مجلة الرسالة/العدد 826/صور من الحياة:
مجلة الرسالة/العدد 826/صور من الحياة:
سعادة البك. . .
للأستاذ كامل محمود حبيب
ما لهذه الحياة تمزج الجد بالهزل، وتخلط الحق بالباطل، وتجمع بين الشدة واللين، وتوائم بين الصعب والسهل؟ لعلها تبتغي أن تنفث في الناس الأمل فلا يعتريهم الملل، وتبعث فيهم المرح فلا يضنيهم الأسى، وترسل فيهم الرجاء فلا يقتلهم اليأس!
سعادة البك رجل نيف على الأربعين، نال حظا ضئيلا من الثقافة العربية والفرنسية، درج في بيت من بيوت المجد والغنى والجاه، وكان أبوه الباشا يعتز به ويدلله ويقربه إلى نفسه وقلبه في وقت معا، فشب يرفل في الثراء والنعمة، ويتألق في الصحة والعافية، ويتقلب في السكينة والهدوء. يأوي إلى المسكن الرحب الأنيق، ويسعد بالثوب الغالي الجميل، ويسكن إلى الطعام الشهي اللذيذ. يقضي أيامه بين القاهرة والعزبة، يأخذ من هناك لينفق هنا عن سعة، ويستمتع في الريف بالهدوء الوداع والخمول الرخو، والهواء النقي، والخضرة النضيرة، ويستمتع في القاهرة بالصخب المثير، والحركة المستمرة، واللهو البريء. وهو إن وجد في العزبة ما يشغل بعض وقته فهو في القاهرة لا يجد إلا صراعا عنيفا بينه وبين الزمن: يريد أن يقتل الوقت فيقتله هو، ويحاول أن يلمس فيه الراحة والطمأنينة، فلا يحس إلا الضيق والضجر. والأيام تمر وهو يقضي صدر النهار قلقا مفزعا لا يجد الصاحب ولا الرفيق، والناس في شغل عنه. وهو في آخر النهار بتذبذب بين شرفتي الكونتنينتال وشبرد، يضطرب من نضد إلى نضد، ومن جماعة إلى جماعة، وصحابه جميعا من ذوي المكانة والشأن، ومن أصحاب الرأي والكلمة، يجلس إليهم في الشرفة ويزورهم في المنزل، ويرافقهم في اللهو، ثم هو يهيئ لهم المآدب الفخمة، والسهرات العابثة، يدعوهم إلى الملهى والمسرح فلا يتمنعون. وهم لا يملون صحبته، ولا يمل هو، فهو خفيف الظل لطيف المعشر، طيب القلب، حلو الحديث، بارع النكتة، حاضر البديهة، لا يثقل على واحد منهم بحاجاته، لأنه في غنى، وهو لا يشغل نفسه بحاجات غيرة.
عرفته منذ شهور، وقد ران عليه القلق من أثر الفراغ، وسيطر عليه الاضطراب من أثر الخمول. ولقد اطمأن إليّ فراح ينشر أمامي نوازع نفسه وخطرات ضميره: فهو يطمع ف أن يلي منصبا عاليا من مناصب الدولة، ولكن أنى له الشجاعة التي تدفعه إلى أن يتحدث بذات نفسه إلى واحد من صحابه، وهو في نفسه عظيم بين عظماء، لا يسمو عليه الوزير، ولا يبذه الباشا، ولا يعلو عليه المدير. لا ريب فإن طلبه سيضع من قيمته في نظرهم جميعا، ولكنه سيجد الخلاص. وشمله مركب العظمة فهو لا يتكلم إلا عن عظمته هو، وعن مواهبه وعبقريته ونبوغه.
وفي ذات يوم قال لي (أرأيت؟ لقد ولى فلان باشا وزيرا لوزارة كذا، ولولا أنه صديقي لنازعته المنصب، ولو أنني فعلت لظفرت به ولغلبته على أمره) وابتسمت لكلماته الجبارة حين رأيت مركب العظمة يتوثب شامخا في غير تواضع مترفعا في غير تحرج، ثم قلت (وأنت لو شئت لاختارك معالي الباشا، وهو صديقك، وكيلا لوزارته) قال لي (حقا، حقا! غدا أذهب إليه لأهنئه ولأطلب إليه ما أريد في شجاعة وتشبث).
وغدوت إلى مدير مكتب معالي الوزير، وإن بيني وبينه صلات العمل وأواصر الصداقة، فألفيت صاحبنا البك جالسا على كرسي وثير وعليه سيما العظمة والكبرياء، وبين يديه ورقة وبين أنامله قلم، فحييته في احترام وجلست إلى جانبه أحدثه (ماذا تفعل يا سيدي البك) قال (لقد أردت أن أقابل معالي الوزير فلم أجده فأنا أكتب إليه خطبا أهنئه بالمنصب الجديد، وأطلب إليه ما أريد) قلت (وماذا تريد؟) قال (أريد أن أكون عضوا في مجلس الشيوخ في المكان الذي خلا بوفاة فلان باشا) قلت: وماذا عسى أن يملك الوزيرة من هذا الأمر، وهو بين يدي مولانا الملك) قال (لا عجب أن تقول هذا القول وأنت موظف صغير لا تفهم عن المناصب الكبيرة شيئا. ألا تعلم أن معالي الوزير إن شاء حدث دولة الرئيس في شأني حديثا طيبا، فما يحجم دولة الرئيس عن أن يزكيني لدى مولانا الملك) قلت (عجبا! كيف فاتني هذا الرأي!)
ثم أنطوى البك على قلمه وقرطاسه، وفرغت أنا إلى مدير المكتب، فقال لي (أو تعرف شيئا عن هذا الأفندي؟) قلت عابثا (لا تقل هذا! إنه رجل من ذوي المكانة والخطر، وهو صديق روحي لصاحب المعالي الوزير، لا يوصد في وجهه بابآ، ولا يرد له شفاعة) قال (ولكنه يجهل التقاليد الحكومية) قلت (ولمه؟) قال (لقد طلب إلي أن يلقى الوزير ليهنئه، وليطلب إليه أن يعينه عضوا في مجلس الشيوخ، وهذا أمر لا يد للوزير فيه) قلت (الآن ترى!).
وناديت سعادة البك ليشاطرنا الحديث فجاء فقلت له: (إذا قال لك الوزير إنني لا أملك أمر تعيينك عضوا في مجلس الشيوخ، ولا أستطيع أن أحدث دولة الرئيس بذلك، لأنك لم تكن يوما سياسيا من ذوي الرأي والمبدأ والعقيدة، ولم تكن عضوا في حزبه).
قال: (آه، نعم. لقد فاتني هذا الرأي، ولكن إذن أطلب إليه أن أكون مديرا عاما لإدارة كذا).
قلت: (وأنت رجل لا عهد لك بما تتطلبه هذه الإدارة من أعباء، وهي إدارة فنية، ثم إن هذه وظيفة تحط من قدر رجل عظيم مثلك).
قال: (فماذا أفعل؟)
قلت: (إذن لا معدى لك عن أمر واحد، هو أن تكون مديرا لمكتب معالي الوزير).
قال في غضب: (أي خساسة وأي ضعة! لقد جئت أرجو الرجل - وهو لا يعرفني - فتلقاني في بشر واحترام، أفأسعى - بعد ذلك - لأنتزع كرسيه؟ لا، لا. لن يكون ذلك أبدا!)
قلت: (هذا مكانك أنت، فستلقى هنا عظماء الدولة يرجون رضاك، ويتملقون كبرياءك، وينحنون لك، وستكون أنت - إلى ذلك - صاحب الرأي لدى معالي الوزير، وكاتم سره، ورفيق نفسه).
قال: (لا، لا. لن يكون ذلك أبدا!)
قلت: (وماذا عليك والمدير نفسه راض، لا يجد غضاضة في أن ينزل لك عن كرسيه؟)
قال: (أفيرضى هو؟ فلنسأله. . .)
وبدا للمدير ما أحاول من عبث ومزاج، وراقه ما أفعل، فأراد أن يسري عن نفسه بعض عنت العمل، فقال في مكر: (نعم، أنا راض على شريطة واحدة).
فأجابه البك في لهفة: (وما هي؟)
قال المدير: (أن تسعى لدى معالي الباشا لأكون مديرا للإدارة التي ذكرت).
قال: (لا بأس، فهذا أمر سهل بسيط).
ثم خلا البك إلى قلمه يديره على القرطاس مرات ومرات فلا يهتدي. وأعجزه أن يكتب كلمة واحدة فناداني لكي أعينه على أمره وقد حزبه، قال (تعال، يا أستاذ، أرني كيف تكتب طلبا أقدمه إلى معالي الوزير. فأنت - كما تزعم - أديب كبير) قلت (وما للأدب وللطلبات الحكومية. إن الأديب يكتب على نسق خاص لا تستسيغه الأوراق الحكومية وهي لا تنضم - عادة - إلا على ألوان من التملق وأساليب من الخضوع وفنون من الذلة وأنواع من المسكنة، وأنا لا أحسن شيئا منها) قال في غضب (ومن ذا الذي يحسنها غيرك أيها الموظف؟) قلت في ابتسام (مدير المكتب يمليك فهو يختار - دائما - من الكلام ما يرضي الوزير ويتملقه) قال وهو يلتفت إلى المدير (نعم، أفتسمح يا سيدي المدير فتملي).
ورأى المدير أن المزاح يوشك أن ينقلب جدا، فاضطرب في كرسيه حين تراءى له ما سيكون بعد، فاعرض عن البك ومال إلى يسر في أذني (أرأيت كيف جرنا المزاح إلى الهاوية؟) قلت (أي هاوية؟) قال (هذا الرجل صديق الوزير، ما في ذلك من شك، وهو سيصر على أمر وسيحدث به الباشا، فماذا ترى سيقول حين يعلم ما كان مني وما كان من هذا الرجل. لا ريب أنه سيثور علي ويقذف بي إلى أقصى الأرض رغم ما تعرفه من ثقته بي وحرصه علي) قلت (لا تخف!) ثم التفت إلى سعادة البك أحدثه قائلا (أتطلب إلى الوزير أن تكون مديرا لمكتبه؟ كيف ترضى أن تكون خادما له تحمل حقائبه وتتبعه كما يتبع الكلب الأمين سيده، وتنمحي أنت بين مشاغله ورغباته؟) فثار حينا ثم قال (ومن قال ذلك؟) قلت (هذا هو عمل مدير المكتب) قال (لا، لست أرضى بأن أكون تبعا لأحد، يكفيني أن أعين عضوا في مجلس الشيوخ) قلت (حسنا، هذا مركز ذو شرف وجاه).
وأخذ مدير المكتب يملي والرجل يكتب إلى الوزير رجاء أن يعينه عضوا في مجلس الشيوخ، وتنفس المدير واطمأن وهدأت وساوسه. ورضى سعادة البك. ثم التفت البك إلى مدير المكتب قائلا (مر من يكتب هذا الطلب على الآلة الكاتبة، وسأحضر غدا لأقدمه بنفسي إلى معالي الوزير) وأجاب المدير بالإيجاب. ولكن الشواغل شغلته عن أن يفعل.
وجاء البك في الميعاد فألقى طلبه ملقى في ناحية. وبدا له أن مدير مكتب الوزير قد أهمل شأنه فثار به. وعلى حين غفلة منه اندفع صوب باب الوزير يقتحمه ليشكو هذا الموظف المهمل، فما انتبه المدير إلا ليرى البك أمام الوزير وجها لوجه، والوزير يهش له ويبسم ويلقاه في سرور. وعجب المدير لما يرى ولكن الوزير أمره بأن لا يوصد بابه في وجه سعادة البك لأنه صديق روحه ورفيق قلبه.
لقد دخل البك الثري حجرة الوزير لم يقف ببابه لحظة واحدة. . . دخل وخلف من ورائه موكبا لجبا يقف لدى الباب، تنطوي الأيام وأن الواحد منهم ليخشى أن يحين حينه قبل أن يلقى معالي الوزير. . .
كامل محمود حبيب