن صوته في آذان آلاف من المسلمين وفي قلوبهم تتجاوب أصداؤه جنبات كثير من بقاع الأرض في كل يوم وساعة ولحظة. وقد قيل إن بعض الفقهاء قد قرأه أكثر من سبعين مرة.

وما أبعد الفرق بين القرآن والكتب الأخرى إذ أن تلك الكتب قد أصبحت كلمات لا صلة لها بالله الذي نزلها، بعد أن شوهها أهلها بالتحريف والتزوير لتناسب أغراضهم وتقضي حوائجهم. أما القرآن الذي بقى كما هو فإنه لا يزال يتخذ المكان الأول من قلوب المسلمين، بل أنه كثيرا ما يستولي على أفئدة السامعين من غير المسلمين، فإن الكلام إذا خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان أما إذا خرج من القلب فإنه ينفذ إلى قلب سامعه، وهذا هو حال المسلمين مع القرآن إذ أنهم يخرجونه من قلوبهم بعد أن طهرها من كل رجس ونقاها من كل غل وبغض.

لقد اتهم بعض الحاقدين محمدا، بأنه هو الذي وضع القرآن، وأن القرآن ليس إلا بعض الخدع والحيل البلاغية لفقها محمد ليشغل بها الناس عما يرتكب ويلهيهم عما يقترف ولتكون له أعذاراً وذرائع ليبلغ بها ما تصبو إليه نفسه من مطامع وأهواء وغايات. وهؤلاء قد أعماهم التعصب البغيض عن التمييز بين الحق والباطل. وقد آن لنا أن نرد لهؤلاء أقوالهم في نحورهم، ليعلموا أنهم قصيرو النظر وأن الحق لا بد منتصر يوما وواجد أعوانا ومدافعين. إن هؤلاء شديدو البغض للحق بعيدون عن الصراحة. ولولا ما استولى على نفوس هؤلاء من حقد على محمد والإسلام لوضعوا الحق في نصابه ولكانت الصراحة رائدهم، فإن من كان صادق الحس ثاقب النظر، لن يرى في القرآن ذلك الرأي الباطل الذي لا يصدر عن عاقل يقدر الأمور ويضعها في مواضعها.

إني والله لأمقت كل من يحاول أن ينال من محمد ويرميه بمثل هذه الاتهامات والأكاذيب. فالقرآن لو تدبرتموه وعرفتموه لوجدتموه جمرات ذاكيات من الحق والصدق والخير والهدى والرشاد. . . التي يحتاجها العالم وبغيرها يهوى إلى قرار سحيق. إنها جمرات قذفت بها في نفس محمد الكبير، القوة القاهرة، بعد أن أذكت هذه النفس وأوقدتها الأفكار الطوال في الخلوات الصامتات. إننا لو عرفنا سيرة محمد لوجدنا أن تدفق الحوادث وتدافع الخطوب يحول بينه وبين تنسيق الكلام والروية في القول. ويالها من خطوب كانت تحدق به من كل جانب وتحيط به من كل مكان، فقد قضى الثلاث والعشرين سنة التي أخذ يدعو الناس فيها إلى الإسلام قطبا لرحى حوادث ومصادمات وحروب طاحنة مع قريش ومن ألبتهم عليه من العرب، ومصادمات مع أطراف الدول الأخرى المتاخمة لجزيرة العرب، وغير ذلك من عالم كله هرج وفتن ومحن قاسية، كل ذلك جعله في عناء دائم ونصب مستمر بعد تكليفه بتبليغ الرسالة التي أوحيت إليه، فلم تذق نفسه الراحة والهدوء من ذلك الوقت، فمن الخطأ أن نقول: أنه هو الذي وضع هذا الكتاب البليغ الأسلوب المنمق العبارة، الشامل لمسائل الحياة، الدنيا والآخرة والذي أعجز بلغاء العرب عن الإتيان بمثله. إن من أكبر العار على العالم أن يتهم محمدا بهذا الاتهام الباطل الجائر.

وإني لأتخيل محمدا ذا الروح الوثابة والقلب الكبير وهو يتململ ليله ساهرا، فإذا ظهرت له بارقة نور استبشر وفرح بنزول الخير من عند الله.

إن هذا القلب الكبير، محال أن يكون قلب محتال أفاك. وإن هذه النفس الصافية التي تفور بالوجد وتتأجج بالخير لا يمكن أن تكون نفس مشعوذ دجال، كما يزعم الجهلة الأفاكون. كلا ثم كلا، فلقد كانت الحياة في نظره حقا، وكذلك الكون في نظره حقيقة كبرى تدل على قدر صانعها الذي أحسن كل شيء خلقه.

عبد الموجود عبد الحافظ