انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 920/رسالة العلم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 920/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 02 - 1951



الضوء لغز الطبيعة

للأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب

لعل الضوء أهم العوامل التي تزيد معلوماتنا عن العالم الخارجي. فالعوامل الأخرى كالأصوات والروائح وغيرها تدلنا على القليل إذا ما قورنت بالضوء. لأن أغلب معلوماتنا تأتي نتيجة لمشاهداتنا البصرية. فما الذي نعرفه عن الضوء، ذلك الذي لا تعتمد عليه معلوماتنا فحسب، بل تعتمد عليه أيضاً حياتنا وكياننا؟

كان بعض الفلاسفة اليونان الأقدمين يقولون إن الضوء يرحل في خطوط مستقيمة يبعد الخط الواحد عن الآخر. ولهذا كانوا يعزون عجزهم عن رؤية سيئ صغير راقد تحت أنوفهم كإبرة مثلاً إلى أنها موضوعة بين خطين من الخيوط الضوئية. فقد كانوا يجهلون إذ ذاك وجود النقطة العمياء في العين، ويظنون أن أشعة الضوء تصدر من العين، لأنها لو كانت صادرة من الإبرة لشاهدوها دائماً.

ولقد قال بعض مفكري المدرسة الأفلاطونية في ذلك الوقت إن الإبصار عن ذريرات تندفع من الأشياء المضيئة وتصل إلى إنسان العين فتؤدي إلى رؤية. وهذا قول أقرب إلى الصحة من القول السابق. ومع ذلك فلم يقبله الرأي العام إلا في القرن الحادي عشر.

النظرية الذرية:

لقد صرح السير إسحاق نيوتن ب، االضوء ناشئ من تيار من الدقائق الصغيرة اللامتناهية في العدد، تنبعث من الجسم المضيء في كل اتجاه وفي خطوط مستقيمة. وافترض أن هذه الدقائق تستطيع اختراق الأجسام الشفافة، فإذا ما اصطدمت بعدسة العين نتج لأحساس بالرؤية. ولذلك سميت النظرية بنظرية الانبعاث نظرية الضوء الذرية فسرت هذه النظرية الكثير مما يمت للضوء بصلة واعتبرت لأمد طويل نظرية موفقة.

نظرية الموجة:

أجمع العلماء إذن على أن الضوء آت من الأجسام المضيئة، وأصبحوا لا يشكون في أنه يتركب من دقائق صغيرة تندفع من الجسم المضيء.

ثم أقبل القرن التاسع عشر، فافترض العلماء أن الضوء حركة تموجية في الأثير، وسميت هذه النظرية بالنظرية الموجية.

بيد أننا في عصرنا هذا لا نعتقد في وجود الأثير الذي أسرف علماء القرن التاسع عشر في الاعتماد على فرضه. فالوسط الواسع الذي يملأ رحاب الفضاء، ذلك الوسط المهتز المتغلغل في المادة جميعها، ليس له المكان في العالم الذي أوجده آينشتاين، فضلاً عن أننا لسنا في ثقة من معرفتنا الفرق بين الدقيقة والموجة. فنحن نشاهد في معاملنا الحديثة دقائق تفعل فعل الموجات، وموجات تتصرف تصرف الدقائق؛ والضوء يحذو حذو الدقائق والموجات. فهنالك ثمة ظواهر تتصل بالضوء لا يمكن تفسيرها إلا بقاعدة الموجة، وهناك ظواهر أخرى تفسرها النظرية الذرية. والواقع أنه بكشف الأشعة السينية وغيرها من الأشعة الخفية استطاع العلماء تسجيل ظواهر يبدو أنها في حاجة إلى كلتا النظريتين حتى تتطابق الحقائق. وهذا هو الوضع الغريب للضوء في علم الطبيعة اليوم. ولذلك فالضوء أكثر غموضاً في الوقت الحاضر مما كان عليه منذ قرون مضت. وما البحث النظري الحاضر في (آلية الموجة) إلا محاولة من المحاولات للعثور على معادلة تحل هذا الوضع.

ويعتقد العلماء الآن أن الضوء يدين بأصله إلى الكترونات الذرة، ولها شرح مستفاض في نظرية الكم التي تفسر أيضاً امتصاص الضوء، ولا سيما انبعاث الإلكترونات من الأسطح المعدنية المضاءة.

سرعة الضوء:

ومع اختلاف الآراء في ماهية الضوء فإننا نعرف عنه في الوقت الحاضر الشيء الكثير. فنحن نعرف مثلاً أن الضوء يستغرق زمناً لرحيله من مكان إلى مكان. وهذه أغرب ظاهرة في تاريخ العلم. إن مجرد تأمل هذه الحقيقة يبدو كأنه خيال محض. فقد اعتدنا أن نعزو الإبصار أنه مجرد موهبة. فإننا نفتح أعيننا، فإذا ما كان هناك الضوء أبصرنا الأشياء. ويبدو هذا طبيعياً تماماً. فمن ذا الذي يخطر على باله أن الضوء يأخذ وقتاً في قطعه مسافة ما؟

كان أول من فكر في ذلك الفلكي الهولندي أولاوس ريمر في عام 1676. فقد لاحظ لأي أثناء مراقبته المشتري وأقماره الأربعة التي تدور حوله أنه عندما يمر أحد هذه الأقمار خلف المشتري تأتي لحظة يختفي فيها القمر عنا، وهي اللحظة التي يستغرقها القمر في الاختفاء ثم الظهور مرة أخرى حتى يقطع جزء من رحلته خلف السيار. ولاحظ ريمر أن مدى هذه اللحظة متغير، وأن الزمن يطول عندما تتحرك الأرض مبتعدة عن المشتري، ويقصر عندما تقترب منه، وأن هذا التغيير متعدد نظراً لأن المشتري والأرض يتحركان حول الشمس بسرعتين متغايرتين. فسأل نفسه: لماذا تبدو هذا النجوم الراحلة بسرعة ثابتة كما لو أنها تمكث خلف المشتري مدداً مختلفة؟ وكان هذا السؤال هو الذي ولد في عقل ريمر تلك الفكرة العجيبة في أن الضوء يستغرق زمناً أثناء رحيله. لأنه إذا كان الضوء القادم من أقمار المشتري لا يصلنا في التو واللحظة فذلك مرجعه إلى أن الضوء يقطع وقتاً حتى يدرك الأرض المدبرة عن المشتري أطول من الوقت الذي يقطعه ليقابل الأرض المقبلة على النجم. وقد استطاع ريمر بقياس الفرق بين الأزمنة المختلفة أن يحسب سرعة الضوء، فوجدها أقصى سرعة في الوجود. وقد استطاع علماء العصر الحديث أن يقيسوا هذه السرعة مباشرة وهي 186. 000 ميل في الثانية. إن أسرع رصاصة تبدو وكأنها لا تتحرك إذا ما قورنت سرعتها بسرعة شعاعه ضوئية. ومع ذلك فنحن نعرف ذرات (دقائق) تتحرك بسرعة تقرب من سرعة الضوء. فبعض دقائق الكهرباء المنقذفة من الراديوم (أشعة بيتا) تصل سرعتها إلى أكثر من 99 % من سرعة الضوء مثل هذه الدقائق تستطيع أن تدور حول خط الاستواء سبع مرات في الثانية.

السرعة الحرجة:

وصفوة القول أن سرعة الضوء تعتبر أكبر سرعة موجودة في العالم على الإطلاق. ومن المستحيل على أن جسم مادي أن يتحرك بسرعة أكبر من هذه السرعة، وهذه حقيقة أثبتتها نظرية النسبية لآنشتاين. ولذلك أصبح من المستحيل وجود سرعة لانهائية في عالمنا هذا. فهناك سرعة محدودة معينة لا يمكن لأية سرعة أن تتعداها، وهي سرعة الضوء. ولذلك سميت بالسرعة الحرجة وهذه السرعة تعزز الرأي في أن الضوء لا يتركب من دقائق وبالأخص دقائق مادية، على الرغم من أن بعض الظواهر الأخرى لا تفسرها إلا النظرية التموجية.

عودة إلى الأثير: ولكن كيفما يكون الضوء فإننا نعرف أنه توجد أشياء لها نفس نظامه، مثل أمواج اللاسلكي والأشعة السينية والإشعاع الحراري والأشعة فوق البنفسجية. كل هذه الظواهر ذات طبيعة تماثل طبيعة الضوء ولو أنها لا تحدث تأثيراً على أعيننا مثلما تحدثه أشعة الضوء.

فإذا اعتبرنا الضوء وموجات في الأثير - ونحن لا نملك إنكار الأثير على الرغم من شكوكنا الحديثة - فإننا نستطيع في سهولة رؤية الفرق بين الضوء وهذه الظواهر الأخرى. فإن أمواجها إما أن تكون أطول أو أقصر من أمواج الضوء ولو أن لها نفس طبيعة أمواج الضوء وترحل بنفس سرعتها.

وليس معنى ذلك أن كل أمواج الضوء ذات طول واحد؛ فبين موجات الأثير التي تؤثر على أعيننا وبين ما نسميه بالضوء توجد موجات ذات أطوال مختلفة. وعلى هذه الحقيقة يتوقف وجود الألوان المختلفة. فأطول موجات الضوء ينتج فينا إحساساً باللون الأحمر، وأقصرها ينتج فينا إحساساً باللون البنفسجي. أما الألوان الأخرى فأمواجها بين هذين الطولين. وما نزعم أنه ضوء أبيض ليس إلا خليطاً من مختلف الألوان. ونستطيع رؤية ذلك إذا مر الضوء الأبيض خلال منشور زجاجي. فالنشور يحلل أطوال الموجات المختلفة فنرى أشرطة ملونة محدودة بين اللونين الأحمر والبنفسجي.

العناصر والضوء:

كان السير إسحاق نيوتن أول من أثبت أن اللون الأبيض كركب من مختلف الألوان. ولقد تقدم تحليل الضوء تقدماً كبيراً، ويعد الآن أهم فرع من فروع الطبيعة. فجميع معلوماتنا عن النظم الطبيعية للنجوم تأتي من علم تحليل الضوء أو ما يسمة بالتحليل الطيفي (السبكتر سكوبي). والحقيقة الرئيسية التي يتألف عليها هذا العلم هو أن كل عنصر عتد إحمائه إلى درجة التوهج يعطي ثمة ضوءاً معيناً. فإذا أحمى عنصر ما ومر ضوءه خلال منشور زجاجي، فإن هذا الضوء ينتشر في أشرطة ملونة، عند فحصها نجد من بينهما خطوطاً لامعة. وقد وجد أن هذه الخطوط تطابق العنصر نفسه، وأنه لا توجد مادتان تعطيان نفس الخطوط. فمن تحليل ضوء أية مادة متوهجة نستطيع معرفة هذه المادة.

وقد طبقت هذه الطريقة التحليلية على الضوء القادم من الشمس فاستطاع العلماء معرفة المواد التي تتركب منها الشمس فوجد أنها تطابق مواد موجودة بالأرض. وقد كشف العلماء غاز الهليوم على الشمس قبل أن يعثروا عليه في الأرض.

وبنفس الطريقة أمكن معرفة تركيب النجوم وحرارتها وسرعتها.

هذا هو الضوء الذي يساعدنا بالإفضاء لنا بالكثير عن أحاجب الكون، ومع ذلك فلا يزال لغزاً قائماً بذاته لم يستطع الإنسان حله إلى الآن.

محمد فتحي عبد الوهاب