انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 883/آراء من الغرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 883/آراء من الغرب

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 06 - 1950



العالم بعد خمسة وثلاثين عاماً

بقلم الأستاذ فرحان سعيد

أصدر الكاتب الإنجليزي جورج اورول قبل أشهر قليلة كتاباً قيماً بعنوان (عالم 1984 يصف فيه الحياة العالمية اليومية التي يتخيلها سائدة آنئذ. وقد أثار هذا الكتاب عاصفة من الاهتمام والدهشة في الأوساط الإنجليزية والأمريكية على السواء) وتناوله عدد كبير من الصحف بالعرض والنقد والتحليل. وقد تعرضت له مجلة (ريد رزدا يجسب) في أحد أعدادها الأخيرة فلخصت القسم الأول من أقسامه الثلاثة.

والقسم الأول من الكتاب وصف للحياة اليومية في أوسيانيا كما تخيلها المؤلف في عام 1984. وأسبانيا هذه تؤلف أجزاء العالم الغربي الذي نعرفه اليوم، شاملاً على الأخص الجزر البريطانية وجزر الأطلنطيق والأمريكيتين وأفريقيا الجنوبية وقسماً كبيراً من أستراليا.

ونظراً لما له من الأهمية وما فيه من الطرافة والفائدة، فقد رأيت أن أقدم إلى القراء الكرام بمراجعة عجلى له:

وتستون سميث رجل ضعيف البنية، يناهز التاسعة والثلاثين من العمر، يلتجئ في يوم عاصف من أيام نيسان الباردة عام 1984 إلى المنازل المعروفة (بمنازل النصر). وعندما دخل القاعة استرعىنظره صورة كبيرة ملونة معلقة على الحائط، تمثل وجهاً كبيراً جداً، وجه رجل يقارب الخامسة والأربعين من العمر، له شاربان أسودان كبيران وملامح جذابة، وقد كتب تحتها، الأخ الكبير يراقبك!، فهي إذن صورة الزعيم الذي يدير دفة الحكم في أوسيانيا.

وفي أحد الطوابق كان ينبعث صوت عذب يقرأ لائحة هامة حول إنتاج الحديد الخام لقد كان الصوت ينبعث من قطعة معدنية مستطيلة، تعرف بالتلسكرين. وأدار ونستون مفتاحها، فخفتصوتها، ولشد ما كان يتوق إلى إسكاتها تماماً لو كان ذلك في استطاعته، ولكن الحكومة أعدتها بحيث تظل دائماً مسموعة مفهومة واضحة وقد كانت هذه الآلة الغريبة تلتقط كل ما يخرج حولها من الأصوات وما يجري من الحركات. فكان في استطاعة (شرطة الفكر) أ يراقبوا جميع الناس من ورائها. وعلى الإنسان أن يعيش وهو موقن أن أي صوت يخرجه أو حركة يأتيها ستكشفها الشرطة ما في ذلك ريب.

ويذكر المؤلف أن العالم قد أنقسم بعد الثورات والانقلابات الخطيرة التي حدثت في الربع الثالث من القرن العشرين إلى ثلاث قارات كبيرة وهي: - أوربة الأسيوية، وآسية الشرقية وأوسيانيا. وقد كانت الحرب بينها سجالاً، فما كانت تنتهي يوما إلا لتندلع نارها من جديد.

وعلى بعد كيلومتر كانت تبين أمام سميث العمارة الشاهقة التي تشغلها وزارة الصدق حيث مكان عمله. وتشغل هذه الوزارة عمارة ضخمة على شكل الأهرام، وقد كتبت على جوانبها المبادئ الثلاثة لحزب الأخ الكبير، وهي تنص على ما يلي: - الحرب سلم، والحرية عبودية، والجهل قوة. وفي هذه المبادئ تتلخص فلسفة الأخ الكبير ونظرته السقيمة إلى الحياة. فلقد كان يعتقد، ويعتقد معه حزبه، أن الحرب إحدى السبل الطبيعية للحياة، ولذا كان أحسن حالاً من السلم. ويرى الحرية عبودية لأن حرية الإنسان تضطره إلى الاهتمام بشؤونه الخاصة وهذه هي العبودية عينها؛ ويرى في الجهل قوة، لأن الإنسان إذا تعلم كثيرا ضعفت قواه الجسمية والعقلية. وتضم وزارة الصدق ثلاثة آلاف غرفة علوية، ومثلها سفلية، وليس في لندن كلها سوى ثلاث عمارات تضاهيها شكلاً ومنظراً. وفي هذه البنايات الأربع تتركز جميع أجهزة الحكومة وهي: - وزارة الصدق التي تهتم بالأخبار والعلوم والفنون وإذاعة البرامج على التلسكرين؛ ووزارة السلم وهي التي تعني بالشؤون الحربية؛ ووزارة الحب وهي التي تسن الأنظمة والقوانين، وتبث التلسكرينات في كل بيت، وتحرم على الناس الحب وتحتم عليهم أن يستغلوا جميع عواطفهم لمصالح الدولة؛ ثم وزارة الكثرة وهي التي تعني بالشؤون الاقتصادية.

وتوجه ونستون إلى بيته، وانتحى ناحية منه، ثم تناول دفتراً ذا غلاف أحمر وعزم على تدوين مذكراته. وأما الدفتر المذكور فيدل منظره على أن له من العمر أربعين عاماً، ولقد وقع عليه بصره في أحد الحوانيت في بلدة تسكنها (الطبقة الكادحة) التي كان محظوراً على المنتمين لحزب الأخ الكبير أن يختلطوا بها أو يدخلوا حوانيتها. وقد استولت على بونستون رغبة عنيفة جارفة لشراء الدفتر، ففعل ولكن بعد أن أخذ الحيطة اللازمة لئلا يكشف أمره وإلا كان عقابه الموت أو السجن في معتقلات الأعمال الشاقة 25 عاماً على الأقل.

وشرع ونستون يدون مذكراته بحروف غامضة، ولكنه سرعان ما أنقطع عن ذلك عندما راوده الفكر أن شيئاً أهم من كل ما دونه قد حدث في الوزارة صباح ذلك اليوم. فقد انبعث من التلسكرين الجاثم في إحدى الزوايا بقاعة الوزارة ضجة صاخبة تعلن ابتداء برنامج البغض ومدته دقيقتان. فظهرت على شاشة التلسكرين صوره وجه عمانوئيل جولد شتاين، عدو الشعب المارق الذي كان فيما مضى أحد زعماء الحكومة البارزين ولكنه أنغمس في أعمال عدوانية ضد الدولة فحكم عليه من جرائها بالإعدام. ولقد كان هذا البرنامج يتنوع يوماً بعد يوم، ولكن جولد شتاين هو هو بطله في كل الأوقات، فإليه تنسب جميع الخيانات والمؤامرات. فيشاهد على الشاشة وهو مندفع في إلقاء خطاب عنيف موجه للأخ الكبير مندداً بدكتاتوريته ومحقراً شخصيته. وما إن توشك الدقيقتان على الانتهاء حتى تثور ثائرة الجمهور الذي يحاول إسكات ذلك الهذر الجنوني الصادر عن التلسكرين، وتخالط نفسيته موجة من الذعر والانتقام والتعطش إلى القتل والتعذيب، ويتحول كل شخص مجنوناً ثائراً يملأ المكان عويلاً وصراخاً. ولكن الأخ الكبير لا تطول عليهم غيبته، فإذا به يظهر على الشاشة وينظر إليهم نظرات يهدئ بها ثائرتهم ويعيد الثقة والطمأنينة إلى نفوسهم.

تذكر ونستون كل هذا ثم عاد إلى مذكراته يراجعها، فألقى نفسه قد كتب وسط ذلك البحران والتفكير الشارد جملة واحدة بخط كبير مرات ومرات (ليسقط الأخ الكبير!).

وتستبد به رعدة من الذعر لأن كتابة هذه الكلمات أو مجرد التفكير بها لهو إجرامي، وجريمة الفكر ليست من الأمور التي يطول كتمانها إذ لا تلبث أن تكشف يوماً ما، فما يشعر مقترفها إلا وقد امتدت إليه في ساعة من ساعات الظلمة الحالكة يد قاسية عاتية تهز كتفيه بعنف وشدة، وتسومه من العذاب ألوانا ثم تسوقه إلى الإعدام. ولقد كان التجسس أمراً شائعاً، فالأولاد الصغار يتجسسون على آبائهم وأمهاتهم ويراقبونهم مراقبة شديدة؛ وكثيراً ما يشكونهم لشرطة الأفكار، وكانت الجرائد تروي الكثير من نوادرهم بعد أن تشيد ببطولتهم وإخلاصهم، وتلقبهم حين تتحدث عنهم (بالصبية الأبطال) وانبعث من التلسكرين صوت صفارة يصم الآذان، يعلن وقت النهوض لموظفي المكاتب. وينهض ونستون ويقف أمام التلسكرين ليقوم بالتمرينات الرياضية الإجبارية التي تذيعها الوزارة ولا مفر من القيام بها على أحسن وجه.

أما مكتب عمله فقد كان كغيره من المكاتب مجهزاً بجميع ما يحتاج إليه. فأمامه الآلة المسجلة للكلام وبجانبه شقوق في الحائط ترمي فيها الأوراق المعدة للإتلاف فتحمل آلياً إلى مواقد كبيرة تلتهمها فيها ألسنة النيران وتأتي عليها. وإذا ما احتاج إلى بعض السجلات الرسمية فما عليه إلا أن يدير أرقاماً في قرص أمامه، فيأتيه طلبه في أسرع من طرفة عين. وقد كان العمل الأساسي لدائرته أن تنقح جميع الجرائد والكتب والنشرات والإعلانات والأفلام والصور وما إليها من السجلات بحيث تظل دائماً ملائمة لمقاصد الحكومة ودعايتها، فتحفظ في الملفات.

وأما النسخ الأصلية القديمة فيحكم عليها بالإتلاف. ودائرة السجلات هذه أحد فروع وزارة الصدق التي من شأنها أن تعيد بناء الماضي وتزود سكان أوسيانيا بالمجلات والكتب والأفلام والبرامج وما إليها، وتقدم لأعضاء الحزب جميع حاجاتهم على اختلاف أنواعها.

وأما الجماهير المؤلفة من الطبقة الكادحة التي تكون 85 في المائة من مجموع سكان أوسيانيا، فلم تكن خاضعة في الكثير من مظاهر حياتها لدعاية الحزب، لأن الحزب لم ير ضرورة لذلك بعد أن كان يجعلهم يرجون أكثر أوقاتهم في الأشغال التي لا تبقي لديهم من الوقت ما يسمح لهم بالتحفز ضد الحكومة. كما أن الدوائر المختصة بها كانت تكيف عقليتها على النحو الذي تشاؤه فلا تقدم لها من الأدب والموسيقى واللهو والتمثيل إلا بضاعة رخيصة عثة لا تتعدى إثارة العواطف الجنسية والأفكار المنحطة، بحيث لا تفسح لها المجال في التفكير الراقي في ما يختص بتحسين الحياة وطرق العيش.

ويلتقي ونستون بصديقه سايم في أحد الحوانيت النموذجية التي يتناول فيها أفراد الحزب وجبات طعامهم، وهنا يستفيض الحديث فيتطرق سايم إلى الكلام على المعجم الذي يؤلفه في اللسان الحديث - وهو اللغة المنتشرة في أوسيانيا -، فيقول: - لقد شرعنا نلغي مئات الكلمات القديمة كل يوم لأن الغاية من اللسان الحديث تضييق آفاق الفكر بحيث تجعل جريمة الفكر أمراً مستحيلاً، وذلك بإعدام ما يعبر عنها من المفردات. . . وينصت ونستون إلى التلسكرين وهو يتلو رسالة من وزارة الكثرة تتحدث عن زيادة الإنتاج هذا العام عن العام السابق زيادة في الطعام والملابس والمنازل والأثاث وغيرها. ولكنه يستغرب كل هذا ويستهجنه، إذ لا يذكر أنه حصل طوال حياته على ما كفيه من مأكل وملبس، ولا يذكر أن أثاثه كان متهافتاً وبيته كان متداعياً. ولكن أنى للإنسان أن يظهر إمارات السخط أو الشك لأن ذلك هو الجريمة بعينها. وراح ونستون يتجول في أحياء الطبقة الكادحة حتى وصل أخيراً إلى الحانوت الذي أشترى منه فيما مضى الدفتر ذا الغلاف الأحمر. وأراه هنا صاحب الحانوت قطعة من الزجاج ركب جوفها فص من المرجان، ويرجع تاريخها إلى مائة سنة خلت. ويملك بونستون إعجابه بها، لا لأنها جميلة فحسب، بل لأنها تنتمي إلى عصر غير العصر البغيض الذي يعيش فيه. ثم قاده صاحب الحانوت إلى غرفة مريحة في طابق علوي فتمنى ونستون لو كان يستطيع أن يستأجرها منه، ويعيش فيها هادئاً مستريحاً عن صوت التلسكرين المقيت، ولكن أين منه ذلك والرقابة منتشرة في البلاد طولاً وعرضاً!

هذا وصف موجز للحياة اليومية كما يتخيلها المؤلف سائدة عام 1984. وأما أفكاره هذه فيختلف وقعها على القراء بحسب بيئاتهم. فقد تبدو للأمريكيين مجرد وهم وخيال لأنه يشق عليهم أن يؤمنوا بدكتاتور كالأخ الكبير يتعطش للسلطة، وبحكومة يسارية فظيعة ما داموا قد تعودوا استطابه العيش في ظلال الحرية. أما خارج أمريكا فقد تكون رسالة المؤلف أعمق أثراً وأبلغ فهماً، فالإيطاليون الذين عاصروا موسوليني وهو يلقن الأولاد الصغار دروساً في القسوة الوحشية لن يدهشهم أن يروا الصبية الذين لا تتجاوز أعمارهم السابعة يمارسون التجسس على يد الأخ الكبير. وإذا تسنى لهذا الكتاب أن يتجاوز الحدود الى ما وراء الستار الحديدي فلن يبدو فيه العالم الرهيب غريبا وخيالياً، لأن الصورة التي رسمها المؤلف له مبنية على الدرس الدقيق لمستقبل الاشتراكية إذا أطرد سيرها على منواله الحالي.

أما أهمية الكتاب فليس في تخيلاته وطرافته، وإنما هي في منطقة المر القاسي، لأن المؤلف يحذر فيه الناس من القوى المهددة لعالمنا إذا نشطت هذه القوى حتى تبلغ بنا إلى نهاية المحتومة.

ولربما تحمل هذه الأفكار بعض الناس على الظن أن المؤلف قصد أن يقول: - (إن الناس أشرار بطبعهم، وليس هناك من أمل يرجى في صلاح البشرية ما دامت على هذا الحال) وما هذا بصحيح لأن الناس إذا ما واصلوا سعيهم لإسعاف البشرية، واحترام روح الحق، واعتنقواالصدق في السعي وراء المعرفة الكبرى، فلن يقودهم سعيهم هذا إلى الاستعباد الرهيب. وإذا تآزروا جميعاً على محاربة روح التفرقة؛ ودعوا إلى الحرية في عبادة الله، الحض على حب النساء وتقديرهن، والعناية بالأطفال ومساعدة المرضى، والجهاد من أهل الإبقاء على قيمة الإنسان وإنماء الروح الإنسانية فيه، والحرص على حريته، فإن هذا العالم الرهيب الشرير، عالم 1984، المفعم رعباً وهولا لن يقدر له في يوم من الأيام أن يصبح حقيقة ماثلة للعيان.

ماجد فرحان سعيد

مدرسة الفرندز للبنين

رام الله