انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 883/اللغة والفكر. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 883/اللغة والفكر. . .

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 06 - 1950



للأستاذ محمد محمود زيتون

جرت العادة في الإنسان على أنه حيوان ناطق، وهذا النطق الذي أمتاز به الإنسان عن الحيوان معناه التفكير والتعبير معاً. والتفكير عملية تجري في عالم الداخل تترجم نتائجها ونزعتها لعالم الخارج، بإشارات إرادية مسموعة أو مقروءة هي اللغة.

اللغة لا تتحقق من دون فكر. وقد يكون فكر من غير لغة، لأن الفكر أما نفساني أو لساني، والأول منهما أقرب إلى الوجود من الآخر. لأن الوجود هو موضوع الفكر ومجال نشاطه. والفكر بدوره يصبح موضوع اللغة ودعامتها الأولى. ثم هو موجود ما دام الوجود، وحيث لا وجود فلا فكر، وليس يصح في الأذهان أن شخصاً يفكر في لا شيء، أو أنه لا يفكر في شيء. والتفكير أدل على الوجود من التعبير: فإن كل المفكرين أحياء، وليس كل الأحياء مفكرين، ولذا قال ديكارت قالته المشهورة (أنا أفكر، فأنا موجود).

ونحن بذلك نخالف (لويس دي بونالد) في قوله بأن لا فكر بدون لغة، ذلك بأن الفكر هو عالم المعاني النفسانية، واللغة عالم الألفاظ اللسانية. واللغة كمال الفكر. ولا عكس، لأنها تستوعبه، وهو لا بد له منها، وهي لا بد لها منه، ولما كانت صورة التمثال دليلاً على مادته، والثوب دليلاً على لابسه، فهل اللفظ دليل على معناه؟ وعلى أي وجه تكون دلالة اللفظ على المعنى؟ وبعبارة أخرى ما النسبة بين اللغة والفكر؟

البارعون قليل، وكم يتمنى الناس على كثرتهم أن يكونوا أمثال هؤلاء البارعين على قلتهم، وهذا ما نراه في ازدحام الناس على سماع فنان يغني، ونحن جميعاً نأكل اللحم أصنافاً وألواناً، ولكن يندر منا من يعرف كيف يتخير اللحم عند القصاب. وكلنا نفكر ولكن أقلنا من يفكر تفكيراً صحيحاً سليماً.

فإذا كان الغناء براعة، ومعرفة أصناف اللحوم براعة، فلا عجب أن يكون الفكر نشاطاً إنسانياً بارعاً، وإن كان عند ديكارت أعدل الأشياء توزعاً بين الناس. والتفكير أضيق نطاقاً من التعبير، فهو كالقوة الكهربائية لها طاقة تدير الآلات وتدبر أمور الحياة.

ويكون التفكير صحيحاً إذا روعي فيه شرائط أربع:

أولاً: استيضاح موضوع التفكير بالإلمام بشتى خصائصه ثانياً: امتحان الوسائل الممكنة لإتيانه قولاً أو عملاً أو معرفة أو اعتقاداً.

ثالثاً: اختيار أقرب المسالك وأقوم السبل.

رابعاً: الربط بين هذه الشرائط جميعاً.

والواقع أن تلك هي خطوات التفكير العام عند المهندس والكيميائي والفيلسوف جميعاً حينما يزاول أحدهم فنه، بل هو منهج السلوك الإنساني في هذه الحياة. ونحن إذ نفكر نزداد قدرة على التفكير يتسع معها مجاله، وبراعة التفكير تستلزم التعمق والتوسع معاً، كما هو الشأن في تخصص العلماء في أدق الأمور.

التفكير إذن تفاعل بين القوة المفكرة ومظاهر الوجود، واللغة نتيجة هذا التفاعل، ولما كان الناطق هو المفكر المعبر معاً، فإن للغة إذن مكانتها من الإنسانية. إذ الإنسان مفطور على الاجتماع ببني جنسه اجتماعاً إنسانياً أي بكلا شطري إنسانيته. أما الشطر الأول - وهو التفكير - فلا يكفي وحده لتحقيق هذا الترابط، وكذلك الشطر الثاني - وهو التعبير - لا يكفي وحده لتحقيق ذلك. فكان من اللازم أن تتحالف اللغة والفكر ما دامت الإنسانية وما دام الوجود.

ولما كانت اللغة تستوعب الفكر، فقد أصبحت العنصر الأول والدائم في التقدموالعمران. فالناس يترابطون باللغة ويتعاملون بها، وكلما يسرت اللغة بين الناس، خطوا نحو الحضارة بأوسع الخطوات، وما طرق المواصلات على اختلافها إلا لغات بين الأفراد والقبائل والشعوب. والإنسان بطموحه المعهود لا يكتفي بما لديه من مواصلات، ولا يقف نشاطه على عوالم يعرفها ويتعامل معها، لذلك عمل على التعرف بأبناء الكواكب، والتحدث إليهم في شجون وفنون، وأعانه على ذلك تطور المواصلات من التعقيد إلى التبسيط، ومن البطيء إلى السريع: من رجليه إلى أحدث ما عرف وسيعرف من وسائل؛ تدرجت من الدواب إلى العجلات، من السيارة إلى الطيارة، إلى الصاروخ الأوتوماتكي، ومن التليفون إلى التلغراف، ومن الطرق البرية والبحرية والجوية إلى اللاسلكية، ومن التلفزيون إلى التلبرنتر، وما تزال الليالي حبالى يلدن كل عجيبة، وذلك اتجاه لا ننكره على العقل الإنساني الذي لا يطيق الفوضى، ولا يحتمل الكثرة، ولا يرضى بحمل الأثقال: فقديما لم يعرف الإنسان العدد، وقديماً أخرج (بأقل) لسانه ليكمل بأصابعه العشر ثمن جَدي اشتراه، وما زال العقل يختزل حتى عرف خصائص العدد فأغنته عن المعدود، وترقى في الأرقام الحسابية إلى الرموز الجبرية، ومن الأشكال الهندسية إلى التحليل الهندسي، فاستحالت النظريات الهندسية من ألفاظ تنطق وأشكال ترسم إلى معادلات.

واللغة مكتوبة أو منطوقة هي إشارات لا تمت إلى ما تشير إليه بصلة من قريب أو بعيد، فليس ثمة شبه ولو قليلاً بين كلمة (كلب) أو صوتها أو شكل كتابتها، وبين الحيوان المشار إليه بها لا شكلاً ولا لوناً ولا طعماً ولا أي شيء آخر. بل يروي أن سبب تسمية حيوان (الكنجارو) وهو أن الإنجليز عند استعمارهم استراليا، سألوا أحد السكان عن أسم هذا الحيوان فقال (كنجارو) أي (لا أدري) فظن الإنجليز أن هذا الحيوان اسمه (لا أدري) فصار اسماً ملازماً. والواقع أن الإنجليزي والأسترالي وغيرهما يعرفون الحيوان ويدركون صورته، ولكنهم - وإن اتفقوا على تسميته باسم (الكنجارو) - لا يردون من سبب لتسميته.

والحق أننا نجاري السابقين فيما تواضعوا عليه من أسماء، وأن اللاحقين يجاروننا فيما توارثناه عن السابقين من غير معارضة ولا مناقشة، ومن غير معارضة ولا مناقشة، ومن غير ما سبب أو ضرورة.

ومما هو جدير بالذكر أننا بالاتفاق والاصطلاح نجمع على المشار إليه أولاً ثم على ما نشير به إليه، وبذلك يكون العقد اللغوي صحيحاً. فالشيء واحد واسمه واحد. ولكن هل أفكارنا عن المسمى واحدة؟

الواقع أنها ليست واحدة، ولن تكون كذلك: لأن مشاعرنا وميولنا - فضلاً عن مدة تعارفنا - كلها تحدد أفكارنا تقديراً وتقريراً. فمدلول اللفظ واحد عند كل الناس، ومعناه يختلف في الكيف والكم عند كل واحد منهم على حدة. وعلى ذلك يكون لدينا: أسم ومسمى وفكرة. وغالبا ما يتحد الاسم، وغالبا ما يتحد المسمى، ولكن من المحال أن تتفق الفكرة لأنها أشبه بدوائر الماء ألقي فيه بحجر، فهي تتسع وتتسع إلى ما لا نهاية له من الأمواج.

والفرق واضح بن الاسم والفكرة لأن الاسم هو الدلالة على المعنى الاصطلاحي الذي يفهم من اللفظ عند إطلاقه، والذي من أجله أطلق الاسم على مسماه دون غيره، أما الفكرة فهي مفهوم الشيء من غير قيد ولا شرط. ولا بأس من التعرض للخلاف الفلسفي الدقيق الذي دار بين (جون استيوارت) و (جيفونر)، فالأول يعتبر المعنى اصطلاحاً وصالحاً للتعامل لأنه عام، ويسميه والآخر يعتبره فكرة خاصة بصاحبها ويسميه فهو خاص أو أخص الخواص، وذلك أدعى إلى النفرة والخلاف، بسبب اختلاف الناس في مدى تجاربهم عن الحياة، ولعدم وجود رابط للتوفيق بينهم، وما دام السلوك الإنساني شخصياً، والسلوك الحيواني فردياً. إذ الإنسان - كما يرى علماء البيولوجيا - (شخص) بينما الحيوان (فرد)

ومع ذلك لو تركنا للفكر حبله على غاربه لذهب بنا إلى وديان ومتاهات لا نهاية لها، ولا متنع - مع هذا التيه والبعد - ما هو مرجو من الفكر، لتحقيق أغراض اللغة كأول رابطة تعاونية بين الإنسان والإنسان.

لهذا تنازل الناس إلى بعضهم بعضاً عن الحقوق المحفوظة في الخواطر والمشاعر والأنظار، وهداهم الأمر إلى الإنفاق على مسمى الاسم وهو القاسم المشترك الأعظم بين أفكار الناس عن مفاهيم الألفاظ.

ومما يقوي تركيز الأفكار ويمنع تشتتها استغراق المشاعر والميول في النظر إلى الأشياء. فكلما اتحدت مشارب الناس وتوافقت طباعهم وعوائدهم قل الخلاف على معاني الأشياء اختياراً واستعمالاً. وعلى العكس من ذلك إذا تنافرت الطباع وتناكرت الارواح بعد ما بين الناس، وصعب التوفيق، وضار صرخة في واد. أو نفخة في رماد.

ففي الهند 222 لغة يصعب معها تفاهم القادم من (بمباي) مع المقيم في (مدراس)، وليس ذلك إلا مظهراً للخلافات الفوارق الاجتماعية. فلا عجب إذا قلنا إن الانحلال الاجتماعي يتبعه دائماً انحلال لغوي، إذ تعود الإفهام إلى الفوضى الذهنية الأولى فتتخطى الاتفاقات والمعاهدات وتضرب بها عرض الحائط.

وهكذا تكون اللغة مرآة تنعكس على صفحاتها مجرى الحياة القومية لشعب من الشعوب، فقد طغت الموجة السفسطائية على الحياة اليونانية ردحاً من الزمن فتشتت الشمل، وساد الانحلال الخلقي، واستبدت بالشباب نزعة الاستعلاء الباطل، والتمويه والتزويق، وكادت الروح اليونانية تلقي مصرعها النهائي لولا أن أتاح الله للفكر الإنساني سقراط الحكيم الذي وجه كل كتائبه الأولى نحو تحديد الألفاظ، فقطع على السفسطائين أفاعيلهم ورد إلى الإنسانية كرامتها الفكرية.

والإنجليز يسودهم (المادية) حتى في مجال الحياة المعنوية، فهم يقولون وهكذا يجعلون الزيارة والانتباه كالمال يدفع.

كما أن الفرنسيين يهتمون بالمبالغة والمغالاة، لهذا تعددت في لغتهم مرادفات كلمة (جداً) فيقولون: , , , , , , , , , , , ,

وهكذا تكون اللغة مقياساً دقيقاً للروح القومية في خصائصها العامة من جهة، وفي التضامن الاجتماعي أو التفكك والانحلال من جهة أخرى.

والسر الخفي في هذا المقياس يرجع إلى النسبة بين اللفظ والمعنى، لهذا يجب أن نعرف أن دلالة اللفظ على المعنى تكون بإحدى ثلاث: -

أولاً: (المطابقة) أي يكون اللفظ عين المعنى وليس غيره كما نطلق لفظ الإنسان على الحيوان الناطق، ولفظ البيت على مجموع الجدران والسقوف.

ثانياً: (التضمن) أي يكون اللفظ دالاً على جزء من أجزاء المعنى المطابق كما أنطلق لفظ الإنسان على الحيوان وحده، ولفظ البيت على الجدران فقط.

ثالثاً: (الالتزام) أي يكون اللفظ مطابقاً للمعنى الذي يلزمه أمر آخر ليس جزءاً منه ولكن مصاحباً وملازماً ومستتبعاً. كما نطلق لفظ المخلوق على الخالق ولفظ البيت على الكوخ.

ودلالة الالتزام ليست في الحقيقة دلالة لفظية، بل هي انتقال الذهن من المعنى الذي دل عليه اللفظ بالوضع إلى معنى آخر ملاصق له أو قريب منه. فاللفظ يدل على المعنى كله أو جزئه أو شيء آخر خارج عنه ملازم له.

والعلوم إنما تستعمل الألفاظ المطابقة على معانيها حتى لا يختلف في الأمر اثنان أو على الأقل يكون الخلاف أقل من أي خلاف آخر توجده الدلالتان الأخريان. فدلالة التضمن ودلالة الالتزام هما سبب شطحات الخيال، ونزوات السفسطة. ودلالة المطابقة لا تكون إلا بالاتفاق والاصطلاح. وحرصاً على التركيز العلمي، عمدت كل طائفة من العلماء إلى معاجم اتفقوا علة وضع مصطلحاتها، ولهذه المعاجم القول الفصل في كل خلاف. من ذلك ما صرح به المستر تشتشل إبان الحرب الأخيرة إذ قال فما كان من ساسة مصر النابهين إلا أن فطنوا إلى التورية الإنجليزية واللغة اللولبية التي اشتهرت بها، فطلبت حكومة مصر إيضاحاً لهذه الكلمة التي ربما انطوت على معنى (الحماية) التي جاهدنا بأموالنا ودمائنا في سبيل فك أغلالها عنا، ونزع كابوسها، فما لبث تشرتشل أن فسر قصده بأننا علينا أن نحميها وفق المعاهدة وبذلك انحسم النزاع، وأغمدت الدماء في القلوب.

ولا شك في أن دلالة المضمون تعني الأديب اللغوي في بحثه عن البيان والمجاز من إرادة الكل وإطلاق الجزء، وكما أن دلالة الالتزام لا تعني المنطقي ولا اللغوي وإنما أهل الفن في تخييلاتهم، وتصويراتهم، فالشاعر يتخيل ويتصور، ويخلع على الموجودات والمعاني من شخصه روحاً وجسداً، والمثال يبرز المعاني ويجسمهاما شاءت له معداته ومواهبه ونوازعه، وعلى ذلك تكون المطابقة من هم أهل العلم، والالتزام يخص أهل الفن، والتضمن يشغل المهتمين بأدب اللغة أو لغة الأدب على الأصح.

واللفظ أحياناً يكون له معنى واحد، وأحيانا أخرى يكون ذا معان كثيرة: فالاسم العلم مثل: القاهرة، فاروق، والاسم الكلي مثل: شجرة والجمال؛ وهذان الاسمان يدلان على معنى واحد. أما الاسم المشترك كالعين، والاسم المنقول كالصلاة والأسد والقطار، فكلاهما يدل على أكثر من معنى.

للكلام بقية

محمد محمود زيتون