مجلة الرسالة/العدد 85/من تراثنا العلمي
مجلة الرسالة/العدد 85/من تراثنا العلمي
تَعْبير الرُّؤيا لأبنِ قُتَيْبَة
وصف وتلخيص لنسخة ثمينة من كتاب مفقود
للأستاذ علي الطنطاوي
تتمة
والعرب تضع النفس موضع الروح، والروح موضع النفس، فيقولون: خرجت نفسه وفاضت، وخرجت روحه منه، إما لأنهما شيء واحد، أو لأنهما شيئان متصلان لا يقوم أحدهما إلا بالآخر، وكذلك يسمون الجسد نفساً، لأنه محل النفس، قال ذو الرمة حين احتُضر:
يا قابض الروح من نفسي إذا احتُضِرت ... وغافر الذنب زحزحني عن النار
ويسمون الدم جسداً لأن الجسد محله. قال النابغة الذبياني:
فلا لَعَمْرُ الذي قد زُرته حَججاً ... وما أريق على الأنْصاب من جسدِ
والمهجة عندهم الدم. قال الأصمعي: سمعت أعرابية الخ. . .
وقد أعلمنا رسول الله ﷺ أن أرواح الشهداء في خواصل طير خضر الخ. . . وأرواح أهل النار الخ. . .
(قال أبو محمد): ولما كانت الرؤيا على ما أعلمتك من اختلاف مذاهبها، وانصرافها عن أصولها، بالزيادة الداخلة، والكلمة المعترضة، وانتقالها عن سبيل الخير إلى سبيل الشر باختلاف الهيئات واختلاف الأزمان والأوقات، وأن تأويلها قد يكون مرة من لفظ الاسم ومرة من معناه، ومرة من ضده، ومرة من كتاب الله، ومرة من الحديث، ومرة من البيت السائر والمثل المشهور، احتجت إلى أن أذكر قبل ذكر الأصول أمثلة في التأويل، لأرشدك بها إلى السبيل
فأما التأويل بالأسماء فتحمله على ظاهر اللفظ الخ. قال: وأخبرنا محمد بن عبد العزيز عن. . . عن. . . . . عن. . . . عن أنس أن النبي ﷺ قال: رأيت الليلة فيما يرى النائم كأني في دار عقبة بن رافع وأتيت برطب من رطب ابن طاب (نو المدينة)، فأولته أن الرفعة لنا في الدنيا، العاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب
أخبرنا أبو حاتم الخ. . . (قال أبو محمد): وربما اعتبر من الاسم إذا كثرت حروفه البعض الخ. قال الشاعر:
أهدت اليه سفر جلاً فتطيرا ... منه وظل نهاره متفكراً
خاف الفراق لأن أول ذكره ... سفر وحق له بأن يتطيرا
وكذلك السوسن الخ. قال الشاعر:
سوسنة أعطيتنيها فما ... كنتِ باعطائها محسنة
أولها سوء فان جئت بالآ ... خر منها فهو سوء سنه
وأما التأويل بالقرآن فكالبيض يعبر بالنساء لقول الله عز وجل (كأنهن بيض مكنون) الخ. . . وكالحبل يعبر بالعقد لقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً) ولقوله تعالى: (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس) أي بأمان وعهد. والعرب تسمى العهد حبلاً، قال الشاعر:
وإذا تجوزها حبال قبيلة ... أخذت من الأخرى اليك خيالها
وكاللباس يعبر بالنساء لقوله جل وعز: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن). قال النابغة الجعدي، وذكر امرأة الخ. . .
وأما التأويل بالحديث فالغراب هو الفاسق لأن النبي ﷺ سماه فاسقاً، والفأرة الخ. . .
وأما التأويل بالمثل السائر واللفظ المبذول كقولهم في الصائغ: إنه رجل كذوب لما جرى على ألسنة الناس من قولهم: فلان يصوغ الأحاديث أكان يضعها الخ. . . وكقولهم في الماسح: إنه ذو أسفار، لقولهم لمن كثرت أسفاره هو يمسح الأرض. قال الشاعر في هذا المعنى:
قبح الله آل برمك إني ... صرت من أجلهم أخا أسفار
إن يكن ذو القرين قد مسح الأر ... ض فاني مول بالغبار
ويرى أهل النظر من أصحاب اللغة أن الدجال إنما سمي مسيحاً لأنه يمسح الأرض إذا خرج أي يسير فيها، ولا يستقر بمكان، وأن عيسى عليه السلام إنما سمي بذلك لأنه كان سائحاً في البلاد لا يقيم بشيء منها ولا يوطنه، ومن ذهب إلى هذا جعله فعيلاً في معنى فاعل مثل قدير ورحيم؛ ويرى قوم أن الدجال سمي مسيحاً لأنه ممسوح إحدى العينن. وهذا وإن كان وجهاً فالاشتقاق الأول أعجب، لأن تسميتهم إياه الدجال تشهد له، والدجالة هي الرفقة في السفر والقافلة، قال خداش بن زهير:
فان يك ركب الحضرمي غرامة ... فن كِلا ركبيكُم أنا غارم
سأغرم من قد نالت الحجر منهم ... ودجالة الشام التي نال حاتم
يعني قافلة أصابها حاتم الخ. .
وكقولهم فيمن غسل يديه بأشنان، إنه اليأس من الشيء يطلبه، لقول الناس لمن يئسوا منه: قد غسلت يدي منك بأشنان، قال الشاعر:
فاغسل يديك باشنان وأنقهما=غسل الجنابة من معروف عثمان
وكقولهم في الكبش الخ. . .
وأما التأويل بالضد والمقلوب فكقولهم في البكاء إنه فرح ما لم يكن معه رنة ولا صوت، وفي الفرح والضحك إنه حزن الخ. . .
وأما تعبير الرؤيا بالزيادة والنقص فكقولهم الخ. . .
وقد تتغير الرؤيا عن أصلها باختلاف هيئات الناس وصناعاتهم واقدارهم وأديانهم، فتكون لواحد رحمة، وعلى الآخر عذاباً الخ. . حدثنا محمد الخ. . . قال: آخي رسول الله ﷺ بين سلمان وأبي بكر، فرأى سلمان لأبي بكر رؤيا فجانبه وأعرض عنه، فقال له أبو بكر: أي أخي! مالك قد أعرضت عني وجانبتني؟ قال: رأيت كأن يدي جمعتا إلى عنقك، فقال أبو بكر: الله أكبر! جمعت يداي عن الشر إلى يوم القيامة
حدثني محمد عن. . . عن. . . . عن عطاء، قال: كان محمد ابن سيرين يقول في الرجل يرى له أنه يخطب على منبر: إن كان ممن ينبغي له السلطان اصاب سلطاناً. وإلا فانه يصلب. شبه الجذع بالمنبر. وقال الرشيد ليزيد: ما أثر الخلفاء في ربيعة! قال: نعم، ولكن منابرهم الجذوع الخ. . .
ومن عجب الرؤيا أن الرجل يكون مفحماً لا يقدر على أن يقول بيت شعر، أو بكيا يتعذر عليه القليل منه إلا في المدة الطويلة، مع إعمال الفكر، وإنعام الروية، فينشد في المنام الشعر الجيد لم يسمع به قط فيحفظه أو يحفظ منه البيت أو البيتين، ويكون عيباً أو أعجمياً، فيتكلم بالكلمة من الحكمة البليغة ويوعظ الحسنة، ويخاطب بالكلام البليغ الوجيز الذي لا يستطيع أن يتكلف مثله في اليقظة بعرق الجبين، وهذا من أدل الدلائل على اللطيف الخبير
روي الرازي الخ. . وروي واصل الخ. . وأما الشعر فان أبا اليقظان قال: تزوج رجل امرأة، فعاهد كل واحد منهما صاحبه ألا يتزوج الأخر بعده، ومات الرجل، فلما انقضت عدة المرأة اتاها النساء فلم يزلن بها حتى تزوجت، فلما كانت ليلة هدائها أغفت بعد ما هُيئت فاذا هي بالرجل آخذا بعضادتي الباب يقول: ما أسرع ما نسيت العهد يا رباب! ثم قال:
حييت ساكن هذا البيت كلهم ... إلا الرباب فاني لا أحييها
أمست عروساً وأمسى منزلي جدثا ... إن القبور تواري من ثوى فيها
فانتبهت فزعة، فقالت: والله لا يجمع رأسي ورأسه بيت ابدا، ثم تخالعا. وروي ابن الكلبي عن جبلة بن مالك الغساني قال: سمع رجل من الحي قائلاً يقول في المنام على سور دمشق
ألا يا لقومي للسفاهة والوهن ... وللعاجز الموهون والرأي ذي الافن
ولابن سعيد بينما هو قائم ... على قدميه خر للوجه والبطن
رأى الحصن منجاة من الموت فالتجأ ... اليه فزارته المنية في الحصن
فأتي عبد الملك بن مروان فأخبره، فقال: ويحك، هل سمعها منك أحد؟ قال: لا. قال: فضعها تحت قدميك
ثم قال، عبد الملك عمرو بن سعيد، عن عقيل. . . عن. . أن رجلاً الخ. . .
ورأيت أيضاً في المنام وأنا حديث السن كتباً فيها حكم كثيرة بألفاظ غريبة - كنت أحفظ منها شيئاً ثم أنسيت ذلك إلا حرفا وهو: ولفت اليه صلة الهواء، وما كنت أعرف في ذلك الوقت ما الصلة، ثم عرفتها بعد، والصلة اليبس
ومن عجائب الرؤيا أن الرجل يرى الشيء لنفسه أو يُرى له فيكون ذلك لشقيقه أو ابنه أو شبيهه أو سمية الخ. . . .
(قال أبو محمد) وحكي أبو اليقظان الخ. . . (قال أبو محمد) وما أشبه هذا الحديث بحديث رجل رأى في المنام - أيام الطاعون أن جنائز تخرج من داره على عدد من فيها، فطعن أهل الدار جميعاً غيره، فبقي ينتظر الموت ولا يشك في أنه لا حق بهم، فدخل الدار لص، فطعن فيها فمات في الدار، فأخرجت جنازته منها وسلم الرجل
(حدثنا أبو محمد) قال حدثني بعض الكتاب الخ. . .
وإن رأيت الرؤيا كلها مختلطة لا تلتئم على الأصول علمت أنها من الأضغاث فارجيتها، وإن اشتبه عليك الأمر، سألت الرجل عن ضميره في سفره إن كان رأى السفر، وفي صلاته إن كان رأى الصلاة، وفي صيده إن كان رأى الصيد، ثم قضيت بالضمير، وإن لم يكن هناك ضمير أخذت بالأسماء على ما بينت لك. وقد تختلف طبائع الناس في الرؤيا، ويجرون على عادة فيها، يعرفونها من أنفيهم، فيكون ذلك أقوى من الأصل، فتسأل عن طبع الرجل، وما جرت عليه عادته الخ. . . وإن كان الأصل طائراً الخ، وإن كان غراباً الخ. . وقيل لمن أبطأ عليك أو ذهب فلم يعد اليك: غراب نوح، وإن كان عقعقاً كان رجلاُ لا عهد له ولا حفاظ ولا دين قال الشاعر:
إلا إنما حلمتم الأمر عقعقا
وإن كان عقاباً الخ. . .
هذه فقر من المقدمة القيمة التي قدم بها الكتاب وهي تقع في أكثر من أربعين صفحة، وتأتي من بعدها أبواب الكتاب وهي ستة وأربعون باباً، فيها من نوادر الشعر وطرائف اللغة ودرر الأدب مثل ما في المقدمة، ولولا أن هذا الفصل قد طال، لاخترنا منها فقراً رويناها في (الرسالة)، والكتاب على الجملة من نقاش تراثنا العلمي، ومكانه من الخزانة العربية لا يزال خالياً لم يشغله كتاب. وإنا لنأمل له من رجال الأدب ومن الناشرين الاهتمام اللائق به
(دمشق)
علي الطنطاوي