مجلة الرسالة/العدد 920/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 920/الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
من هم العرب المقصرون؟:
أقام الأستاذ أسعد داغر السكرتير العام لجمعية الوحدة العربية - حفلة شاي لتكريم سمو الأمير فيصل آل سعود، في نادي الجمعية بالزمالك يوم الأربعاء الماضي. وبعد تناول الشاي ألقى الأستاذ داغر كلمة عبر فيها عن ألمه لما صارت إليه حرب فلسطين ولسوء الحال في الموقف العربي الحاضر الذي لا يراه خيراً مما كان، نظراً إلى الخطر المتوقع من جانب الصهيونيين المضطرين إلى توسيع رقعة إسرائيل حتى تتسع اللاجئين إليها من يهود العالم.
وقد عزي الأستاذ ما منينا به من الهزيمة إلى ضعف الوطنية الذي قعد بنا البذل والتضحية، وقال بضرورة العناية بتكوين المواطن الحقيقي، ليكون لبنة قوية في بناء الأمة العربية. وقد أعقبه الأستاذ توفيق دياب بك بكلمة حماسية فياضة، أيد فيها الأستاذ داغر من حيث تكوين المواطن العربي الصالح. ثم تحث سمو الأمير فيصل حديثاً هادئ النبرات قوي المعاني، صرح فيه بتقصير العرب وتهاونهم، مشيراً إلى إصبع الاستعمار في ذلك إذ قال سموه: لي رجاء واحد هو أن نتناسى المشاحنات التي ورثنا الاستعمار إياها وغرس بذورها للقضاء على وحدتنا، هذه الحزازات وهي السم الذي دسه العدو في دمائنا وأفكارنا.
وهكذا أجمع خطباء الحفلة على أننا جميعاً مقصرون. وأنا أريد أن أفهم المقصود من الضمير (أنا) في (أننا) وهل هو يشمل العرب كلهم شعوباً وحكومات. . . ثم أسأل كيف قصرت الشعوب؟ وأوجه السؤال إلى الأستاذ داغر الذي رمى المواطنين العرب عامة بضعف الوطنية، وإن كنت ألتمس له العذر من حيث مراعاة المقام الذي تحضره شخصية رسمية كبيرة.
إن الأمر لا يرجع إلى تاريخ بعيد، فقد رأينا إبان الحملة العربية المصرية على الصهيونيين - رأينا المشاعر تتوقد والهمم تتوثب، استبسل الجيش جنوده وضباطه، وهرعت وفود المتطوعين إلى الجهاد، وجاد الكثيرين بأموالهم. ولقد استشرى الحماس في جموع الشعب بالقاهرة إلى حد التهور والاعتداد المخطئ. وكان يصل غلينا صدى مشاعر الغضب الذي كان يبديه إخواننا في كل بلد عربي يلتوي ساسته فيتقاعس جيشه.
ولم يفسد الأمر كله إلا رجال الحكم والسياسة أو الذي جرى في دمائهم السم المدسوس من قبل الاستعمار. إن التبعة كلها تقع على الحكومات ومن ورائها الاستعمار. وإذا كان اليهود أخفقوا في تسميم الآبار فإن المستعمرين نجحوا في إطلاق الجراثيم على بعض المسئولين، والجراثيم أنواع لا أرى حاجة إلا تفصيلها.
حتى الجامعة مظلومة. . . فإني لا أذهب مع المغالين في لومها إذ أرى أن كل اضطراب فيها وكل اختلاف في لجانها إنما هو انعكاس لأغراض واتجاهات الحكومات المختلفة، ولن تكون الأمانة العامة مسئولة حقاً حتى يكون لها جيش وسلطان.
أما المواطنون العرب فإنهم لم يقصروا، وإن لوحظ فيهم ضعف فإنما هو ضعف مقوماتهم الاقتصادية والاجتماعية وسخطهم على المغترين بزخرف الحياة الدنيا، والتكوين الحقيقي لهؤلاء المواطنين إنما هو بإزالة هذه الأسباب قبل كل شيء.
وأوجه كلمة صغيرة إلى الأستاذ أسعد داغر باعتباره السكرتير العام لجمعية الوحدة العربية، وإلى غيره من رجال العروبة (غير الرسميين) تلك الكلمة هي الاتجاه - في الدعوة إلى البعث العربي - إلى المواطنين من شعوب العرب لتكوين رأي عربي عام منظم يرفع صوته ويعمل ما في وسعه لخير العرب، بل أقول: لتوجيه الحكومات.
أولئك المواطنون وذلك الرأي العام المنشود، وهم الذين نعنيهم ونحس بوجودهم حينما نتفاءل وحينما تداعبنا الآمال في مستقبل الأمة العربية.
هل نحن مثقفون بالثقافة الإسلامية؟
التقيت أخيراً بشخصية كبيرة من الباكستان في مجتمع بالقاهرة، ودار بيننا حديث شاقني فيه أن الرجل ينظر إلينا - معشر المصريين - وإلى بعض شؤوننا التي لا نلتفت إلى ما فيها من عيوب للفتنا إياها، نظرة المستشرف المبرأ من هذه الألفة الساترة. . . وقد ناقشته في بعض الأمور، ولم يسعني إلا أن أسلم بأكثر ملاحظاته، مع إعجابي بروح الأخوة الإسلامية التي استشعرتها في حديث ونبراته ونظراته الفياضة بالإيمان العميق.
قال: نحن نسمع عن مصر باعتبارها زعيمة الدول العربية والإسلامية ومركز ثقافة العرب والإسلام، فنشتاق إلى أن نقتبس منها ونغترف، ولكنا نجيء إليها فنجد فيها كل شيء أوربياً، فالحالة الاجتماعية كما تعرف، وصحفكم ومجلاتكم مملوءة بما تعلم، وقد حضرت بعض الحفلات الكبيرة التي تضم كبراء ووزراء وأجانب فهالني أن أرى مثلاً في إحداها راقصة مصرية - وقد عرفت أنها مسلمة! - ترقص شبه عارية ثم قل لي: أين الثقافة الإسلامية والعربية عندكم؟
رحت أحدثه عن مظاهر ثقافتنا العربية الإسلامية مشيراً إلى أن إخواننا الباكستانيين لا يطلعون عليها لعدم إجادتهم اللغة العربية. ولكن الرجل بادرني بقوله: أنت تقصد الكتب! أنا أعني اثر هذه الثقافة في النفوس وطابعها في الحياة. . .
قلت: لا أنكر أننا نأخذ كثيراً من أوربا في حياتنا وثقافتنا، وهذا شيء طبيعي، فاحتكاك الحضارات وتفاعلها مسألة مفروغ منها.
قال: هذا حسن لو أنكم تأخذون ما يفيد، ولكني أراكم تأخذون كل شيء وأكثره سيئ لا يتفق مع روح الإسلام، ونحن في الباكستان لم يستطع الأجانب أن يحولونا عن روح الدين الحقيقية، ولم نأخذ عنهم إلا ما يفيد من علومهم وحضارتهم.
قلت: إنكم تحكمون بناء على اختلاطكم بالبيئات التي يسمونها طبقات راقية.
قال: كلا، لقد جلت في مختلف أحياء الشعب وصليت في مسجد الحسين والسيدة زينب وغيرهما. ومما لاحظته أن الطبقات الفقيرة لا تستنكر ما يأتيه الأغنياء من المفاسد، وإنما تنظر إلى هذه المفاسد نظرة المحروم الذي
لو وجد المال لما تردد. . . ويعنيني هنا الواعز الإسلامي الذي يتحكم في الأعماق والتصرفات والذي يؤسفني أني لم أعثر عليه.
وسكت الرجل المسلم ثم قال: أحدثك بشيء حدث، لا يخلو من نكتة لطيفة، فقد اتجهت الرغبة الباكستانية إلى الانتفاع ببعض النشاط المصري السينمائي، فأرسل بعض الأفلام المصرية لتعرض هناك. فلما عرضت على الرقيب قبل عرضها أبدى دهشته قائلاً: أهذه أفلام أنتجت في بلاد مسلمة. .؟ أنا لا أصدق أن هذه أفلام مصرية! إنها من صنع اليهود يقصدون بها الإساءة إلى سمعة مصر!!
تأبين حافظ عوض بك:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية بتأبين المغفور له الأستاذ أحمد حافظ عوض بك يوم الأربعاء الماضي بقاعة الجمعية الجغرافية الملكية. وقد ألقى الأستاذ عباس محمود العقاد كلمة التأبين التي استغرقت نحو نصف ساعة، أتى فيها بدارسة دقيقة وافية للفقيد. وخاصة ما يتصل بأدبه وثقافته ومكانته في جيله. بدأ الأستاذ بقوله:
يتفق للكثير م النابغين والنابهين أن تختار لهم الحوادث غير ما يختارون، وأن يندموا على الواقع ثم تنجلي سيرتهم كلها عن الحقيقة التي احتجبت عنهم في مطلع الحياة: وهي أن الخيرة في الواقع الذي لم يطلبوه ولم يتوقعوه. رأينا مثلاً لهذا في حياة فقيد كريم نعيناه قبل نحو سنتين، وهو الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، ونرى اليوم مثلاً آخر له في فقيد اليوم الأستاذ أحمد حافظ عوض بك رحمهما الله.
كلاهما يقصد إلى الاشتغال بالتعليم والصحافة في نشأته الأولى وكلاهما قد انتهت به الخيرة الواقع إلى الاشتغال بالتعليم ثم بالكتابة فكان عالم الكتابة علماً من الأعلام. ثم قال: فقد عاش حافظ بسليقة المعلم والكاتب في كل يوم من أيامه، وكتب ليعلم في كثير من رسائله ومقالاته، بل لعله يتحدث ليعلم ويعتز بالخبرة التي تسوغ له التعليم وتشفع له فيه، فأطلق عليه أصحابه ومؤيدوه وزملائه في الصحافة اسم (المعلم).
وتحدث الأستاذ العقاد عن أسلوب الفقيد في الكتابة والموضوعات التي يتناولها، فقال إن كتابته الصحفية كانت تتسع للسياسة وغيرها، ومنها ما هو بعيد عن الوضوعات التي تعود للصحفيون أن يطرقوها في الصحافة اليومية. وكان أسلوبه في السياسة أطبع ما يكون حين يتخذ له موضوعاً من موضوعات النقد التهكمي والتصوير الفكاهي، وهي طريقة كان رحمه الله يحسنها ولا يتعدى بها أن يضحك القراء من المنقود دون أن يجرح أو يؤذيه، أما أسلوبه في الأدب فقد كان أطبع ما يكون حيت يصف شعور الحنان والعاطفة الشجية. وقد امتاز أسلوب الفقيد في الموضوعات جميعاً بالصفاء والسلامة، وشفت كتاباته عن مصادر ثقافته في اللغات الأوربية واللغة العربية.
وتحدث الأستاذ العقاد عن مصادر ثقافة الفقيد الغربية والعربية واستدل على ثقافته العربية ببعض ما كتبه في رسائله إلى ولده، ومن ذلك قوله في بيان الطريقة التي جرت عليها في دراسة دواوين الشعراء: - كنت أعد لكل شاعر دفتراً صغيراً وأنقطع ساعة أو ساعتين لتصفح ديوانه فأقرأ القصيدة مرة واحدة وأتصور عند تلاوة كل البيت من أبياتها ما إذا كان من الممكن أن أحتاج إلى هذا البيت أو ذلك المصراع للاستشهاد به في موضوع إنشائي أو خطاب رقيق لأديب من أصدقائي أو في واقعة حال أ , في إشارة إلى شيء مما كنت أتخيله في نفسي فإن وجدت في البيت أو في أحد مصراعيه أو في تعبير منه ما أظنه ينفعني قيدته في دفتري) وعلق الأستاذ العقاد على هذا بقوله: والذين عرفوا الفقيد يعرفون أنه كان في أحاديثه كثير الاستشهاد بالأبيات والمقطوعات في مناسباتها، وكان يقدم أحاديثه أحياناً بالبيت والأبيات حيث تقع من موقعها وتنبئ بالحديث الذي يتلوها، وأذكر أنني تيقظت ذات ليلة على دق التليفون فإذا بصوت حافظ بك يناديني:
يا نائم الليل مسروراً بأوله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
وكان ذلك ليلة أن صدر الأمر بتعطيل الصحيفة التي كنا نكتب فيها، فعلمت جلية الخبر من المصراع الأول قبل تمام البيت وختم الأستاذ العقاد هذه الدراسة الموجزة الشاملة بقوله: وأوجز ما يقال في تقدير الزميل الفقيد وتكريم ذكراه، أنه رحمة الله عليه كان في طليعة الرواد المصريين لفن القصة الاجتماعية، وكان له نصيب مشطور في القيام على عهد الخضرمة بين مرحلة التقليد ومرحلة التجديد، وسهم مذكور في التعريف بتريخ هذه الأمة ردحاً من الزمن ينبه القراء إلى تواريخها في جميع الأدوار، وأنه زود العربية بذخيرة من المفردات لا غنى عنها للألسنة والأقلام.
عباس خضر