مجلة الرسالة/العدد 859/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 859/البريد الأدبي
وفاة الأستاذ محمود حسن زناتي
قُبض إلى رحمة الله صديقنا المغفور له الأستاذ محمود حسن زناتي في صباح يوم الأربعاء الماضي في (ناي) من قرية القليوبية، وكان أخواله آل عطية قد نقلوه من القاهرة إلى ديارهم حين تبلغت به العلة واحتاج إلى رعاية الأهل وعناية القربى.
أصيب هذا الرجل الفاضل بالفالج النصفي منذ ثلاث سنوات فأنقطع عن الناس وانقطع الناس عنه وكان بطبعه ألوفا ودوداً يحب الخلطة، ويعشق الحديث، ويسأل عن صاحبه إذا غاب، ويزوره إذا حضر، وكان أشق عليه من مرضه أن ينعزل عن العالم في مسكن نابي الفراش موحش الجوانب، يظل فيه النهار، ويبيت به الليل، قلق الو ساد موجوع البدن لا ينعم فيه بحنان الولد ولا عطف القريب، ولا يطرقه عليه إلا جار كريم أو صديق قديم.
درس زناتي في الأزهر، وتتلمذ على أستاذنا العالم الناقد سيد بن علي المرصفي، وعلى شيخنا اللغوي الحجة محمد محمود الشنقيطي.
وكان أثيراً لدى الرجلين، يزورهما في البيت، ويلزمهما في الجامع، ويصحبهما في الطريق ويروي عنهما الأشعار والأخبار والطرف، ثم عين مصححاً في المطبعة الأميرية فقضى بها ردحاً من الزمن حتى انتقل القسم الأدبي منها إلى مطبعة دار الكتب فأنتقل معه. ثم أختاره المرحوم احمد زكي باشا ليكون أميناً للمكتبة الزكية التي وقفها وجعل النظر فيها لوزارة الأوقاف، وكانت يومئذ بقبة السلطان الغوري. فلما فصلت عن وزارة الأوقاف ووصلت بدار الكتب انتقل موظفاً بديوان الوزارة؛ ولكن العمل الجديد لم يرضه ولا بيئته ولا بطبيعته فطلب الإحالة على المعاش فأحيل. ومنذ يومئذ تفرغ للأدب فأخذ يزجي فراغه نظم الشعر واقتناء المخطوطات ونشر الكتب. فمن الكتب التي نقحها وعلق عليها ونشرها، مختارات ابن لشجري والمفضليات للضبي، ثم الجزء الأول من الفصول والغايات للمعري، ثم انتهى أمره إلى هذه العلة الفادحة فكابد من وصبها ما كابد حتى أختار الله له ما عنده. تغمده الله برضوانه ورحمته، وأنزله منزلة الأوفياء من فسيح جنته.
في ذمة الله يا زناتي:
أيها الراحل الكريم سلاما ... آه لو كنت تستطيع الكلاما! سكت الصوت سكتة، ودفنا ... في التراب النشيد والإلهاما
أيها الناطق المحدث ماذا ... أسكت اليوم هذه الأنغاما؟
رحم الله في الندى حديثاً ... كان يطوي الزمان والأياما!
كنت تروية كالزلال نميراً ... وتساقيه كاللهيب ضراما
وتقص الزمان جيلاً فجيلاً ... وتعيد التاريخ عاماً فعاما
كنت في ندوة البيان طرازاً ... يأسر الفاهمين والأفهاما
حطمتك الأيام حتى رأينا ... رجلاً صار في الحياة حطاما
قم ترى الأرض لم تبدل قليلاً ... من رحاها، ولم تغير نظاما
فالليالي - كما عهدت - الليالي ... والندامى كما عرفت - الندامى
من يفته الحمام في هدأة اللي ... ل ففي صحبه سيلقى الحمام. . .
أجل دائر علينا، وكأس ... سوف نسقى منها ونروي الأواما!
أيها الراحل الذي لم يودع ... ما ملكنا في البين إلا السلاما
حمد عبد الغني حسن
أخي الابياري
لك أنفس تحية وعليك أروح سلام.
زعمتَ أني دفعتك إلى حديث شأنك، وما رغبت فيه إلا لأنه حبيب شائق، ولبست أثواب العلماء تواضعاً، ثم بان علمك وفاض فضلك، فإذا بك تسأل سؤال العارف. أومأت إلى مذهب المعلم الأول في أنفسه الغازية والحساسة والناطقة، وأشرت إلى المتكلمين في قولهم بالامتزاج كالماء بالعود، وأخذت عن بعض الفلاسفة حكاياتهم عن النفس المدبرة للأبدان المحركة للجسوم، وحكيت قول الجنيد من الصوفية أنها من مستأثر الله تعالى.
ثم استقصيت قول أصحاب اللغة ووقفت بباب ابن فارس إن النفْس من النفس (اصل واحد يدل على خروج النسيم كيف كان من ريح أو غيرها).
قلت: (وقول القائل) نفس الله كربته (من ذاك لأن خروج النسيم روحاً وراحة).
قلت: هذا عند من يوحدون بين النفْس والروح، ويجعلون النفس من الريح. وقالوا: (ومعنى لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن، أنها تفرج الكرب، وتنشر الغيث، وتذهب الجدب). وهذا وجه آخر للمسألة يؤول تنفيس الكرب بما تسوقه الرياح من خير، لا بما يشعر به المرء من داخل فنقلوا الظاهر إلى الباطن، وهذا أليق.
قلتَ: وقولهم (شيء نفيس) أرادوا أنه ذو نفس، بالتحريك
قلتُ: وهذا معنى طريف لست أدري أوقع القدماء عليه أم لا، وقد وقفت عنده، وتساءلت أكل متنفس نفيس؟ وفي الصحراء أحياء من نبات وحيوان ينفر العربي منها ويحط من شأنها لقلة نفعها أو مظنة ضررها. وما بالك بالثعبان الذي ينفث السم، أهو شيء نفيس؟ ولعلك زاعم أن النفث بالثاء من النفس بالسين، فيهما معان متقاربة كنفثات الشاعر، في العقد من السحر. أو قائل أن النفش بالشين من ذلك أيضاً، من التفريق والانتشار. قال الحكيم الترمذي في كتاب الرياضة (والنفس مسكنها في الرئة، ثم هي منفشة في جميع الحسد).
قلتُ: الثاه والسين والشين متقاربة، والحروف أصل الألفاظ والأصوات محاكاة للطبيعة أو تعبير عن المشاعر الباطنة. ترى أيكون سر المعنى في النون أو الغاء أو السين؟ أهو في حرف واحد أو في حرفين أم في ثلاثة؟ ولقد زعم قوم أن اللغة العربية ثنائية، ولعلهم على صواب. ثنائية أم ثلاثية فحرف السين جوهري في هذه اللفظة، وإننا لنجده في لغات كثيرة، وليس ذلك من قبيل الاتفاق: في اليونانية بسيشي ونحتت منها في اللغات الحديثة البسيكولوجيا أو علم النفس. وفي الإنجليزية سول وفي الفرنسية أسبريت والأصل في هذا الصوت وهو السين ما يسمعه المرء من صوت الهواء إذا كان نسيماً، فإذا أشتد أصبح صريراً والصاد تشديد السين، وقد يكون الصوت حاء ومنه الرياح والريح، ولذلك قالوا فحيح الأفاعي.
قلت: ثم جاءت النفس بالإسكان في شتى معانيها. وأخال أسبقها الروح، وهل هي إلا أنفاس؟
قلت: هذا مذهب في التوحيد بين النفس والروح. والتحقيق غير ذلك. النفس مؤنث إن أريد بها الروح، ومذكر أن أريد بها الشخص، تقول خرجت نفسه أي روحه، وعندي ثلاثة أنفس فأنثت العدد لأنه عكس المعدود.
قال أبو عبد الله الحكيم الترمذي من صوفية القرن الثالث: (الروح نور فيه روح الحياة، والنفس ريح كدرة جنسها أرضية) فرق بين الروح والنفس، وبين الروح والريح، وقول الجنيد الذي ذكرت من أن النفس من مستأثر الله تعالى) يريد الروح لا النفس قال ابن الفارض في تائيته. . .
وإني وآياها لذات ومن وشى ... بها وثنى عنها صفات تبدت
فذا مظهر للروح هاد لأفقها ... شهوداً بدا في صيغة ممنوية
وذا مظهر للنفس حادى لرفقتها ... وجودا غدا في صيفة صورية
قال ابن القهار: والذي يرجح ويغرب هو أن الإنسان له نفسان حيوانية ونفس روحانية. فالنفس الحيوانية لا تفارقه إلا بالموت. والنفس الروحانية التي هي من أمر الله فيما يفهم ويعقل فيتوجه لها الخطاب، وهي التي تفارق الإنسان عند النوم، واليها الإشارة بقوله تعالى: يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها. والدليل على أن الذي من مستأثر الله تعالى هو الروح قوله عز وجل (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) لأن الروح من الغيب لا تدركها العقول وتعجز عن معرفتها الإفهام.
وبعد فقد طال بنا النفس في الاستطراد، وكنت أطمع في جواب عن معنى نفس الأديب، لأن هذه صناعتك، فصدفت عن الجواب، ورددت السؤال بسؤال، وعدلت عن الأدب إلى الحكمة واللغة نفاساً، ولك نُفْسه إلى أمد، فلعلك لا تنفس بالجواب.
احمد فؤاد الاهواني