انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 928/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 928/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 04 - 1951



زبدة الحلب من تاريخ حلب

ألفه كمال عمر بن أحمد بن العديم ونشره الدكتور سامي

الدهان

للأستاذ إبراهيم الابياري

أكاد أعرف التاريخ العربي في مظهرين عام وخاص، فهو إلى العموم حين يعرض للحياة يقول فيها لا يحد نفسه بمكان أو زمان ولا يخص بيئة دون بيئة، ولا يقف عند أناس دون أناس. بل هو سالك الأزمان كلها في سلك واحد يبدأ من حيث بدأ الله خلقه، ثم يجري في إثر من نسل أبو البشر يقص مالهم ويروي ما وعي عنهم حتى يدرك شهر زاد الصباح.

وما كان منه إلى الخصوص فهو ذلك الذي فرغ لسير الأفراد يجمعها ويلم نوادها ومتفرقاتها فتجتمع لك حياة الفرد من شبه إلى دبه ناطقة بما كان له وما كان عنه تغنى بها عن الرجوع إلى أماكن مختلفة من المظان. ومن هذا الخاص كتب في التاريخ عقدت لسير البلاد لا الأفراد تقدم علي ابن العديم فيها الخطيب البغدادي بكتابه تاريخ بغداد، وابن عساكر بكتابه تاريخ دمشق. والتاريخ في سير الأفراد أقرب إلى التوفيق منه في سير البلاد. فأتت تقرأ للمؤرخين في سيرة الفرد الحياة الخاصة والعامة، وفي كلتيهما ما يعوزك لترى رأيك وتحكم حكمك، ولكنك في سير البلاد واقف في أولها عند كلمة عن طبيعة البلد وما خصه الله به وما قيل به ثم منتقل إلى الحديث عن الناس الذين تربطهم بهذا البلد صلات. وقد يبدو في هذا شيء من الخصوص ولكنه ليس الخصوص كله كما هي الحال في سير الأفراد؛ فالفرد في الأولى هو الذي يدور حوله الحديث، والبلد في الثانية لا يختص من الحديث بغير نزول فلان إليه ونزوحه عنه، وتولى هذا للحكم وذاك للقضاء دون شيء يكشف لك في وضوح واتصال عن حياة هذا البلد في مظاهره مع الأيام وتداولها.

هذا شيء في الحق أعوز هؤلاء المؤرخين الذين عقدوا كتبا في سير البلدان، لم يخصوا البلد فيها إلا بالمقدمة ثم هم بعد ذلك قائلون في سير الأفراد الذين تربطهم بالبلد ص ظانين أن هذا كل ما يعني القارئ لسيرة البلد، أما عن خطوات البلد في الحياة وما أمسى عليه وما أصبح، وحياته العلمية والسياسية والاجتماعية من تلك الأمور التي بدأ يلتفت إليها المؤرخون المحدثون. فذلك شيء لم يخطر لهم ببال.

من أجل ذلك عددت كتب المؤرخين في سير البلاد ليست من الخاص إلا في عنوانها ومقدمتها وتلك الصلة التي جوزت سرد تلك الجمل من التراجم.

وابن العديم من الذين حاولوا أن يفردوا حلب بسيرة متأثرا في ذلك بمن ألف في سير البلدان قبله. فوضع كتابه البغية أو التاريخ الكبير على نهج من سبق، خص حلب بشيء قيل مثله في دمشق وبغداد، ثم أردف يجمع تراجم من لهم بحلب صلة.

ويلتفت ابن العديم فيرى أنه لم يوف سيرة حلب بما فعل وأنه لا بد للمؤرخ في سير البلدان من نهج غير هذا، يخص فيه البلد بحديث موصول الحلقات، فيقبل على كتاب البغية يحور فيه ويشكل ويخرج على الناس منه بهذا الكتاب الذي أسماه زبدة الحلب من تاريخ حلب.

وفي الحق لقد قارب ابن العديم أن يكون في هذا الكتاب كاتب سيرة حلب. فقد أرخ لها في ظل الملوك والقضاة وعرض لما واجهت من فتوح واستقبلت من غزاة وما عانت من حروب، كل ذلك خلال سرده لحيات الأفراد الذين حكموا وولوا. ولو أنه ألتفت قليلا إلى حلب نفسها فحدثنا عن مظاهر الحياة فيها في إفاضة وتوسع لو في غرضه وأكمل نهجه. ولكن الكتاب يعرفه كل مفيد أنه مع البقية تاريخ حلب الذي عليه معتمدهم ومنه إفادتهم.

هذه موجزة في التاريخ والمؤرخين، وأما عن النشر والناشرين فذلك شيء حبيب إلى نفسي الحديث عنه، فالصلة به قديمة ومشاركتي فيه متنوعة.

وإذا ذكرنا النشر فإنما نعني ذلك النهج القويم الذي طلع به علينا الغربيون على مختلف أممهم فكانوا فيه بحق أساتذة تلك المدرسة الذين بينوا السبيل وخطوا الخطة.

ثم كانت للشرق في أثرهم خطوات موفقة لكنها يعوزها الأناة والصبر؛ ثم بسطة من المال والشيء من التشجيع وعندي أن هذا العمل الخطير جدير أن يرعاه رجل خطير يدعم أركانه، فما أحوج الناشر إلى من يمكنه من المخطوطات المبعثرة هنا وهناك في جهة العالم المختلفة، وإلى من يرزقه على جهد سنين متصلة، وإلى من يجزيه جزاء فيه عوض وبه رضى.

وتكاد دور النشر لا تتهيأ لهذا؛ فالناس تجر راغبون في الغم والناشر غير راغب في أن يجوع ويعرى، وفي التوفيق بين الرغبتين ما يسيء إلى تلك الصناعة ويعوقها عن المضي قدماً في السبيل المستقيم.

وبيننا جلة من العلماء مهروا في النشر وحذقوه يعوزهم التمكين والتشجيع ليرزقوا الصبر والأناة، وعندنا دار للكتب في وسعها أن تمكن، كما عندنا دار لإحياء التراث في وسعها أن تشجع لو أوتي قانونها سعة توفر لها مالا تعوض به هؤلاء لعلماء؛ ثم بعد هذا نحن في حاجة إلى تنظيم تلك الأداة وتوجيهها في حاجة إلى أن نلتفت إلى ذلك الماضي بتراثه الذي لا يزال كثره مخطوطا لا ينتفع إلا بقلة، فنرى في نشره رأيا سليما مرسوما، في حاجة أن ننشئ مع العلماء ناشئة، فالقدر يختطف منهم ولا تجد من يخلفهم، في حاجة إلى هذا وغيره إذا كنا نؤمن أنا مفيدون من هذا التراث وأنا لا بد متولون نشره ومشاركون فيه.

ذكرت بالأمس القريب شيئا من هذا لكبير علينا فسبقني إلى ما أردت أن أنتهي إليه وقال في عاطفة الموطن الموقن: إن الآمال معقودة بأستاذ الجيل معالي الدكتور طه حسين باشا، فعلى يديه سيمكن الله للنشر وإليه تتجه كل نهضة علمية داعية راجية

وأعود إلى هذا الجهد المشكور الذي بذله الدكتور سامي الدهان في زبدة الحلب فإني أعرفه صبورا ذا أناة قد خص هذا العمل بالوقت الذي يتسع لمثله، وأعرف له زوراته المختلفة للمكتبات في البحث عن النسخ المختلفة المتنوعة، وأعرف له صلته القديمة بالنشر؛ ولا زلنا نذكر له أبا فراس، والوأواء، والسياسة تلك الكتب الثلاثة التي عرفتنا به ناشرا محققا.

وما اجتمعت الاشراط على مشروط إلا ضمن السلامة وأمن الزلل. وإنك حين تنظر في كتابه الجديد (الزبدة) تعجبك الدفتان وما بينهما. فله في الأول مقدمة الدارس المفيض الموفي، لم يترك مدونة لم يجمعها ولا شاردة لم يقبض عليها، فكان فيها مؤرخا كتب لنا سيرة ابن العديم جامعة شاملة. وله في الآخر إثبات تشير إلى الأعلام والبلدان والكتب، وأخير قبل فيه بين السنين الميلادية والهجرية. وله ما بين الأول والآخر متن وفق التوفيق كله في تحريره وتصويبه والتعليق عليه وإكمال نقصه من المظان التي هداته الخبرة الطويلة.

وما أحب أن أزيد فقد أعود إليه متحدثا عن أثر له آخر هو طبقات الحنابلة رزقه الله جهد الصابرين وكتب له التوفيق في كل ما يأخذ فيه

إبراهيم الابياري