مجلة الرسالة/العدد 89/من أدب الهند
مجلة الرسالة/العدد 89/من أدب الهند
الأمير خسرو الشاعر الهندي الكبير
بقلم السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي
ترجم صديقي الدكتور عبد الوهاب عزام بعض الأبيات الفارسية للشاعر الهندي العلامة الصوفي الكبير الأمير خسرو في (الرسالة)، فأثارت الترجمة في نفسي ذكرى ذلك العبقري العظيم أياما كنت أطالع بعض دواوينه وأحاول أن أقيس عظمة عبقريته في الصغر بفهم غير ناضج وإدراك غير كامل فكانت تفيض عن سعتهما، فكنت أستعين بمسامرات الإخوان ومحادثات الأقران. واليوم بعد نضوج الفهم حين أحاول قياسها أرى أن استقصاء جميع نواحيها لا يزال من غير المستطاع لي، وإن كانت لذلك أسباب إخرى، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. أحب أن أبلغ اليوم بقدر الإمكان رسالته إلى (الرسالة)، إذ حياة العظماء والأدباء رسالة وقدوة للأجيال في كل مكان وزمان، وأنثر أزهار الحديث عنه على مرقده الخالد الحي وهو ذكراه في القلوب
ولد الأمير خسرو في الهند في مدينة بطيالي بقرب دهلي في سنة 652 هجرية من سلالة عريقة في الشرف من الأتراك المهاجرين إلى الهند من مظالم جنكيز خان في وسط آسيا. فكانت قبيلته المسماة (لاتشين) تسكن في بلدة تكش في ولاية ما وراء النهر، قد هاجرت إلى الهند عند هجوم جنكيز خان؛ وكان أبوه سيف الدين محمود رئيس تلك القبيلة. وكان في الهند حينئذ شمس الدين التمش ملكاً من ملوك المماليك، فرحب بجميع المهاجرين وأكرم وفادتهم. وأما أم خسرو فكانت بنت عماد الملك وزير الحربية للسلطان بلبن. وقد روى أمير خوند في كتابه سير الأولياء عن والده أن في جوار والدي الأمير خسرو كان يسكن صوفي كبير مسمى (أمير لا تشين) فلما ولد خسرو حمله والده ملفوفاً في القماش إليه، فقال الصوفي: (أنتم جئتم إلى بمن سيسبق خاقاني (الشاعر الفارسي الشهير) بدرجتين؟
مات أبو خسرو وهو في السابعة من سنة، ولكن أسرته كانت مثرية فلم تهمل تربيته وتعليمه، فتربى خسرو في دهلي، وكانت دهلي إذ ذاك حاضرة الحكومة منذ ثلاثة أرباع قرن، فكانت مركز العلوم والفنون، ومحور الحضارة والمدنية، ومأوى الفضلاء والعلماء، ومطمح أنظار أهل الفن والصناعة مما يجعلها ثانية في الأهمية لبغداد. في هذا الوسط الراقي تربى خسرو فنبغ في العلوم والفنون المختلفة، غير أن ميله الغريزي كان إلى ثلاثة: الشعر والموسيقى والتصوف، فأجادها في أقل وقت، وبلغ فيها درجة الإمامة
بداء خسرو يقول الشعر وهو في صباه حتى أصبح الشعر له مهنة معترفا بها من الجميع في نهاية العقد الثاني. ولكن تقاليد ذلك الزمان والظروف العائلية كانت تقتضي أن يكسب العيش بواسطة مهنته هذه، فلم يكن له بد من أن يتصل بأمراء وسلاطين ذلك الزمن من مقدري مهنته. فاتصل خسرو في سنة 676 أول مرة بعلاء الدين كوشيل خان المعروف بين الناس باسم (ملك شجو)، وملك شجو كان ابن أخت الإمبراطور غياث الدين بلبن و (أمير حاجب) (أي رئيس الحجاب) في بلاطه. ولكنه كان فاضلاً يقدر العلم والفن، واسع الصدر كريماً. فقد قال المؤرخ الشهير ضياء الدين برنى، وهو من معاصري خسرو وأصدقائه في كتابة تاريخ فيزور شاهي: (أنا سمعت كثيراً ممن أعتمد عليهم، ومن الأمير خسرو أنه لم يوجد مثيل الملك علاء الدين كوشيل خان في سعة الصدر والكرم، وفي إطلاق الرصاص والصيد ولعب الكرة، وكان الملك علاء الدين قد نال شهرة واسعة وإن لم تدم، حتى أن هلا كوخان الشهير أرسل إليه خنجراً وعرض عليه أن يكون حاكما على نصف العراق لو أراد الذهاب هناك. ولكن خاله الإمبراطور بلبن استنكر حريته الخارجة عن العادة. ويذكر المؤرخ برني في محل آخر أن شجو كان أغزرهم جوداً وأعظمهم منحاً، وزع جميع أملاكه على الناس ولم يبق لنفسه إلا المعطف الذي ستر جسمه. ومن أمثال جوده وتقديره للشعر أنه أعطى جميع الخيل في اصطبله للشاعر خواجه شمس معين ووزع عشرة آلاف تنكه على المغنين عند تقديم قصيدته وإنشادها إياه. ولم يكن خسرو أقل حظاً من هؤلاء الشعراء لتفوقه عليهم وذكائه الخارق. فقد قال قصائد غير واحدة في مدح شجو، ونحن ننقل إلى العربية بعض أبيات من قصيدته البديعة التي تعد مثالاً للغلو الشرقي في المديح قال
(إن الأشعة البهيجة لنور الصبح الملون بلون العنبر قد بددت ظلام الليل، والهلال الأصفر كالمريوق بقرنيه المقوسين كاد أن يغيب عن النظر، فسألت الصبح: أين شمسك الموعود بها؟ فأراني وجه شجو المشرق بنوره البازغ! ثم توجهت إلى السماء المرصعة بالنجوم، فسألتها: من يساعد نجومك في سيرها؟ فضحكت من سؤالي العبث، وأرتني أيدي الملك التي جعلتها مستقيمة)
لم يدم اتصال خسرو مع ملك شجو أكثر من سنتين، فان قلب شجو تغير على الشاعر خسرو لحادثة حدثت، وهي أن نصير الدين بغراخان النجل الثاني الإمبراطور غياث الدين بلبن كان مرة على مأدبة شجو والشاعر كذلك، فلما سمع منه شعره استحسنه وسر كثيراً وقدم له طستاً مملوءاً بالنقود الفضية، فغضب شجو على خسرو لقبوله هذا الانعام وتغير؛ وعبثا حاول خسرو بعد ذلك إرضاءه
اتصل خسرو بعد ذلك بنصير الدين بغراخان حاكم سمانا لمدة قصيرة، ثم انقطع عنه واتصل بعده بسلطان محمد الشهير بخان شهيد، النجل الأكبر للإمبراطور غياث الدين بلبن؛ وكان خان شهيد حاكماً على إقليمي البنجاب والسند، وعندما حضر العاصمة دهلي مع ريع الإقليمين في سنة 782 هجرية قابل الشاعر خسرو وأخذه إلى البنجاب. بقي خسرو مع خان شهيد خمس سنين، وكان دائماً موضع العطف الخاص والإجلال والتكريم، لأن خان شهيد كان أمثل الأمراء على حسب تقاليد الزمن في الأخلاق والشجاعة والعلم والأدب، ومن أكبر مقدري الفنون والشعر، فقد وجد في بياضه ثلاثون ألف بيت يعترف بها نقاد الفن على كمال الذوق وحسن الاختيار والعلم الواسع، وكان بيته ملجأ العلماء ومأوى الفضلاء، وكان يبذل قصارى جهده في جمع كبار العلماء والفضلاء والشعراء في مجلسه، فقد دعا الشيخ سعدي الشيرازي الشاعر الفارسي الشهير مرتين، وأرسل إليه نفقات السفر ووعد ببناء صومعة له في بلدة ملتان والأنعام الكثير، ولكن الشيخ اعتذر لكبر سنه، وبعث إليه بعض غزلياته مكتوبة بيده، ولفت نظره للشاعر الأمير خسرو مبالغاً في مدح ذكائه وفضله
في سنة 787 هجرية هجم المغول على الهند؛ فقام خان شهيد للدفاع عن بلاده وقتل؛ ولم يكن الأمير خسرو جليس الأمراء فقط، بل كان قائداً عسكرياً أيضا، فقد اشترك في محاربة المغول مع سيده ووقع أسيراً في يدهم بعد أن قتل سيده فكابد ما كابد على أيديهم من الألم والأذى. ذكر ذلك بكلمات مؤثرة في رثائه الشهير لسيده ننقل بعض أبياته إلى العربية؛ قال: (ثم فاجأتنا نازلة من السماء الزرقاء، وقامت القيامة على الأرض، إذ فرقت جماعة أصدقائنا مثل تفريق أوراق زهرة الورد بريح الخريف المخربة للحديقة) ثم وصف آلام أسره فقال:
(إن شهداء المسلمين لونوا الصحراء بلون دمهم، بينما كانت أعناق الأسارى منظومة نظم الأزهار في الإكليل. وأنا أيضا كنت أسيراً خوفاً من أنهم يريقون دمي، لم تبق في عروقي قطرة من الدم. وكنت أجري كالماء هنا وهناك مع نفطات لا تعد على قدمي مثل الفقاقيع على سطح النهر. وكان لساني قد جف من العطش الشديد، ومعدتي التصقت (بظهري) من الجوع. وهم (أخذوا ثيابي) وتركوني عريان مثل الشجرة المجردة من الأوراق في زمن الشتاء، أو الزهرة المخموشة بالأشواك. والمغولي الذي أسرني كان جالساً على الحصان مثل الأسد، وكانت الرائحة الكريهة تسطع من فمه وإبطه، وكان على ذقنه خصلة من الشعر الوسخ مثل النبات. فان توانيت وراءه من الضعف كان يهددني تارة بمقلاته وتارة برمحه، فكنت أتنهد على تلك الحالة وأرى أن النجاة منها مستحيلة. ولكني أشكر الله على أني استعدت حريتي بغير أن يطعن صدري برمح، أو يقطع جسمي بسيف)
وحكاية استعادة حريته هي أن المغولي وحاشيته وخيله كلهم نزلوا في النهر عند غسق الليل لشرب الماء فانتهز خسرو الفرصة وهرب وبعد وصوله إلى دهلي كتب هذا الرثاء المؤثر الذي شاع وذاع حيث أصبح به خسرو معروفاً عند عامة الناس أيضاً بقي خسرو بعده في مسقط رأسه في خدمة أمه حتى تولى الأمر معز الدين كيقباد، وهو آخر ملوك المماليك، فاتصل به وصنف له كتابه الشهير (قِران السعدين) على طلبه، ولم تمض مدة قليلة حتى انتقل الحكم من المماليك إلى الأسرة الخلجية. فتولى الأمر أول ملوكهم السلطان جلال الدين خلجي الذي كان يعرف خسرو ويعترف بشعره وذكائه قبل اعتلائه العرش. فمنح خسرو لقب (الأمير)، وعينه في منصب أبيه بمرتب ألف ومائتي تنكة في السنة. ثم رفعه إلى منصب محافظ القرآن الملكي. فأصبح من أعضاء بلاط الملك ومن ندمائه. فكتب له خسرو كتابه (مفتاح الفتوح)، وهو تاريخ غزوات جلال الدين خلجي بالشعر. نشبت حرب أهلية بين العائلة الملكية فقتل فيها جلال الدين وتولى الأمر ركن الدين خلجي لمدة أقل من سنة، ثم تولى علاء الدين خلجي، فاتصل به الشاعر خسرو، وهو أطول اتصالاته بالأمراء، لأن حكومة علاء الدين دامت عشرين سنة، وهي أيضا مدة أكثر إنتاجا في حياة خسرو. فقد صنف في أقل من ثلاث السنين الأولى من تلك المدة خمس روايات قصصية منظومة وهي: (1) مطلع الأنوار، (2) شيرين وخسرو، (3) ليلى والمجنون، (4) آئين سكندري (أي القانون الإسكندري)، (5) هشت بهشت (أي الجنات الثمان)، وتسمى كلها أيضا (بنج كنج) أي (الخزائن الخمس). ودشنها لشيخه في الطريقة الصوفي الولي الكبير مولانا (نظام الدين أولياء) وأهداها إلى السلطان علاء الدين. وبينما كان مشغولاً بتصنيف ليلى والمجنون منها فقد أمه وأخاه في سنة 697 فحزن، ورثاهما بكلمات تسيل الدموع في مصنفه، ننقل رثاءه لأمه إلى العربية قال: (وفي هذه السنة فقدت نورين من نجمتي وهما أمي وأخي، أسبوع واحد من سوء حظي فقدت فيه قمرين! إن حظي كبسني من جهتين، والفلك بددني بلطمتين، فأصبح نوحي مزدوجاً وغمي مضاعفاً، وا حسرتاه! أنوح على الاثنين وا أسفاه! ألمان لمثلى! إن شعلة واحدة كانت تكفي لزرعي إن صدرا واحدالا يتحمل ثقلين، ولا رأساً واحداً وجعين، إن أمي تحت التراب، فلا غرو أن ألوث رأسي بالتراب يا أمي! أين أنت؟ لم لا ترينني محياك)؟
اطلعي ضاحكة من قلب الأرض، وارحمي بكائي المر! إن في كل أثر من قدمك لي تذكاراً من الجنة، إن وجودك كان حافظاً لنفسي ومعيناً ومتكأ لي، يوم كنت تتكلمين بشفتيك كان نصحك صلاح أمري، واليوم ختم على (لساني) وسكوتك لا يزال ناصحاً
صنف خسرو في عهد علاء الدين ما عدا بنج كنج (أي الخزائن الخمس) ثلاثة أو أربعة كتب أخرى سنبينها عند كلامنا عن مصنفاته، وفي سنة 715 هجرية توفي علاء الدين فتولى الأمر قطب الدين خلجي فاتصل به خسرو وصنف في عهده (نه سبهر) أي (الأفلاك التسعة) وقدمه إليه فسر السلطان منه جداً وأنعم عليه بفضة تساوي وزن الفيل، وبعد وفاة قطب الدين تولى الأمر نصير الدين خلجي لمدة أقل من سنة، ثم انتقل الأمر من الأسرة الخلجية إلى الأسرة التغلقية، وكان أول ملوكها غياث الدين تغلق فاتصل به خسروا وصنف له (تغلق نامه) أي كتاب تغلق في سنة 725 هجرية وهو آخر تصانيف خسرو لأنه مات في تلك السنة
عاش خسرو 73 سنة وصنف 99 كتاباً أكثرها في الشعر باللغة الفارسية والهندية ضاع جلها إلا القليل، وعاشر ملوك، وإن لم تجاوز مدة بعض منهم سنة، بينهم ملوك الأسرة الخلجية الكاملة؛ وكان خسرو عالماً فاضلاً وشاعراً مفلقاً، وموسيقياً بارعاً، وصوفياً كبيراً.
وسنتكلم عن نبوغه في الشعر والموسيقى والتصوف في المقال الآتي إن شاء الله.
السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي