انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 85/محاورات افلاطون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 85/محاورات افلاطون

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 02 - 1935


13 - محاورات افلاطون

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

فقال سقراط - سأعمد الآن إلى أحد زوجي الأضداد اللذين ذكرتهما لك فأحلله، وأحلل كذلك فعليه الأوسطين، وعليك أن تحلل لي الآخر. فحالة النوم تضاد حالة اليقظة، ومن النوم تتولد اليقظة، ومن اليقظة يتولد النوم، وعملية التولد هي في إحدى الحالتين ادراك النعاس، وهي الاستيقاظ في الأخرى. أفأنت متفق معي على هذا؟

- إني جد متفق

إذن فهب أنك أخذن بهذه الطريقة نفسها تحلل لي الحياة والموت. أليس الموت يضاد الحياة؟

- نعم

- وهما متولدان: أحدهما من الآخر؟

- نعم

- ما الذي تولد من الحياة؟

- إنه الموت

- وما الذي تولد من الموت؟

- لا يسعني أن أقول في الجواب إلا أنها الحياة

- إذن يا سيبيس فالحي من الأشياء والأشخاص متولد من الميت؟

- ونتيجة ذلك إذن هي أن أرواحنا كائنة في العالم الأسفل؟

- هذا حق

- وأحد الفعلين أو التولدين ملحوظين بالعين - فلا شك أن عملية الموت ظاهرة؟

فقال - لا ريب

- أفلا يجوز أن يستنتج التولد الآخر، على أنه متمم للطبيعة التي لا يفترض بأنها تسي على ساق واحدة فحسب؟ فان كان الأمر كذلك، فلابد أيضاً ان يضاف إلى الطبيعة عملية تولد من الموت مقابل التولد من الحياة

فأجاب - يقيناً

- وماذا تكون تلك العملية؟

- هي عودة الحياة

- وعودة الحياة، أن صح وجودها، هي ولادة الميت في عالم الأحياء؟

- هذا جد صحيح

- إذن فهاك سبيلاً جديدة تؤدي بنا إلى النتيجة بأن الحي يخرج من الميت كما يخرج الميت من الحي سواء بسواء، فان صح هذا فلابد أن تكون أرواح الموتى مستقرة في مكان ما، ستعود منه مرة أخرى، وقد أقمنا على ذلك فيما أظن دليلاً مقنعاً

قال - نعم يا سقراط، فيظهر أن هذا كله يتبع بالضرورة ما سلمنا به من قبل

فقال - ولم يكن ذلك الذي سلمنا به يا سيبيس معوجاً، وتستطيع أن تتبين ذلك، فيما أظن على هذا النحو: لو كان التولد يسير في خط مستقيم فقط، فلم تكن في الطبيعة دورة أو تعويض، فلا تبادل بين الأشياء أخذاً ورداً، لاتخذت الأشياء - كما تعلم - في نهاية الأمر صورة بعينها، ولتحولت إلى حالة بعينها، ولما تولد منها بعد ذلك شيء

فقال - ماذا تعني بهذا؟

فأجاب - اعني شيئاً بسيطاً جداً سأوضحه بحالة النوم. فأنت تعلم أنه لو لم يكن ثمت توازن بين النوم واليقظة لأضحت قصة أنديميون النائم بلا معنى؛ فقد كان النعاس سيدرك كذلك كل شيء آخر، فلا يعود أنديميون موضعاً لتفكير أحد؛ أو لو كانت المادة ينتابها تكوين بغير انقسام، إذن لعاد هيولي انكسجوراس مرة ثانية. وهكذا، أي عزيزي سيبيس، لو كان كل شيء تناوله الحياة صائراً إلى الموت، ثم لا يعود إلى الحياة ثانياً لانتهى تناوله الحياة صائراً إلى الموت، فلا يبقى ثمت شيء حي - وإلا فكيف يمكن ذلك أن يكون؟ إذا لو كانت الأحياءصادرة من شيء غير الأموات، وكان الأحياء يدركهم الموت، أليس حتما أن يبتلع الموت آخر الأمر كل شيء؟

فقال سيبيس - ليس عن ذلك منصرف يا سقراط، وإني لأحسب أن ما تقوله أنت حق خالص

فقال - نعم يا سيبيس، إني كذلك أحسبه حقاً خالصاً، ولسنا بذلك سابحين في خيال فارغ، ولكني ثابت الايمان بحقيقة العودة إلى الحياة، وبأن الأحياء يخرجون من الموتى، وبأن أرواح الموتى ما برحت في الوجود، وبأن الأرواح الخيرة أوفى من الأرواح الشريرة جزاء.

فأضاف سيبيس - كذلك لو صح مذهبك العزيز يا سقراط، بأن المعرفة ليست إلا تذكراُ، لاقتضى ذلك بالضرورة زمناً سالفاً تعلمنا فيه ما نحن الآن ذاكره. وقد كان هذا التذكر يستحيل لو لم تكن أرواحنا قبل حلولها في الصورة البشرية، كائنة في مكان ما، وإذن فهذه حجة أخرى تؤيد خلود الروح

فاعترضه سمياس قائلاً: ولكن حدثني يا سيبيس، ما البراهين التي تساق لمذهب التذكر هذا؟ فلست جازم اليقين بأنها الآن تحضرني

قال سيبيس - منها برهان ساطع تقيمه الاسئلة، فاذا أنت ألقيت على شخص سؤالاً بطريقة صحيحة، أجابك من تلقاء نفسه جواباً صحيحاً. فكيف استطاع أن يفعل ذلك، ما لم تكن لديه من قبل معرفة ومنطق مصيب؟ وأكثر ما يكون ذلك وضوحاً، حينما يعرض عليه شكل هندسي، أو أي شيء من هذا القبيل

قال سقراط - إن كنت لا تزال شاكاُ يا سيمياس ساءلتك، افلا يجوز أن توافقني إذا ما نظرت إلى الموضوع على نحو آخر؟ أعني اذا كنت لا تزال متردداً في التسليم بأن المعرفة عبارة عن تذكر؟

فقال سمياس - لست شاكاً، ولكني أردت أن تعاد إلى ذاكرتي نظرية التذكر هذه، ولقد بدأت أذكرها وأقتنع بها مما قاله سيبيس، غير أنني مازلت أتمنى لو أدليتم بما لديكم فوق ما أعلم

فأجاب - هذا ما سوف ألي به، ولعلنا، إن لم أكن مخطئاً، متفقون على أن ما يتذكره الإنسان لابد أن يكون قد علمه في زمن سالف

- جد صحيح

- فما طبيعة هذا التذكر؟ إنما أريد بهذا السؤال أن أتساءل: ألا يحق لنا القول بأنه إذا لم يقتصر علم إنسان على ما قد رآه أو سمعه أو سلك إلى إدراكه أية سبيل أخرى، بل عرف شيئاً آخر معرفة تباين تلك، أفليس هو بذلك إنما يتذكر شيئاً يختلج في عقله؟ ألسنا على ذك متفقين؟

- ماذا تعني؟

- أعني ما قد اوضحه بهذا المثال الآتي: لست معرفتك القيثارة كمعرفتك الإنسان سواء بسواء؟

- هذا صحيح

- ولكن ما شعور المحبين إذا ما رأوا قيثارة أو لباساً أو أي شيء آخر مما كان المحبوب يستخدمه عادة؟ أليسوا من رؤية القيثارة يكونون في عين العقل صورة للفتي صاحب القيثارة؟ وهذا تذكر، وكل من يرى سمياس قد يتذكر بنفس الطريقة سيبيس، وهناك من هذا الضرب أشياء لا يحدها الحصر

فاجاب سمياس - نعم إنها موجودة حقاً ولا حصر لعددها

فال - وهذا الشيء وما اليه هو التذكر، وهو في الأعم الأغلب عملية لكشف ما قد طواه النسيان بفعل الزمن والأهمال

فقال - هذا صحيح

- ثم ألا يجوز كذلك أن تتذكر أنساناً من رؤية قيثارة أو صورة لجواد؟ أو قد تبعثك صورة سمياس على تذكر سيبيس؟

- هذا حق

(يتبع)

زكي نجيب محمود