مجلة الرسالة/العدد 928/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 928/الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
رفاعة فرنسية جديدة
كان الفرنسيون قد قالوا: إن الأنباء التي نشرتها الصحف المصرية عن حوادث مراكش الأخيرة غير صحيحة، وإن حملة الصحافة المصرية على فرنسا معتسفة ومتعسفة، وراحوا يلقون علينا دروسا في أصول المهنة التي تتطلب تحري الحقائق واستقاءها من مصادرها، واقترحوا على نقابة الصحفيين المصريين أن تبعث وفدا منها إلى مراكش للوقوف على حقيقة الحال هناك. وكان هذا الاقتراح مدهشا. . . فليس مثل هذا التسامح معهودا من فرنسا في المغرب، إذ جرى عمالها هناك على منع أشعة المشرق من النفوذ إليه، حتى لا تقتل جراثيم الاستعمار. .
ومع ذلك فقد قابلت النقابة الاقتراح بالترحيب، إما بسلامة نية، وإما متابعة للكاذب إلى داره. . . وسافرت البعثة الصحفية المصرية إلى المغرب، وبلغت طنجة، فلما أرادت دخول مراكش تلبية لدعوة الفرنسيين منعها الفرنسيون! ألغى وزير فرنسا في طنجة إجازة (تأشيرة) وزير فرنسا في مصر. . . وهذا يذكرنا بالنادرة التي تروى عن عمدة بخيل يستقبل زواره بالترحيب ثم ينادي الخادم قائلا في صوت جهوري: (قهوة يا ولد) وهو يرفع يده مشيرا بإصبعه إشارة أفقية يفهم منها الخادم أن لا قهوة. . . فالوزير الفرنسي يوافق على دخول الصحفيين المصريين مراكش وكأنه يشير إلى زميله في طنجة أن لا دخول. . .
وليس منع الفرنسيين هذه البعثة وأمثالها غريبا، بل الغريب أن يسمحوا لها بدخول تلك البلاد المنكوبة بهم، ولا بد أن تسأل بعد ذلك: أين (الرقاعة) في ذلك التصرف ما دام طبيعيا لا غرابة فيه؟ الرقاعة - أو لا وكما قلت من قبل - فن يجيده الفرنسيون، والإبداع الفني أو (الإشراق الرقاعي) في هذا الموضوع، هو أن الفرنسيين هم الذين طلبوا سفر البعثة وهم الذين منعوها! وغيرهم يستطيع أن يطلب فقط أو يمنع فقط، أما عبقرية الرقاعة التي تجمع بين الأمرين فهي مقصودة على الفرنسيين.
(كوكتيل) باكست قدم إلى مصر في الأسبوع الماضي وفد صحفي من الباكستان،
تلك الدولة الحبيبة التي يجمعنا بها الإسلام. وقد لقي الضيوف
الكرام ما يليق بهم من الحفاوة والتكريم، فإضافتهم الحكومة
المصرية، ورحبت بهم الشخصيات والجماعات المختلفة،
واهتمت الصحف بأنباء تنقلاتهم وما يقام لهم من حفلات، وقد
تتبعت ما نشر عنهم باهتمام وسرور، ولكن شيئا واحدا نغص
على هذا الشعور، إذ قرأت بأهرام الخميس (541951) في
سياق ما أعد لهم من برنامج في ذلك اليوم، ما يلي: (وفي
المساء يقيم لهم معظم على مندوب وكالة أسوشييندبرس
الباكستانية، حفلة كوكتيل في داره).
وقفت عند حفلة الكوكتيل هذه مندهشا! فهؤلاء الإخوان من الباكستان التي نتصورها أمة مسلمة محافظة على شعائر الإسلام، ونغتبط بهذا التصور الذي تكونه في أذهاننا قرائن ومظاهر مختلفة، منها ما تعلنه حكومة الباكستان من أن دستورها يقوم على تعاليم الإسلام، وما يبديه ممثلوها في الهيئات العالية من الدفاع عن الإسلام ومناصرة المسلمين، وما يترامى إلينا من تمسك الشعب الباكستاني بأهداب الدين، ولعل قراء الرسالة يذكرون ما كتبته منذ أسابيع بعنوان (هل نحن مثقفون بالثقافة الإسلامية) على لسان باكستاني كبير تحدث إلى مقارنا بين الروح الإسلامية في مصر وفي الباكستان.
لذلك دهشت إذ رأيت إخواننا من مسلمي الباكستان يتداعون
إلى شرب الخمر في برنامج ينشر على الناس. . . فتوقعت بدافع ميل النفس إلى خير الاحتمالات - أن يكون في ذلك
الذي نشر خطأ أو لبس، وأن لا بد من استدراكه في اليوم
التالي، ولكن زادت دهشتي عندما قرأت في العدد التالي من
الأهرام (641951) ما يلي: (وفي المساء أقام لهم السيد معظم
على المراسل الخاص لوكالة الأسوشيتدبرس الباكستانية
بالقاهرة حفلة كوكتيل).
إذن فقد تحقق الأمر ووقع المحظور. وأنا حائر في هذا الموضوع. . . هل هو يستحق التدقيق للاعتبارات التي سلفت، وأن ذلك يستوجب توجيه العقاب إلى أولئك الإخوان، أو إلى سفارة الباكستان بالقاهرة التي ينبغي أن يتدخل نفوذها الأدبي في مثل ذلك؟ أو أنه يجب أن تكون (عصريين) فلا ندقق وندع الإخوان يصيبون شيئا من الحظ والمراح. . وخصوصا أننا في مصر (المسلمة أيضا) نفعل مثل ذلك وإن كنا نتحرج من إعلانه ونشره. . . عملا بقول النبي ﷺ (إذا بليتم فاستتروا) ولكني لا أشك في أن إخواننا الباكستانيين يعرفون هذا الحديث كما نعرفه. وقد يقال إن الأهرام هي التي نشرت؛ ولكنها نشرت في يومين، وكان يمكن الاتصال بها وخاصة من جانب السفارة - لنشر عبارة (دبلوماسية) تغطي ما كشف. . . وكان يمكن أيضا أن ترى الأهرام من تلقاء نفسها أن نشر ذلك غير لائق، ويلاحظ أنها فقط التي نشرته!
حتى البرنامج الأوربي
تحدث إلي أستاذ إيطالي زار مصر أخيرا، وقد جاء ذكر الإذاعة المصرية، قال إنه استمع في فترات مختلفة إلى البرنامج الإيطالي من قسم الأوربي في الإذاعة المصرية، فلاحظ أن المادة التي تذاع أكثرها اسطوانات وتسجيلات موسيقية يمكن الاستماع غليها من محطة إيطالية، فليس فيما يذاع للجالية الإيطالية ويبلغ عددها في مصر 45 ألف نسمة - ما يكون صورة ثقافية لمصر الوطن الذي يقيمون فيه، فهنا كثير من المسائل المتعلقة بمصر، مثل السودان، والمسألة العربية، والحركة الوطنية، والاتجاهات الإنشائية للحكومات المتعاقبة - كل هذه المسائل وأمثالها لا يعرف المثقف الإيطالي المقيم بمصر عنها شيئا. . .
هذا، ومصر تنفق آلاف الجنيهات للدعاية في الخارج أليست الدعاية لمصر بين جماهير الأجانب المقيمين في أولى؟ وخاصة إذا كانت لا تكلف كثيرا ولا تحتاج إلى جهد كبير؟
الأجانب واللغة العربية
وقد استطر ذلك الأستاذ في الحديث قائلا: لماذا لا تذاع دروس لتعليم اللغة العربية في البرنامج الأوربي بالإذاعة المصرية، كي يستطيع المواطن الأجنبي في خلال شهور التفاهم بها أو قراءة جريدة عربية؟
والواقع المؤلم أن مصر مقصرة أشد التقصير في تعليم لغتها للأجانب، فليس هذا التقصير خاصا بالإذاعة، فإن الأجنبي لا يجد في بلادنا معهدا يتعلم فيه اللغة العربية على نفقة الحكومة، على حين نرى الدول الأخرى تنشأ المعاهد التي تعلم الأجنبي لغتها لا في داخلها فقط، بل في البلاد الأخرى ولا تدخر وسعا في نشرها بمختلف الأقطار. وأن المصري الذي يسافر إلى لندن أو باريس مثلا لا يلبث أن يجيد الحديث بالإنجليزية أو الفرنسية، على حين نرى الأجنبي يستوطن مصر ويمضي فيها سنوات دون أن يلم بلغتها، فإن فعل لم يتجاوز العامية الجارية على ألسنة الشعب، فلا يعرف شيئا عن ثقافة البلاد وآدابها، بل هو لا يقرأ من الصحف والمجلات إلا ما يصدر باللغات الأجنبية.
مسرحية (المتحذلقات)
استأنفت فرقة المسرح المصري الحديث موسمها الثاني لهذا العام على مسرح الأوبرا الملكية يوم السبت الماضي، وقد بدأت بتمثيل مسرحيتي (المتحذلقات) و (مريض الوهم) وأقصر حديثي اليوم على المسرحية الأولى التي تعرضها الفرقة لأول مرة، أما الثانية فقد كتبت عنها من نحو شهرين عندما مثلتها الفرقة على مسرح حديقة الأزبكية.
تعرض المسرحية أربعة متحذلقين: اثنتين وأثنين، ويعديني جو هذه الرواية فيحملني على أن أصطنع شيئا من (الحذلقة النحوية) فأسأل: لماذا غلب جانب التأنيث على جانب التذكير في العنوان (متحذلقات) على خلاف القاعدة العربية المعروفة التي تحتم تغليب المذكر على المؤنث في الجمع فيكون جمع مذكر إذا كان فيه ولو رجلا واحدا مهما كان عدد النساء. . .؟ ثم أجيب عن هذا السؤال بأن هناك اعتبارا آخر سوغ تغليب التأنيث، وهو أن المتحذلقتين هما الأصل والحذلقة فيهما لازمة، أما المتحذلقان فقد اصطنعا الحذلقة لتدبير مؤقت يظهر في متابعة المسرحية.
ولا تحسبن أنني قدمت هذا التحذلق النحوي عبثا. . . فهو يشبه موضوع المسرحية مع فارق واحد، هو أن هذا النوع النحوي خشن غليظ، أما الحذلقة التي شهدناها على المسرح ففيها تأنق وتظرف وتنعم وكل (تفعل) من هذه المعاني يرجع في أصله إلى التكلف، طلبا للشهرة واسترعاء الأنظار. . .
(كاتوس) و (مادولون) فتاتان نشأتا في الريف ثم قدمتا إلى باريس وقد امتلأ خيالهما بما يسمعان عما يجري في مدينة الحب من مغامرات وما يسود مجتمعاتها من رشاقة الحركات وحسن اختيار العبارات، فهما تعترضان على أبيهما (جورجيبوس) إذ يناديهما: كاتوس؛ مادلون. . . هذا وتطلبان أن يخاطبهما بإسمين من أسماء التدليل الناعمة بدلا من هذين الاسمين القديمين وتوبخان الخادمة لأنها تطلب الإذن لزائر بعبارات عامية وإنما يجب أن تستأذن في عبارة أدبية عالية، وكأن تقول: هل من المستطاب يا سيدتي في هذا الوقت أن تستقبلي المركيز. . . وعندما تريدان التزين تطلبان من الخادمة (مستشارة المحاسن!) وتحار الخادمة. . ولكنها يجب أن تتعلم أن مستشارة المحاسن هي المرآة. . .
ويتقدم لخطبة الفتاتين شابان طبيعيان: ليسا من أهل الحذلقة، فتقابلانهما بفتور وإعراض واحتقار. ويضيق بهما أبوهما (جورجيبوس) ويسألهما عن سبب إعراضهما عن الشابين، وهنا تلقى المتحذلقتان درسا ممتعا عن الحب والزواج، إذ يجب أن يبدأ الشاب بالغزل الرقيق وإنشاد الشعر العالي ثم يذهب بفتاته إلى الأركان الهادئة بالحدائق، ويتخلل ذلك تأوهات وتنهدات. . . وأخيرا يصارحها برغبته في الزواج، أما المصارحة بطلب اليد من أول الأمر - كما صنع الشابان - فلا تليق إلا بالصفقات التجارية التي لا تحسن بأهل الظرف والكياسة. . .
ويغتاظ الشابان من مسلك الفتاتين تجاههما، فيدبران أمرا. . . ثم يظهر على المسرح (المركيز ماسكريل) و (الفيكونت جودليه) في زيارة الفتاتين المتحذلقتين، يدخل (المركيز) أولا غاية التأنق والتظرف و. . . التحذلق، ويعرض على الفتاتين بضاعته (الغالية) من الحذلقة (الرفيعة) ويوهمهما أنه بالتأوهات ذات المدلولات التي يفسرها لهما طبقا لأصول الحذلقة، فتعجبان به غاية الإعجاب؛ ثم يلحق به صديقه (الفيكونت) ويأخذ معه بنصيب من الحذلقة ومن إعجاب الفتاتين.
وحين تبلغ الحذلقة تمامها، تفاجأ الفتاتان بمنظر عجيب، إذ يدخل الخاطبان اللذان أعرضتا عنهما فينهالان ضربا على المركيز والفيكونت. . . ويتبين أن هذين خادما الشابين الخاطبين مثلا دوريهما للعبث بالمتحذلقتين، ليسخر الشابان بهما وينتقمان منهما.
المسرحية لموليير، وهي كسائر مسرحياته تقدم نماذج غريبة من الناس وتصورهم في سخرية، وتضحك من تصرفاتهم وما يلابسها من مفارقات. وقد أخرجها الأستاذ زكي طليمات، وأهم ما يستلفت النظر في الإخراج هو اتجاه كل شيء على المسرح نحو هدف المسرحية واستخدامه في تصوير جوها، من حركات الممثلين ونبرات إلقائهم وترتيب المناظر والإضاءة. . . الخ، غير أني ألاحظ أن شخصية الأستاذ زكي تنعكس على الممثلين فتفيد في أكثر الأمور إذ تضفي حيويته الفنية عليهم، ولكن ظلالا خفية جدا من هذه الشخصية تجعل الممثلين يتماثلون في طابع واحد، ويتجلى ذلك في أصواتهم عندما (يزومون).
أما الممثلون والممثلات فقد أجادوا جميعا، وكانت البطولة البارزة في هذه المسرحية لعبد الغني قمر (ماسكريل) فوفق في تمثيل الحذلقة توفيقا يستدعي الإعجاب، وقد جاراه في ذلك أحمد الجزيري (جودليه)، ومثلت سناء جميل إحدى المتحذلقتين (مادلون) وسناء فتاة قديرة على التعبير البليغ، وقد برعت في هذا الدور براعة تشبه ما أبدته في دورها الخالد بمسرحية مريض الوهم. ومثلت سميحة أيوب المتحذلقة الأخرى (كاتوس) فاستطاعت أن تجاري سناء في دورها، وقد لاحظت تقدمها و (لحلحتها) في هذه المسرحية وأيضا في مسرحية (مريض الوهم) أكثر من قبل.
عباس خضر