انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 826/القيم الروحية بين العلم والمادة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 826/القيم الروحية بين العلم والمادة

مجلة الرسالة - العدد 826
القيم الروحية بين العلم والمادة
ملاحظات: بتاريخ: 02 - 05 - 1949



للأستاذ واصف البارودي

الإنسان مجموعة متناقضات؛ لذلك تراه متناقضا في طبعه وفطرته. فهو صادق كاذب، وكريم بخيل، وشجاع جبان. . . الخ ولا تجد صفه من هذه الصفات متلبسة بلباس الفضيلة والرذيلة حتى إمكان تلبسها بالكساء الآخر. فالصدق أب الفضائل، والكذب أم الرذائل؛ ومع ذلك ألا نجد الصدق رذيلة في النميمة ونقيصة في الغيبة؟. . . ثم ألا نعتبر بعض مظاهر من الكذب، في إصلاح ذات البين مثلا، فضيلة ندعو إليها؟. . . وهل في العالم إنسان يعتر البخل فيما تستلزمه الكرامة الإنسانية، وفيما تقتضيه واجبات المحافظة على الوطن رذيلة ما؟ وهل في السماح بأرض الوطن فضيلة ترتاح لها النفوس؟. . . مثلا. فأين الفضيلة؟ وأين الرذيلة إذن؟. . . أهما مستقران في الألفاظ؟ أم هما من المعاني المنبثقة من صميم النفس بحسب إشعاع روح المجتمع فيها بأمر من الخالق المدبر، وبحكمته؟. . .

المطلق هو الله وحده، وكل ما يصدر عن هذا الكون نسبي لأنه خاضع، بحسب تكوينه، للتطور والتحول، بحكم مطاوعته لفعل المؤثرات في الخارج، وبحكم استجابته لأحكام التفاعل التكويني المستمر في داخله. فلا غرابه إذا تجاذبته المتناقضات، ولا عجب إذا اشترط تحققه الإنساني بتحقيق التوازن بين تلك المتناقضات، وبتركيزها!. . .

لكل كائن خصائصه التي يتميز بها، ويعرف. وخصائص الإنسان إنما تنجلي بمظاهر إنسانيته. وهذه لا تبرز إلا بتحقق الإرادة والحرية. وبقدر ما يتنازل الإنسان عن إرادته وحريته، يتنازل، في الحقيقة، عن إنسانيته. ولذلك كانت الحياة البشرية في الأفراد والمجتمعات، كفاحا مستمرا بين عزة الحرية ومنعة الإرادة، وبين ذل الجبرية واستسلامها. فالجبرية ضعف وجمود، والحرية قوة وتجدد. وهاتان العقيدتان المتناقضتان تلخصان، في الحقيقة، تاريخ البشرية منذ وجد الإنسان.

فمنذ تعرف الإنسان بهذا الكون المادي فكر بالسيطرة عليه وكان التوفيق حليفه في جميع الأدوار. غير أن المادة لم تكن تحجم عن الانتقام منه كلما وجدت لذلك سبيلا، ومظهر انتقامها أبرز ما يكون في سوقه إلى جبريتها، والجبرية هي الصفة الملازمة للمادة، ووسيلتها في الإنسان جسمه، إذ الحرية صفة تلازم الأرواح، والإرادة مظهر سام لها؛ تكاد المادة تسوق الإنسان لجبريتها حتى ينقاد لهواه ويعق إرادته. ومنشأ الهوى فؤاد هدام، وسريرة مظلمة. وفي ظلام الفؤاد والسريرة تتناثر الفكرات السامية وتلتحق بالعدم، فلا يكون لها أي تأثير في توجيه الإنسان، أو في تحقيق إنسانيته؛ فيعيش حيوانا يدعي أنه إنسان ناطق.

الإنسان مجموعة متناقضات، وبقدر تقدمه في الحضارة تزداد مظاهر التناقض في نفسه، ولا تنجلي إنسانيته إلا في إيجاد التوازن بين تلك المتناقضات، وفي تركيزها، على ما سبق وألمعنا إليه. وهذه هي الحكمة التي تقضي بوضع كل شيء في محله؛ وبهذا تتكون حقيقة الفضائل وتتفاعل عناصرها. قال أحد الفلاسفة: (ليست الفلسفة إدراكا وتأملا وحسب، وإنما هي حكمة).

المادة والعلم:

من مظاهر التناقض في نفس الإنسان تعلقه بحقائق العلم ومستلزماته، وحرصه على مقومات الجسم والتنعم بملذاته. فالعلم والمادة متناقضان بحسب الظاهر، ولكنهما في الحقيقة، وسيلتان تصلحان لرفع مستوى الإنسان بتحقيق إنسانيته الفردية والاجتماعية، إذا أحسن التصرف، وعرف حدود كل منهما، وكان لبقا في استخدامه. والخير، وكل الخير، يستقر فيهما معا ما داما يستعملان أداة أو وسيلة؛ ومتى أصبح أحدهما غاية للإنسان في حياته، تبدأ الشرور.

فالمال، مثلا، مع فوائده الجمة يقوم عثرة في سبيل التقدم متى حصل اضطراب في نظام جمعه وتوزيعه، فيصبح بعيدا عما تقتضيه الحياة الاقتصادية والحياة الإنسانية من رقى. ويكون مظهر الاضطراب المادي في أمور ثلاثة هي:

1 - تعقيم المال: وهو الرغبة في جمعه وكنزه في الأرض، أو في الصناديق، فيصبح عقيما، إذ لا ينتج أعمالا، ولا يساعد على تحقيق أي مشروع.

2 - تحكم الآلة: والآلة إذا تحكمت بالإنسان تحوله لآلة. ولا نخشى هنا من أن تصبح وسيلة لكثرة العاطلين عن العمل، وحسب؛ وإنما نخشى أن تنقلب نفسية الإنسان وروحه لنوع من الآلية فيفقد بذلك إنسانيته. وتدارك هذا الخطر إنما يكون بالتربية وبتبديل أنظمة العمل وتثقيف العمال.

3 - اتخاذ المادة معيارا للقيم. ومتى اتخذ المادة معيارا للقيم انجذبت إليها النفوس فتتأثر بخصائصها المميزة لها، وأهمها الجبرية فيعتقد الإنسان بأن مساق جبر حسب النواميس التي تساق بها المادة نفسها. وهنا يمكن الخطر.

وأما العلم فإنه يظهر لأول بادرة أنه يتعلق بالنفس لتعلقه بالمعرفة. وهو من حيث الغرض متعلق بالمادة نفسه، لأنه وسيلة التحكم بها مبدئيا. ويخشى عندما يتعلق العلم بالمادة تعلقا شديدا أن يكتسب منها صفة الجبرية، فيقول بها، كما ظهر لنا من أقوال كثير من العلماء، ولا سيما في عصور الانحطاط. وقد ظهرت بوادر هذه العقيدة عند الكثيرين من علماء عصرنا هذا، فكانت دليلا على ظهور إمارات الانحطاط في مؤسساته العلمية والاجتماعية، وأخذت الحضارة تنذر بالانهيار.

قال مونتاني: (من الجرأة الغريبة أن يرفع إنسان نظره أمام العلم) فأجابه هنري ماريون مؤخرا قائلا: إننا نحترم العلم ونخضع له، ولكن هل يقضي علينا ذلك باحترام العلماء أصحاب النظرات التصاعدية التي تتصل بالأوهام والسخف، وبالخضوع للعالم الذي يتخذ علمه وسيلة لاقتناص المادة والمناصب، ولخداع الناس؟. .

أننا نعرف كثيرا من الحوادث التي اتخذ بها العلم وسيلة لتحقيق مآرب خاصة، واقتناص فوائد مادية، دجلا وتزييفا، ومن قبل أناس مشهود لهم بالعلم والثقافة، وكانوا، في الحقيقة، على شيء من العلم والمعرفة. ولا يندر أن نجد مثقفين يقولون ما لا يفعلون، نفاقا ورياء؛ فهم يتخذون المعرفة والمبادئ وسائل رخيصة في سبيل تحقيق ما تميل إليه أهواؤهم، وإشباع جشعهم وأطماعهم.

القيم:

العلم، بذاته، لا يعرف الخير والشر. والمادة بذاتها، لا تعرف الخير والشر. وكل شر أو خير يتأتى عن العلم أو المادة، إنما يكون منشأه الإنسان. فالخير والشر كامنان في نفس الإنسان وحده، وفي روحه. . . ومن هنا نستطيع أن ندرك أهمية القيم.

يقول الشاعر:

قيمة الإنسان ما يحسنه ... أكثر الإنسان منه، أو أقل

وأسمح لنفسي أن أقول: قيمة الأعمال تقدر بنسبة صلتها بروح الإنسان. فالإنسان هو معيار كل شيء، حسب تعبير بروتا غوروس لا العلم ولا المادة، ولا العمل نفسه.

القيم الروحية:

القيم تتصل بالأعمال التي يقوم بها الإنسان. فكل عمل نقوم به، إنما يقدر ببواعثه. فإذا كان منشأه الهوى، أي الفؤاد الهدام المظلم، أو بتعبير آخر: النفس الأمارة بالسوء، فلا تكون له أية قيمة إنسانية، لأنه في هذه الحالة يكون فعلا مجبرا. وليس للأعمال الإنسانية قيمة صحيحة إلا إذا صدرت عن الإرادة المتحققة في الحرية. فصلة الأعمال والسلوك بروح الإنسان أي بإنسانيته، هي التي تهبها قيمة ما. والروح لا تكون روحا إلا بالإرادة والحرية، لأن الروح، في حقيقتها، حياة وحركة وتقدم وثورة.

وتقدر قيمة الأعمال بالبواعث. فإذا كانت البواعث أمورا خارجة عن الروح، أو بتعبير آخر: إذا لم تكن منبثقة عن الفعالية الروحية، فلا يكون للعمل قيمة روحية، وإنما تنسب قيمته إلى الباعث الذي أدى لوجوده. فإن كان كسب المال، مثلا، فتكون قيمته مادية، وإن كانت الشهرة، فهي الزهو والغرور. فما رأيك فيمن يولم وليمة وينفق عليها بسخاء، ويكون له من ورائها مأرب تجاري؟ أيصح أن يدعي كريما؟ أعتقد أن من ينفق قرشا على فقير بباعث الشفقة والرحمة، هو أجدر بالاتصاف بالكرم من ذلك المستثمر. إن صفة الكرم وأمثالها لا تمنح إلا لمن يقوم بهذا العمل بباعث روحي داخلي، لا لمآرب خارجية.

فالقيم الروحية إنما تقوم بالروح، بصفة أنها عمل بذاتها، وبسبب البواعث على العمل. وهذه القيم يسبقها نزوع له مبدأ، وله غاية، وبينهما قوة حركية يبعثهما الحدس والعاطفة. فإما أن تذهب إلى النفس المظلمة فتنقاد للهوى، وإما أن تتصل بالفؤاد البناء فتتصل بالإرادة، فيكون العمل إراديا حرا، أي إنسانيا. صور أحدهم من يبذل من ماله دون أن يكون لبذله أية قيمة روحية فقال:

يعطى ويمنع، لا بخلا ولا كرماً ... وإنما نزعات من وساويس

أثر الانفعال والتفكير في القيم:

ومما يقوي هذه النزعات، ويبعدها عن نظام القيم الروحية، الانفعال. والانفعال نسيب الهوى. ولذا يقول علماء النفس: إن الأمم الكثيرة الانفعال قليلة الإنتاج. ألا ترانا نحن في مؤسساتنا وفي منظماتنا، كثيرا ما نبدأ بحماس شديد، وننتهي إلى لا شيء؟ ونعبر عن ذلك بقولنا: (إننا نفور فورة الحليب). وهذا ما يتهمنا به الغربيون فيقولون عنا: إنهم يسيطر عليهم الانفعال فلا تخشوهم؛ ولكن اصبروا عليهم بادئ الأمر، وسرعان ما يهدأ انفعالهم، ويسكن في نفوسهم الحماس.

إننا نحترم الأمم التي تعتمد على التفكير في سلوكها، فلم لا نجعل التفكير والتؤدة من مبادئ سلوكنا، أي من القيم الروحية التي يجب أن تصدر عنها انفعالاتنا النفسية؟ وهل شيد أسلافنا صروح الحضارة إلا بهذا التفكير؟. . .

المثلث الخالد:

تتجمع هذه القيم الروحية في المثلث الخالد، وهو الحقيقة والجمال والخير. فالحقيقة توافق داخلي بين فعالية الروح وموضوعها. والإنسان بحاجة لمعرفة الحقائق ليحيي إنسانا. ولا يمكن الحصول على الحقيقة إلا إذا تجردنا عن مصالحنا وأهوائنا.

فللحقيقة قواعدها الخاصة، وهي موجودة في الكون، ولكنها موجودة بالقوة، والإنسان هو الذي يخرجها لخير الفعل، فتصبح به كائنة بالفعل. والإنسان الذي أنيط به إخراجها لخير الفعل يستطيع تزييف هذه الحقائق وقلبها، ومن هنا يصدر إمكان الدجل والتزوير، من العلماء أنفسهم.

والفرق بين الحقيقة المجردة والحقيقة المزيفة أن الإنسان يصل للأولى بقدر ما يترك نفسه على سجيتها، ومتى أراد التزييف بذل جهدا خاصا. ولذلك تقع التبعة في تزييف الحقائق على الإنسان وحده، لأنه يقوم به بمحض إرادته. ولعمري أنها جريمة من أفظع الجرائم، سواء أخدع الإنسان بذلك نفسه، أم خدع الآخرين.

أما الجمال فهو ما يثير في النفس الانبساط والإعجاب معا. وأقصد بالانبساط معناه اللغوي، أي امتداد النفس واتساعها، فيشعر الإنسان أمام أي مظهر من مظاهر الجمال بامتداد في روحه يجعله يحاول أن يتجاوز نفسه في السمو.

تصور نفسك أمام أثر فني رائع، وأثر معماري خالد، أو أنك تقرأ قطعة أدبية فنية، أو تستمع إلى سيمفونية راقية، أو أنك أمام غير ذلك من آثار الفنون الجميلة، فتشعر بذلك التأثير، إذا كان في روحك انطلاق. وما ذلك إلا لأن الجمال، في حقيقته، حر مجرد؛ والتأثر به إنما يكون نتيجة لفعالية روحية حرة مجردة. فمتى اتصل هذا الإحساس بمأرب أو غرض ذهبت روعة الجمال، وضاعت على الإنسان مسرات سحرة، فيصبح حيوانا مخربا، يفسد على الجمال روعته. أو يخسر الجمال قيمته الروحية.

تذوق الجمال استجابة لفيض من القوة الروحية وفعاليتها، يبذلها الإنسان للبذل. كلنا يشعر، لا سيما في أوقات فراغه، بفيض من الفعالية يحتار في أمر استخدامها؛ فإذا لم تجد مخرجا ألقت بالإنسان في غياهب الذهول، فيصبح أسير الأحلام النهارية، ويتأثر بالمنامات. وهذه حالة كثيرا ما تؤدي إلى الضعف والفساد. إن قوى الإنسان بحاجة لأن تتمرن للتمرن، فلا تكتفي بالعمل العادي؛ فوجب أن تصرف في الألعاب ورياضة الجسد، وفي تذوق الجمال في مظاهره المختلفة من أدب وموسيقى وتصوير وغيرها من آثار الفنون الجميلة.

فإذا اهتمت الأمم الراقية بهذه الفنون وبالرياضة البدنية، فإنما تعني بذلك لتحفظ في الشباب قواهم الروحية، ولتنمي هذه القوى، خشية من تحولها لفساد، أو ذهول، تضعف معهما إنسانية الإنسان وقد تتلاشى. فلا غرابة إذا رأينا المربين يؤيدون مبدأ إصلاح المجتمع بالفنون الجميلة وبتشجيعها.

إن الفنان الجدير بفنه يتحكم بالزمن تحكما لا يستطيعه غيره. يستطيع كل إنسان أن يعود إلى أي مكان سبق ومر به؛ ولكنه لا يستطيع أن يستعيد لنا لحظة مرت سوى الفنان من بني الإنسان. والفنان يستطيع، عدا ذلك، أن يستبقي تلك اللحظة، وأن يخلدها. فإنه يأخذ من أي مظهر من مظاهر الجمال، وقد تجلى في زمن من الأزمان، عناصر هامة يركب منها رائعته التي تحفظ لك ذلك التجلي وزمنه، ويجعل باستطاعتك العودة إليه متى أردت. فكأنه يحرر هذه العناصر من جبرية المادة ونواميسها، ويمنحها كيانا جديدا يصله بروحك. وهذا ما يضمن للأثر الفني الخلود. إنه قد عبر عن نفسية الفنان، وانبثق عن روحه، فكانت له قيمته الروحية. ولهذا جعل الفلاسفة الجمال مبدأ للخير.

والخير هو حصول الشيء على كماله، أو، حسب تعريف بعض المعاصرين، ما يجب اختياره.

فالحرية والإرادة شرطان أساسيان في تحقيق وجوده ولا يستطيع الإنسان أن يكون حرا في اختيار ما يجب اختياره إلا إذا كان مثقفا لحد ما.

ومن هنا نشأت فكرة وجوب الغاية لتثقيف الجماهير في الأمم الديمقراطية الحرة، إذ مهما كان العمل عظيما، فلا يعتبر فضيلة، إن لم يقترن بالفهم والتفكير، أي بالروح العلمية.

فهذه القيم: الحقيقة والجمال والخير، مهما افترقت في مفاهيمها، فإنه يجمعها أنها تشترك كلها في تكوين المثل العليا الصحيحة. ولا تكون المثل العليا صحيحة إلا إذا دخلت في دائرة التأمل والإرادة، وكانت ثورية في طبيعتها.

قال بيجوي: (. . . وهكذا، فإن أول شكل للمثل الأعلى في التاريخ، وأول شكل يكشفه، هو النقد والمناظرة، وإنه، لدرجة ما، ثوري دائما). ولعله يقصد بالثورة، هنا، ثورة النفس على النفس، ليتم الانقلاب فيها أولا، قبل أن تفكر في قلب المجتمع: (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). (قرآن كريم)

إننا ندعو للقيم الروحية لتستقر مشاريعنا، ولتستمر؛ لأن المشاريع التي تتعلق بالفرد تزول بزواله، أو بزوال نشاطه. قال ويلز: (إذا أردت أن تبعث شعبا من الشعوب من غفوته، فحسبك أن تبعث في حياته روحا علمية في التفكير، وشعورا لطيفا في النفس يتفجر عنه الحب والعواطف).

ومن هنا يجب أن يندفع الإنسان إلى العمل. فلا بد في الحصول على مسرات القيم الروحية ومباهجها وفي بلوغ نتائج تأثيراتها الرائعة في توجيه الأمم وإنهاضها وعظمتها؛ لا بد في ذلك كله من أن يبدأ المواطنون بثورة النفس على النفس؛ ولا يتسنى لأي إنسان القيام بهذه الثورة إلا بعد تحطيم الأصنام المتربعة على عرش قلبه، قبل كل شيء.

لا يمكن معرفة الحقيقة الناصعة، وتذوق الجمال الرائع، والانجذاب إلى عمل الخير النافع، ولا يستطيع الإنسان اعتناق المثل العليا، وهي وحدها تبعث الاطمئنان في النفوس، إلا بمواجهة الواقع. ومواجهة الواقع بصدق وإخلاص ودراية يقضي حتما بتحطيم ما في النفس من أصنام تدفعها لطرق ملتوية لا تستقيم معها النفوس. والأصنام كثيرة: منها ما هو مادي خارجي يؤثر في النفوس، كالمظاهر المادية ووسائل الترف؛ ومنها ما هو نفسي داخلي يتآكل في النفس إنسانية الإنسان. وكل امرئ يعرف أصنامه، وما دام عابدا لها فليس له أن ينتظر رقيا ولا تقدما في نفسه، بلة في مجموع يعتمد عليه.

قال بارودي: (نخشى من جمود المؤسسات والأخلاق والعقائد، لئلا تتحول لآلية نفسية أو اجتماعية، تصبح معها عائقا عن التقدم).

فلا يكفي إذن أن تتبنى القيم الروحية، بل يجب أن تتجدد حيويتها في نفوسنا بقوة فعاليتنا الروحية، ولا يتم ذلك على أكمله ويبعده عن التزوير والجدل والتزييف، إلا إذا اتصلت بالمثل الأعلى الأعظم، وهو جماع القيم الروحية في سموها، أي الحقيقة المطلقة، والجمال الأسمى، والخير الأعظم، وهو الله.

فمتى اتصلت قيمنا الروحية بالله، تصبح روحانية، فتتوازن وتتركز وتتوحد، وتكون منشأ الوحدة بين البشر، إذ لا يجوز أن يكون اسمه، جل شأنه، وسيلة تفرقه بين المواطنين والشعوب والأمم.

واصف البارودي