مجلة الرسالة/العدد 827/حكيم فيلسوف يتكلم. . .
مجلة الرسالة/العدد 827/حكيم فيلسوف يتكلم. . .
للأستاذ راجي الراعي
مشى كعادته كل صباح إلى ساحة المدينة بخطوات الفيلسوف الحكيم، وأقبل عليه الناس فحمد الله وشكر، ثم حدجهم بنظراته القوية الصافية العميقة، فأنشق ألف حجاب، وانقلب الظل شعاعاً وتجلت الفلسفة، وعبق الجو بالروحانية، وفاح عطر الحكمة. . .
وسأله واحد من الجمع:
حدثنا أيها السيد فقال:
- جميل أن تضحوا بنفوسكم في سبيل المثل العليا، وأجمل منه أن تبقوا أحياء لتكملوا أداء الرسالة الروحية. . .
جميل أن تحترقوا ليستضاء بكم ويهتدي بنوركم، وأجمل منه أن لا تضرموا فيكم الأحطاب لتنقذوا من تأكله النار، وتقطعوا عنه ألسنة اللهب.
لا تغرقوا أنفسكم في بحر الوجود ليتسنى لكم أن تنقذوا الغرقى. . وكلما أنقذتم غريقاً وأقفلتم في وجهه باب الموت فتح لكم باب في السماء. . .
أبقوا المناجل في أيديكم لتحصدوا حصادكم. . . إن الحياة ليست بمعطف تلقونه بسرعة وخفة عن أكتافكم، ولا هي قطعة النقد ترمون بها في الخزانة. . إن للحياة طعما ووزناً. . أن لها حوضاً من مائها لا يجوز لكم أن تفرغوه في لحظة لتسقوا الأرض مهما أشتد جفافها وطال. . . إن مياهكم تنبع من صدر الله. . الحياة أمانة في أيديكم فمن جازف بها خان الأمانة وإن ارتدت خيانته ثوب الصدق الإخلاص. . .
وسأله آخر: ما هي كلمتك في الكبرياء أيها الحكيم فقال
- لا صغير ولا كبير في الكون. . . كل شعاع من الشمس شمس مقتضبة وكل قطرة من البحر بحر بليغ، وكل حبة من الرمال صحراء مكبوتة، وكل نسمة في الأثير أثير ينطوي على نفسه. الجزء في الكل والكل في الجزء، والكل واحد. . . إن في الذرة الصغيرة ما في الأفق الذي لا حد له، هما صفحتان في كتاب وعينان في وجه. . .
ليس لأحد أن يشمخ على الآخر:
الحجر يقول للجدار: لولاي لم تكن، والجدار يقول للحجر لولاي لم تلق وسادة تلقى عليها رأسك. . . الخمرة تقول للكأس: لولاي لم تنعم بك شفة، والكأس تقول لها: لولاي لذهبت هدراً. . .
لا كبير ولا صغير في الكون. . .
إن الرسالة واحدة وإن تغير الغلاف، واصل الحياة واحد وهدفها واحد فلا تشمخوا بأنوفكم على الخلق. . . المهود واللحود تجمعكم في صعيد واحد. .
كلما شمختم على الآخرين وتخيلتم أنفسكم عظاماً ضربتم القبور بهيا كل عظامها. . .
وارتفع في الساحة صوت ملائكي يسأل عن الصلاة فأطرق الفيلسوف ثم قال:
- الصلاة هدير بحر الأيمان، والمرساة التي تقف بها سفنكم في مرفأ الخالق. . . الصلاة هي وهج الأيمان الذي يشتعل فيكم فكلما ألقيتم الأحطاب في ناركم صليتم. . هي الحنين إلى الأصل الذي جئتم منه، والى الوطن الأكبر الذي تهتم عنه. . إنكم تصلون لتطلبوا إلى الخالق إكمال ما نقص فيكم وأيقاظ ما كمن في أعماقكم ولتبلغوه شوقكم إلى الآخرة، إلى اليوم الذي تنطلقون فيه من أسر هذه الكرة التي تستبد بكم وتدميكم بقيودها، ولتفتحوا له جراحاتكم فيرى فيها مواضع الألم وطوابع المجرمين وحنق الطغاة وقسوة الزمن. . .
الصلاة لسان الظمأ الناري في النفس يستجدي الماء من ينابيع النعيم. . . وأنتم كلما حننتم إلى جريح أقمتم لله هيكلا، وكلما حطمتم سيفاً من سيوف الغدر والخيانة والظلم برق لكم سيف في السماء، وكلما قابلتم الإثم والرذيلة بجباه مقطبة بسم لكم السيد. . .
الصلاة أن تستعجلوا الرحيل من هذه الفانية. . .
وإذا صليتم فلا تنسوا هذه الكلمات:
اجعلني يا رب صالحاً للمثول بين يديك. . . اعطني جناحين لأطير إليك. . . أنا تائه فأهدني. . خذني بيديك وتنقل بي من شمس إلى شمس ومن نجمة إلى نجمة ومن مجرة إلى مجرة حتى أقع متهالكا على عتبة بيتك وأستريح. . . أخل ساحة نفسي من كل شيء عداك. . . اعطني القوة لا لأصرع الجبار، ولكن لأجعل من الصعلوك جباراً يطاول برأسه النجوم حتى يشرف على دارك. قيدني بحبك. . أنت في ضميري وطفولتي فخذني بيدك ولا تدعني أنا الطفل الكبير أقع في الهاوية. . .
وسأله أحدهم عن الصبر فقال: أنتم بين إرادتين: إرادة الإقدام وإرادة الصبر وأعظمها الثانية.
جميلة هي الموجة المقتحمة الهائجة وأجمل منها الصخرة التي تردها. . .
جميل السيف وأجمل منه الدرع التي تتقيه. . .
جميل البركان وأجمل منه الجبل الذي يعرف أنه الجبل الوقور الرصين فيبقى حممه في أحشائه لا يزعج بها الفضاء ولا يقلق العابرين. . .
وتقدم منه شاعر وسأله عن الطبيعة وكتابها فقال:
- إن الطبيعة رسوماً وأصواتاً فهل أنتم تنظرون وتسمعون؟ الشمس تقول: أنا صورة من خيال الله إطارها الأفق فيسمعها البحر فيقول: أنا خلجة في الصورة، وتسمعها الرياح والأعاصير فتتنادى وتصرخ بصوت عظيم: نحن من أبواق الله ننذركم بشر المصير إذا كنتم لا تؤمنون. . والجبل يتكلم ويقول: أنا الجلال والوقار لا أبرح مكاني ولكن الإيمان، الإيمان وحده يذهب بي حيث يشاء من مكان إلى آخر، أنا في مهب الإيمان على الرغم من صخوري وضخامتها وعلوها، ريشة طائرة. . . ويسمع الينبوع كلمة الجبل فيقول أنا قطرة من خمرة الله. . . وتهب الخمرة من الكأس لتقول: أنا من دمه. . . وكل نجمة من هذه النجوم تقول لكم: إن بيني وبين رفيقتي عالماً مهجورا وفراغاً مخيفاً، كذلك أنتم في مناطق نفوسكم التي لا تعد. . . إن بينها أبعاداً شاسعة وقد تموتون والمنطقة الواحدة تجهل الأخرى.
وللقمر كلمته وهي أن لا نخدع به فهو يستعير نوره من الشمس وفي شعاعه المطمئن اضطراب العاجز. . . والزهرة تتنهد وتتأوه قائلة: مادمتم تقطفونني بأيديكم السمجة الغليظة، فلستم من المؤمنين بالفن والأرج والجمال، وإذا ذبلت وتحولت عنكم فذاك لأنكم لا تفهمونني. . .
والمطر رحمة وكرم والبرق إلهام، والرعد غرور وثرثرة، والصاعقة جنون، والسنابل أصابع كف الحياة وهي تصفع الموت، والبركان عقل باطن ثار وانفجر، وندى الفجر دموع، والظهيرة جحيم، والأصيل هدنة والليل وشاح من أوشحة الموت، والغابة أسرار والدرر في الأعماق مواهب، والضباب حيرة والنار ألسنة تخطب على منبر الفناء، والنور نار وادعه ساكنة وتعالت الأصوات صائحة:
- حدثنا عن الخالق والخليقة فنظر إلى السماء ثم قال:
- الخليقة قصيدة كانت مطوية تحت جناح الله فأطلقها شعراً منثوراً في ساعة طاب له فيها أن ينثر الشعر. . . هي قصيدة الحب والجمال وشاعرها الله. . . لقد كنتم طيوراً تغرد في حديقة الخالق، والشوق إلى تلك الحديقة التي تنقلتم على أفنانها قبل أن عرفتكم هذه الشمس هو اسمي وأبرز ما في نفوسكم التي تحن أجنحتها حنيناً لا يغذيه ولا يبلغه هدفه إلا الحب الروحاني ينير الطريق ويحرق الحجب الكثيفة. . . إن وجه الله الحبيب لا يُرى على ضوء العقل والعلم وإنما يُرى على ضوء النار التي يضطرم بها الوجدان. . . إن الله يدرك بالوجد وبالعشق الإلهي الذي يقطع إليه وحده المراحل والأدوية فإذا أطفأتم ناره في صدوركم انقلبتم رماداً. . .
واقترب منه ملاك وسأله عن الملك والملاكين فقال:
إن اليد التي تلتمس الأشياء ويندلع بين أصابعها لهيب الحلو والشوق والحنين هي اليد الحمراء الجميلة، فإذا ظفرت بها تروم وقبضت عليه أثقلها الرماد والتراب وتوارى جمالها. . . إلا ترون الينبوع كيف يفقد روحه إذا بلغ البحر، والصحراء كيف تهدم كيانها إذا اهتدت إلى الينبوع فجربوا ما استطعتم أن تطيقوا المسافة بين ينابيعكم وبحورها وبين صحاريكم وينابيعها. وبعد فما هو هذا الذي تملكون؟ هذه الأجسام، أجسامكم، أتحسبون أنها لكم؟ إنها للتراب الذي تخلى عنها إلى حين ثم يستردها ويقفل العين التي كانت النفس تطل منها على الوجود. . وهذه الأموال التي تحشدونها وخزائنها الحديدية، هي من التراب أيضاً، من مناجمه التي تفتحون لحودها ثم تعودون إليها وليس في أيديكم غير أصابعها التي تتحول إلى سنابل في الحقول. . . وهذه البيوت التي تقيمون بين جدرانها ليست لكم وكيف تملكونها وهي باقية يوم ترحلون. . . إن الحجر أشد منكم شكيمة وقوة وصبراً في ساحة البقاء. . . ما الذي تملكون؟؟ أتحسبون أنكم تملكون الفكرة والعاطفة، إن أفكاركم وعواطفكم حلقات كسلاسل قديمة لا يد لكم فيها ولا تعرفون من أمرها إلا أنها توثقكم. . . إن قلوبكم ليست لكم فهي تقيم فيكم على الرغم منها وتلح بنبضاتها المتعاقبة للخروج من أقفاصها، أصابها (كوبيد) ببعض سهامه الطائشة، فوقفت في صدوركم وظلت هناك جريحة تئن وتستغيث طارقة باب النجدة للانعتاق من الأسر. . .
والمرأة التي تتخذونها لكم رفيقة ليست لكم أيضاً فستظل إلى الأبد لغزاً لا يدرك سره، وكيف يملك المجهول؟ وهؤلاء الأطفال الذين تلدونهم قطرات دم كثيفة من سهام (كوبيد) تجمدت وتجسدت وأطلقها (كوبيد) لتلعب في فنائكم. . . وهذه الحدائق ليست حدائقكم ففي أشجارها الألوف من الخلق الذي تقمصوا وتجلوا أزهاراً وثماراً. . . لا، إنكم لا تملكون شيئاً أنتم وملوككم. . الملك لله. . . هو وحده المالك. . .
وسألوه عن الصمت والكلام فقال:
الصمت هو الأصل، وقد خلق الإنسان ليفكر ويتأمل ويحلم. . . إن ما يحيط به من الأسرار والأعاجيب في السماء والأرض يوقفهم وقف المعجب الثمل المشدود المأخوذ بالعظائم والروائع لا تترك مجالا ً لكلمة يقولها. . .
إن الحيرة والإعجاب والوجد والذهول والانجذاب تخرس الألسنة وساحة الحياة أضيق من أن تسع قصور الخيال والتأمل والأحلام فأين فيها مكان الكلام؟ ألا ترونه الدخيل يحشر نفسه في صفوف الحياة حشراً ويتطفل على مائدتها؟ الصمت وشاح تتشح به النجوى والتقوى ويتورع به التصوف والإيمان وعليه يقوم بيت الله. . . الصمت يجمع نفوسكم والكلام يفرقها. . . إن الآفاق كلها بنيراتها وشموسها ومجراتها صامتة فكيف تتكلمون؟؟
ودنا منه فيلسوف وسأله عن الكلمات وقوتها وطنينها فقال:
إن الصور والرسوم التي تعرضها لكم الحياة لا تبدو لكم على حقيقتها فأنتم تلبسونها بكلماتكم الأثواب التي يحلو لكم أن تنسجونها. . . إن الكلمات التي تستقونها من معاجمكم هي التي تسيركم، الكلمات الضخمة القوية الطنانة التي تجعل من النسيم عاطفة ومن الشرارة ناراً تحرق الغابة، ومن الشيء التافه شيئاً يتضخم ويعلوا حتى يملأ الجو والساحة. .
قد يكون ما ترونه مظلماً فتطلقون عليه كلمة تشع فتصبح في نظركم منيراً. . . إن كلماتكم منافخ تنفخ الروح في الأموات ومطافئ تطفئ الحياة في الأحياء. . . كلها من نسيجكم وإبركم تضيق وتتسع بإرادتكم وأوهامكم ومعاجمكم. . . إن الفقر لا يحمل الجراحات التي تتخذونها ولكن كلماتكم فيه حملته المدى والطعنات القاتلة، والغنى ليس الطريق إلى السعادة، ولكن ما نسجتموه حوله أجلسه على عرش العروش يوزع اللذات ويفتح أبواب النعيم.
إنكم تكثرون من الكلمات فيضيع عليكم الكثير من أهدافكم وانتم في ذلك كالشجرة التي تكثر أوراقها فتقل ثمارها. التفخيم والتضخيم ووراءهما التشويش والتعقيد والحيرة والإلهام والإبهام من صنع أيديكم كأنه يلذ لكم أن تكثروا النجوم في آفاقكم لتضيعوا في مسالكها. . . إنكم تلهون بطنين الألفاظ عن دقة المعاني وحقيقة الحياة وجوهرها وكأن كل كلمة من كلماتكم حجر تلقون به في البحيرة الهادئة الحكيمة الوداعة فتقلق وتضطرب وتفقد الكثير من سكينتها وجمالها. . .
إن الله لم يلفظ بغير كلمتين (ليكن النور) يوم رفع عنا الستار في حين أنه رب الأبجدية والمعاجم. . إن الخالق يوم خلقنا كان بليغاً. . .
وسألوه عن القوة الظاهرة والكامنة فقال:
- في عالم الروح قوى كامنة تنتظر من يطلقها فإن شخصية الإنسان لا يبدو منها إلا عشر ما تنطوي عليه والباقي مختزن راقد في الأعماق. . إن القوى الدفينة في رمالكم عديدة بعيدة الأغوار، وما يستطيعه هذا المخلوق البشري الذي يحسب نفسه ضعيفاً يمتد على مسافات لو كان له أن يجتازها في عالم الحقيقة المحسوس لأتى بالمدهشات. . . إن في الإنسان فيضاً من نور الخالق، ولكن العيون لا تقع منه إلا على بضعة أشعة هي التي تأتي بكل هذا الذي ندعوه العبقرية والموهبة والوحي والخيال الخلاق والفن الرفيع، والبقية الباقية غائبة عن الحس منطوية على نفسها ولا أدري ما يكون من أمركم وأية أهوال تقذفون بها في هذه الأجواء، وأية أسرار تهتكون حجبها إذا لم تصب شموسكم بالكسوف وتجلت شخصياتكم على وجهها الأتم. . خذوا من ساعاتكم ساعة الإلهام وساعة الخطر وساعة الحلم وساعة الخطر وساعة الخمر تلمسوا بأيديكم ما تقوى عليه عقولكم الباطنة إذا ما خرجت عن ذهولها. .
إن نظرة واحدة من نظرات تلك العقول في يقظتها تكفي لخلق هذه الروائع في الفن، وتلك العجائب في العلم، وإن شهاباً واحداً من تلك الشهب النفسية يتصل بكم نوره يكفي ليضعكم في عدد الأبطال والمستشهدين، ويجعل من أسمائكم سيوفاً تبلغ من المضاء حداً تخترقون به كثافة الأجيال. .
آه لو استيقظتم اليقظة التامة الكبرى لتأخذ العين ما قدر لها من مجال في هذا الوجود، وتنطلق ذراتكم الروحية لتذليل هذه الصخرة الشامخة العاتية الهازئة القديمة القائمة في طريقكم، صخرة المستحيل. .
إن في قبتكم النفسية التي لا تقل عن هذه القبة الزرقاء روعة وسناء مائة ألف نجمة لا يضيء منها إلا نجوم قليلة معدودة فإذا ما أضيئت كلها وجدتم نفوسكم التائهة وشعرتم بذلك الارتياح النفسي الذي تسموه السعادة، ولقد حان لكم أن تنشروا كل ما في كتابكم من صفحات لتحقيق حلمكم الأكبر.
راجي الراعي