انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 856/مكانة الدين في التعليم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 856/مكانة الدين في التعليم

مجلة الرسالة - العدد 856
مكانة الدين في التعليم
ملاحظات: بتاريخ: 28 - 11 - 1949



للدكتور السيد محمد يوسف الهندي

بمناسبة ما كتبه أخيراً الأستاذ عباس خضر عن مكانة الدين في التعليم ألفت نظر القراء إلىملاحظات الكاتب الإنجليزي كنث رشمند فإنه يقول في معرض الكلام عن الاتجاهات الجديدة (وهي ضد ذلك النوع من (التقدم) الذي يحاول أمثال سلامة موسى أن ينتحلوه لأنفسهم عفواً بلا كد ولا تعب) في ميدان التعليم بإنجلترا ما يلخص بأن ظروف الحرب العالمية الأخيرة - مثل اختفاء الفوارق بين الطبقات في المخابئ والمساهمة في التضحيات على السواء، والإقبال على الخدمات الاجتماعية، وضرورة الارتجال في كثير من الأمور - أثارت في الشعب شعوراً قويا يجعل التعليم جماعيا بعد ما كان إلىما قبل الحرب فرديا. ومعنى ذلك أن الفرد سيربى تربية تبعثه على الاهتمام بمصالح الشعب كله بعد ما كان يعود قصر ذلك الاهتمام على مصلحة ذاته، وبعبارة أخرى ستبذل من الآن محاولة للإبقاء على عواطف الأفراد ومشاعرهم نحو الجماعة أو الشعب في حالة السلم على ما كانت هي عليه إبان الحرب وأمام خطر الفناء المشترك. ولنضرب لذلك مثلا، فإن الفرق دقيق ويتعلق بالروح أكثر مما يتعلق بالشكل: من المعروف أن كليات العلوم والهندسة في إنجلترا كانت قد تحولت أيام الحرب إلىمصانع للقنابل والعتاد الحربي، كما أن المصانع كانت قد أنشأت فصولا لتدريب فئات مختلفة من الشبان الجدد في الصناعات المختلفة، وكان المنخرطون في هذه الصفوف طلابا ناشئين للعلم؛ وكانوا في الوقت نفسه يقومون مقام العمال المنتجين يدفع لهم بعض الأجر، ولكن الطالب كان يشتغل لا ليكتسب لنفسه ويهيئ سبيل العيش لذاته، بل إنما كان ذلك مساهمة منه في المجهود القومي للدفاع عن الشعب بأسره. وكان يكتنف العمل من أوله إلىآخره جو من الحقيقة والواقعية والحماس وإخلاص النية جعل التعليم أسرع وأنفذ وأنجع بكثير من إلقاء المحاضرات وتجريع الدروس في المعامل التجريبية.

كان من الطبيعي إذا أن يتجه المسئولون عن سياسة التعليم، غير المصابين بمركب النقص الذي يحدو المرء إلىمحاكاة التقدم الزائف، إلىالتساؤل: هل يمكن أن تستمر هذه الروح الجماعية السليمة القوية تسود معاهد التعليم بعد أن انتهت الحرب وزال الخطر؟ و الجواب: نعم بشرط أن يكون هناك مقصد عال ومرمى واضح يوضع موضع الانتصار على هتلر وأعوانه. وهل يتصور أن يتألف هذا المقصد السلمي الدائم إلا من قيم روحية وأخلاقية وإنسانية ذات منفعة عالمية يجد الفرد في تنميتها وتشييدها ما كان يجد في إمداد القوى المحاربة وتعزيز الدفاع ضد العدو؟ ثم هناك مسألة أخرى وهي: هل يمكن أن توجد وتقوى وتزدهر القيم الروحية والأخلاقية مجردة عن نظام ديني؟ مهما يقل القائلون في هذا الصدد فإنه يكفينا في هذا المقام أن المفكرين في إنجلترا رأوا أن لا معدي لهم عن الارتكاز على الدين (لا استغلاله كما نفعل نحن في بعض المناسبات) ولذلك رسموا للدين مكانا محترما ممتازاً في مشروع قانون التعليم لسنة 1944م. ولكن هناك بعض الناس يخيل إليه م أن القيم الإنسانية إذا اقترنت بالإسلام فهي لابد أن تتحول (طائفية) أرى أن الانصراف عن إقناع هؤلاء الناس أولى من الرد عليهم.

وهكذا مر التعليم بأربعة أدوار مختلفة؛ فإنه كان في الأول يقتصر على نقل بعض الملومات إلىذهن الطالب. ثم اتسع نطاقه حتى شمل الجسم السليم مع العقل السليم؛ وبعد ذلك أشاروا بإبراز شخصية الطالب وتنمية قواه الكامنة فحسب، حتى انتهى بهم المطاف في الوقت الحاضر إلىإدماج تلك الشخصية في المجتمع وضرورة توجيه عواطف وتركيز اهتمامه في المصالح الجماعية.

وللكاتب الإنجليزي المذكور استطرادات طريفة، منها أن الولاء للقدور السامية والقيم الأخلاقية من أقوى الضمانات للإقلال من أوقات الفراغ والقضاء على الكسل والبطالة والحد من المرح والهزل؛ وفوق ذلك كله هو الدواء الوحيد لتجنيب الإنسانية ويلات تقدم العلوم والحضارة الآلية التي تؤدي إلىفناء المواساة وعدم المروءة. ولعل من أهم ما استطرد إليهالكاتب مصارحته القول بأن الديمقراطية الحقة لا يمكن أن توجد إلا بالاستناد إلىالدين؛ وذلك لأن المساواة بين الناس شيء لاوجود له. في العالم الخارجي المحسوس ولا يقرَّهُ العقل. أو ليست الحقيقة البسيطة الملموسة التي تؤكد نفسها علينا كل لحظة هي استحالة وجود رجلين متساويين في الخلق والمواهب والقدرة؟ أو لا ترون أن الفيلسوف هكسلي لم يكن عنده رادع من أن يهزأ علنا من تصور وحقوق الإنسان الطبيعية؟ فهل نقنع بوجوب استبدال أرستقراطية العقل والدهاء بأرستقراطية الحسب والمال؟ حقا لا ينشأ تصور المساواة بين الناس إلا بالنظر إلىعلاقتهم جميعا مع خالق الزمان والمكان ومصرف الكون والفساد.

السيد محمد يوسف