مجلة الرسالة/العدد 859/رسالة النقد
مجلة الرسالة/العدد 859/رسالة النقد
نهضة العراق الأدبية في القرن التاسع عشر
للأستاذ إبراهيم الوائلي
شهد العراق في القرن التاسع عشر نهضة أدبية كبرى كان لها الصدى المدوي في وادي الرافدين، وكان لها الأثر الفعال في انبعاث الشعر المعاصر في العراق، وهذا القرن - بما فيه تبلبل سياسي والتواء في الحكم، وبما فيه من ظلم واستبداد - كان نشيطاً في حركته العلمية والأدبية. وكان اكثر نشاطاً في الناحية الشعرية. ففي بغداد والحلة والنجف والموصل كانت الحركة العلمية في نهاية المعركة مع الأحداث والخطوب التي كانت تحارب العقول والأذهان والحريات؛ لأن الأولى كانت تستمد قوتها من تاريخ حافل بالأمجاد والروائع؛ ولأن الثانية كانت تطل من دنيا الجهل والجبروت تحارب هذه الأمجاد بقوة وعنف وانتصرت الحركة العلمية في العراق بفضل أبنائه الساهرين على تأريخهم وأمجادهم، فقد كانت في القرن التاسع عشر - ولا تزال - بيوت أثيرة المكانة منيعة الجانب تجمع بين النفوذ السياسي والديني، وكان فيها إلى جانب ذلك من يعشق الأدب ويمارس الشعر. وقد حدبت هذه البيوت على الشعر والأدب تمده بالرعاية وتبذل له من التشجيع ما وسعها ذلك. ومن هذه البيوت: الشاوي والنقيب وكبة في بغداد، والقزويني في الحلة، وكاشف الغطاء والجواهري وبحر العلوم في النجف، والعمري في الموصل. وتحت رعاية هذه البيوت أستظل الشعر بنجاح وريف الظل ونبغ كثير من الشعراء الأفذاذ الذين لا يقلون في التعبير والمعاني والأخيلة عن شعراء العصر العباسي الأخير. ومن هؤلاء: الحليان السيد حيدر والسيد جعفر، والموصليان عبد الغفار الأخرس وعبد الباقي العمري، والنجفيون السيد محمد سعيد الحبوبي والسيد إبراهيم الطباطبائي، والشيخ عباس والشيخ جعفر الشرقي والشيخ جواد الشبيبي وغيرهم. وقد ترك معظم هؤلاء الشعراء دواوين مطبوعة وأثاراً مخطوطة يتدارسها أدباء العراق ويعنون بها، لأنها الينبوع الذي تدفق من بين الرمال والصخور بعد فترة طويلة فسقى وأنبت وأمد نهضتها الحديثة بذخيرة قوية وافرة.
ومن المعنيين بهؤلاء الشعراء الشاعر المعروف الدكتور محمد مهدي البصير أستاذ الأدب العربي بدار المعلمين ببغداد فقد أصدر عنهم كتاباً سماه: (نهضة العراق الأدبية في القرن التاسع عشر) تحدث فيه عن ثمانية وعشرين شاعراً بين شهير أضاف إلى حياته صفحة جديدة، وبين مغمور كشف عن حياته وشعره. وهذا الكتاب هو مجموعة أحاديث أذاعها أديبنا الكبير من دار الإذاعة العراقية ثم شاء له حرصه الأدبي والتاريخي أن يجمعها في كتاب منشور.
هؤلاء الشعراء - كما يقول الدكتور في المقدمة -: (ليسوا كل من أنجب العراق من قالة القريض في القرن المنصرم ولا أكثرهم ولا كل من أعرف منهم، ولكنهم صفوة من أعرف وخير من وصلني علمه منهم) أما دراسته لهؤلاء فليست من الدراسات التي تعتمد على الترجمة والرواية فحسب، بل هي مزيج من هذا ومن غيره. ولعل اللون الذي يطغي على هذه الدراسة هو اللون التحليلي الذي يعتمد فيه على أثر الشاعر ويستقي من شعره، ولذلك فإن للدكتور البصير أراء أستخلصها من شعر هؤلاء قد لا يقره عشاق التراجم، كما أن له آراء قد لا يوافقه عليه نقاد الأدب، ونراه في بعض الشعراء يبدو واضح الرأي والفكرة، وفي بعضهم يظهر متردداً متهيباً من الإفصاح والجهد، والسبب في ذلك يعود إلى أن الذين تحدث عنهم لم يكونوا جميعاً ممن انقطعت صلتهم بالأحياء. بل أن معظمهم ترك وراءه أسرة وأحفادا يحاسبون الأديب والناقد الحر، وأن معظمهم قد جمع بين الشعر والعلم، وبينهما وبين التقشف والزهد، فكان من البديهي أن يقع الدكتور في مأزق من جلاء الدراسة ووضوح الرأي فلم تسلم دراسته من بعض الغموض، ولم يسلم رأيه من الترجح والتردد في بعض المواطن، ونشير إلى ذلك وغيره.
يتحدث - أول ما يتحدث - عن السيد محمد سعيد الحبوبي النجفي الشاعر الشهير وصاحب الموشحات الكثر فيقارن بينه وبين الشريف الرضي وتسلم مقارنته في كثير من المواطن، في الشعر والعلم، وفي الحياة والجهاد، وفي مواطن الترفع عن التكسب بالشعر، ويغفل المقارنة بينهما في النسب، فكلا الشاعرين علويان يتصل نسبهما بالإمام علي، وقد ترتب على هذا الإغفال - مادمنا في صدد المقارنة إغفال ناحية أخرى وهي تعصب الشريف الرضي لعلويته ودفاعه عنها واعتزازه بها وتفجعه لمآسي أجداده أما الحبوبي فإنه قليل المحاولة في ذلك، فما هو السبب ولماذا؟ هذا ما كنا ننتظره من الدكتور.
ويتردد الدكتور في رأيه بين الجهر والتكتم عندما يتحدث عن غزل الحبوبي، فهو لا يستطيع أن يحكم بأن الحبوبي قد أكتوى بنار الحب وأنه أستمتع من شبابه بما يستمتع به كل شاب مترف لأن سمعتة الفقيه تأبى ذلك: ثم يقول: (أننا نظلم الحبوبي ظلماً فاحشا إذا افترضنا أن قلبه لم يكن من القلوب التي بداخلها الحب)! فالدكتور البصير لا يريد أن يظلم الحبوبي فيقول عنه أنه احب ولا يريد أن يظلمه فيقول: أنه لم يحب في الأولى يتنافى مع علمه وفقهه وفي الثانية يتنافى مع غزله الرقيق؟! هذا هو موطن الغرابة في رأي الدكتور، ولقد كان بإمكانه أن يعلن عن رأيه بوضوح ولا يتحفظ ما دام يتنقل من ديوان الحبوبي بين شعر واضح التصوير والصور، ولا أحسب ذلك عسيراً على الدكتور وهو يعتمد في دراسته على الشعر أكثر من غيره.
ثم ما المانع من أن يكون الحبوبي قد عشق وأحب ولكن في سياج من العفة والأخلاق؟ وهل كانت قلوب الفقهاء إلا كقلوب سائر البشر تحس بالجمال وتنفعل به، ولكنها كقلوب بعض البشر أيضاً لا تواكب هذا الجمال ولا تنطلق مع الحب إلى ما وراء العفة؟ وليس الحبوبي إلا واحداً من هؤلاء يحس بالجمال ويحترمه وقد يهيم به ولكن في دائرة محدودة هي النزاهة والعفة.
ثم ألبس الشيخ عباس النجفي - وقد تحدث عنه الدكتور فيمن تحدث عنهم - كان فقيهاً وكان محباً تعرض في حبه لكثير من المتاعب وتحدثت عنه القصص الغرامية كما تتحدث عن أي شاعر عاشق صدق في شعره كما صدق في حبه؟ فلماذا كان الشيخ عباس شاعراً محباً صادق الحب؟ ولماذا كان الحبوبي يظلم حين يتهم بالحب ويظلم حين يجرد منه؟.
أعتقد أن هذا التشكيك وهذا التحفظ ما كان لهما شأن عند الدكتور لو أنه عني بدراسة البيئة العراقية عناية دقيقة وربط بين هذه البيئة وبين شعر الحبوبي. ولو أنه أعطى البيئة نصيباً من الدراسة لجرد الحبوبي من تبعات الحب في مختلف أدواره، ولننظر إلى شعر الحبوبي:
قلن لي: علك يا بادي الشجن ... ذلك الصب العراقي الوطن
مولع القلب يتسآل الدمن
لست تنفك تحي الاربعا ... ولكم عجت ضحى في سفح ضاح؟
قلت: هل تنكرن صباً مولعاً ... يا ذوات الأعين المرضى الصحاح هذا نموذج ذكره للدكتور من غزل الحبوبي واستشف من ذلك أن الشاعر كان عاشقاً ولكنه تحفظ بهذا الرأي كما يقول. ولو انه أنكر على الحبوبي (تسآل الدمن) و (الأربع) و (سفح ضاح) والجناس بين (ضحى وضاح) و (الأعين المرضى الصحاح) أقول: لو أن الدكتور فعل ذلك لأنكر على الحبوبي هذا الحب وهذه المحاورة. ولنستمع إلى الدور الآتي من الموشح:
ثم قدنا شدنها بالذمم ... وتلطفن بطيب الكلم
قلن لي: الموعد في ذي سلم
فانتظر حارسها أن يهجعا ... ورعاة الحي أن تأوى المراح
وهزيع الليل أن ينزعا ... وتهيج الروض أنفاس الرياح
فأين الحبوبي من ذي سلم ورعاة الحي والمراح وهو يعيش في مدينة النجف؟ كل ذلك تقليد للصور الشعرية التي نجدها في محاورات ابن أبي ربيعه، ولكنه تقليد واضح الشخصية متين الأداء. أما الانفعالات التي يثيرها الحب في نفس الشاعر المحب وتنعكس في تعبيره فأننا لا نكاد نلمحها في ثنايا هذه الأبيات على أن السيد الحبوبي - رحمه الله - قد هدم كل رأي يقال فيه عن الحب في موشحة أخرى وصرح بأن هذا الغول كله كان غزلاً مادياً لا ينعكس فيه أي صورة من صور الحب الصحيح:
لا تخل ويك - ومن يسمع يخل - ... أنني بالراح مشفوف الفؤاد
أو بمهضوم الحشا ساهي المقل ... أخجلت قامته السمر الصعاد
أو بربات خدور وكلل ... يتفنن بقرب وبعاد
إن لي من شرفي برداً ضفا ... هو من دون الهوى مرتهني
غير أني رميت نهج الضرفا ... عفة النفس وفسق الألسن
ولا داعي لأن يقول الدكتور إن هذه الأبيات قد زادت (المسألة تعقيداً) بعد الذي أشرنا إليه.
حقاً إننا نجد الحب في أعنف صوره عند الشيخ عباس النجفي لأنه كان شاعراً صادق التعبير، وفي حدود ذلك الحب لم يتجاوزه إلى الذي سلم وسفح ضاح، بل وقف عنده يؤديه أحسن أداء ويصوره أحسن تصوير. وهذه قصيدته الشهيرة خير دليل على حبه الصادق العنيف: عديني وامطلي وعدي عديني ... وديني بالصبابة فهي ديني
ومني قبل بينك بالأماني ... فإن منيتي في أن تبيني
سلي شهب الكواكب عن سهادي ... وعن عد الكواكب فاسأليني
أما وهوى ملكت به فؤادي ... وليس وراء ذلك من يمين
لأنت أعز من نفسي عليها ... ولست أرى لنفسي من قرين
أما لنواكم أمد فيقضي ... إذا لم تقض عندكم ديوني؟
هبوني أن لي ذنباً - ومالي ... سوى كلفي بكم ذنب - هبوني
ألست بكم أكابد كل هول ... وأحمل من هواكم كل هون
إذا ما الليل جن بكيت شجواً ... وطارحت الحمام في الغصون
ولو أبقت لي الزفرات صوتاً ... لأسكت السواجع بالحنين
بنفسي من وفيت لها وخانت ... وأين أخو الوفاء من الخئون؟
وهي قصيدة أكثر مما ذكرناه منها وقد أشار إليها الدكتور بقوله: لا أغالي إذا قلت إني لا أعرف لجميل من معمر شيخ المحبين قصيدة أحفل منها بالعواطف الصادقة وأغنى بالأحاسيس والمشاعر الرقيقة إذا فالدكتور قد استجاب لهذه القصيدة وأنفعل بعواطف الشاعر ورافقه لحظة من الزمن أدرك خلالها أنه محب صادق الحب. فهل استجاب لغزل الحبوبي حتى استجاب لعواطفه ولكنه تحفظ برأيه؟ نقطة الخلاف بيننا وبين الدكتور هي البيئة وحدها، فالدكتور لم يتعرض لها حتى يصل منها إلى نتيجة، لذلك وقع فيما وقع فيه من الاضطراب في الرأي، إذ الواقع أن غزل الحبوبي لم يكن ليصور بيئته أدق التصوير. والواقع أن الحبوبي كان موفقاً إلى حد بعيد في الأداء اللفظي وفي التعابير الرقيقة وإن كانت من غير بيئته، ولكنه لم يكن معبراً عن عواطف وانفعالات تثير القارئ فيستشف منها ضلالاً تختفي وراء هذا التعبير، لأن الشاعر لم يكن محباً في يوم من الأيام، لا لأنه كان عالماً فقيهاً، وإنما لأنه لم يحب وكفى وإلا لصور حبه تصويراً لا يخرج به عن حدود البيئة، لتحدث عن إحساسه العاطفي قبل أن يكثر من الغزل المادي.
على أن الدكتور حين يستعرض الغزل عند السيد حيدر الحلي يقول عنه: ليس هناك أدنى شك في أن السيد حيدر لم يقع في شرك الحب ولم يخضع لسلطان الغرام في يوم من الأيام إذا كان ما نعرفه من أخلاقه وأحواله صحيحاً. وهنا نضع أكثر من علامة استفهام لنسأل الدكتور عن السر في تفاوت الشاعرين وكون الحبوبي يظلم حين يجرد من الحب، وان الحلي لم يقع في شرك الحب؟.
ثم ما هو المانع من أن يجتمع الحب النزيه مع الأخلاق الكريمة إذا كانت الأخلاق مقياس الحب؟
وهذه أبيات للسيد حيدر نرويها كما رواها الدكتور:
سارقتها النظر المريب بمقلة ... لم تقض من لمحاتها آرائها
ولقد دعوت وما دعوت مجيبة ... ودعت بقلبي للهوى فأجابها
أعقيلة الحيين شقت فنولى ... كبدا هوتك فكابدت أواصابها
ما دمية المحراب أنت بل التي ... ننسين نساك الورى محرابها
أن هذه الأبيات خالية من الأحاسيس والعواطف في نظر الدكتور مع أن الشاعر لم يزخرف فيها ولم يتصنع. أما الغزل عند الحبوبي فإن من الظلم أن نجرده من العواطف!!
البقية في العدد القادم
إبراهيم الوائلي