مجلة الرسالة/العدد 809/العلوم الدينية
مجلة الرسالة/العدد 809/العلوم الدينية
بين القرآن وعلماء الإسلام
للأستاذ عطية الشيخ
المفتش بالمعارف
مصادر الإسلام أربعة، هي القرآن والسنة ولإجماع والقياس، ومن بين هذه الأربعة ثلاثة خلافية بين الفرق والمذاهب الإسلامية، تفاصيلها في علم الكلام لمن أراد البحث، أما المصدر المتفق على نصه فهو القرآن الكريم، والاختلاف في التفسير لا يضر، إذ القرآن الكريم كنز لا تفنى غرائبه، ولا تنتهي عجائبه. وكلما تقدم العلم، وارتقى الفكر، وانفتح مدى المعارف الإنسانية، وزادت تجارب الناس ومشكلاتهم، كلما حدث هذا، وضح ما في القرآن من إعجاز، وتبين للعقلاء أنه كلام رب العالمين (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله).
على أن هناك تفسيرا للقرآن لا يقبل الشك، وهو سيرة النبي ﷺ، وقد كانت أخلاقه القرآن، كما حدثت بذلك الصديقة رضي الله عنها. ولهذه السيرة تلاميذ، أحاطوا بها ولم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا أحصوها، وهؤلاء التلاميذ المخلصون، هم نجوم الأمة المنيرة صحابة النبي ﷺ، انعكست عليهم أضواء شمس القرآن، بعد غروب بدر نبيه، واسترشدت بهم الأمة بعد فقد الصادق الأمين، فهدوها إلى صراط مستقيم، ورفعوا لواء الإسلام في كل حزن وسهل، وطافوا به كل مطرح ونشروه في كل واد، عالمين أنه سلوك يهدي لا جدل يردد، وقلب يصفي لا لسان يلوك، وسنة تتبع لا دروس تتلى، فأعجبت بسلوكهم الشعوب المنحلة، وشغفت بطريقتهم الأرواح المجهدة، واقتدى بهديهم المتعبون والمثقلون، ودخل أهل الدنيا في دين الله أفواجا، ولم يمض إلا عشرون عاما حتى كانت العربية لسان كل سنخ وجنس، والشريعة السمحة قانون كل صقع ودولة، والمسلمون مثلا أعلى لكل متعلم ومسترشد.
ثم أتخم الإسلام بكثرة ما حمل من أوشاب الأمم، ومختلف الحضارات، وما اثر فيه من مشاكل العلوم القديمة، والنحل المختلفة، وما دسه فيه أعداؤه من رجال الأديان الأخرى الت خرت أمام سطوته، وعنت لعظمته، فخلف من المسلمين خلف بعد أن وقفت فتوحه، متأثرين بكل ما ذكر، وجعلوا من عقيدة الفطرة مشاكل ذرية، ومن غذاء الروح عقدا فلسفية، ووضعوا مصطلحات، واخترعوا علوما، وتركوا ميدان الحسام وجاهدوا باسلات اللسان، وهجروا صهوات الخيل، إلى مذاكرات الليل، وطرحوا خصام الكافرين، إلى جدال غيرهم من المسلمين، فأفسدوا من الإسلام مذاقه، وعكروا صفوه، وقسموا الأمة طرائق، وقطعوها خرائق، وكانوا أنكى على الإسلام ممن خاصمه بحد الحسام.
ورضى المستجدون على الإسلام والطارئين عليه من ملوك الأعاجم والترك، بعد أن دالت دولة العرب، بفهم الإسلام بهذا الوضع، لمشابهة العلوم الإسلامية المبتدعة، لما ألفوه من علوم الأديان الأخرى، وثنية وسماوية، فعظموا هؤلاء المبتدعين، ورفعوا شأنهم، ورأوا في تعظيمهم تعظيم الإسلام نفسه. وكيف لا يفعلون هذا، وقد قبله من حولهم من ملوك الروم للقساوسة والرهبان، ومن أعيان اليهود للأحبار، ومن ملوك الهند للكهان؟ أو لعل هؤلاء الحكام الجدد رأوا في هذا السلوك خدمة لعروشهم، بصرف الناس عن خدمة الدين بما خدمه به فقهاؤه الأوائل من جزيرة العرب، إذ أن فهم الإسلام هذا الفهم الأول، يعكر عليهم ما أخذ يحيط بهم من ترف ونعيم ولهو واستماع، ومن كان كذلك يعنيه أن يفصل بين ما لقيصر وما لله وأن يجعل الدين في المساجد والكتب، والملك العضود في الدنيا وزهرتها، وإلا لقام له من يقول: (لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناك بالسيف)، ومن يقول: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، ومن يطبق قول أبي بكر: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم) ومن يقول: (والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها، إنما اهلك بني إسرائيل أنهم كانوا يقيمون الحد على ضعفائهم دون أقويائهم).
أقول منذ فهم الإسلام هذا الفهم، ووضع هذا الوضع، وجعل علوما جدلية ونظرية علمية، وقواعد جافة، اخذ بناؤه ينقض حجرا حجرا، وعموده يميد شبرا شبرا، وأرضه تنتقص رقعة رقعة، ووحدته تتجزأ فرقة فرقة، حتى لم يبق منه إلا الذماء، أفلم يأن للبقية الباقية من المسلمين، الحرص على استرداد مجدهم، والحفاظ على ما بقى لهم، أن يعيدوا للإسلام جدته ويفروا إلى القران، ويسعهم من الدين ما وسع الصحابة رضوان الله عليهم، ويتركوا كل هذه التركة الثقيلة التي ما فتئوا يسمونها علوم الدين؛ والدين منها بريء، ويضيعون وقتهم في مدارستها ويبنون المعاهد والمدارس لها. ثم لا يكون منهم مثل خالد أو عمرو أو عمر، ولا ينبغ فيهم مثل من نبغ من الأميين؟! لست أول من نادى بذلك الرأي، بل سبقني إليه الغزالي حجة الإسلام، وبرهن بما لا يقبل الشك على أن ما يسميه الناس علوم الإسلام ليست من الدين في شيء، وان معرفتها لا تقرب إلى الله قيد شعرة، وان عامة المسلمين اخلص عقيدة وأصفى قلبا واقرب إلى الله من علماء هذه العلوم. وفي الأثر ما يفيد أن النبي ﷺ نهى بعض أصحابه عن الجدال في الدين، والتنطع فيه، والخوض في النظريات التي أولها كلام وآخرها خصام، والسؤال عما لم يرد.
أقول أن الأمة أحوج إلى فهم علوم الدنيا من كيمياء وطبيعة ورياضة وطب وهندسة. . . الخ، لأنها علوم تعين على الحياة، وكسب الرزق، والقوة وفهم قدرة الله، وهو ما أمر الدين به، بل هذه العلوم مأمور بالبحث فيها بنص القرآن، وما من علم حديث إلا له آيات تحض على البحث فيه، مع ذكر شيء من مبادئه الأولى، حتى وقر في ذهن المسلمين منذ القدم أن القرآن الكريم حوى كل علم يمكن أن يبحث فيه السف أو الخلف، وفسروا قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) هذا التفسير. ولولا الإطالة لأحصينا في هذا المقال الآيات التي تحض وتأمر بالتعمق في العلوم الكونية أما ما يسمونه بالعلوم الدينية، بحسب الوضع الذي صارت إليه، فليس لها سلطان في الكتاب العزيز أو ماضي السلف الصالح، ولم يفد منها الإسلام إلا الضعف والتفرق والضياع. فيا ليت الذين أهملوا مؤلفات ابن الهيثم، وزيجات الخيام، وقانون ابن سينا، وبحوث بني موسى بن شاكر، ومسائل جبر الخوارزمي، ومستحدثات البيروني. يا ليت هؤلاء الذين ضيعوا هذا المجد وحاربوه وجروا وراء الفرق بين المعجزة والكرامة، والواجب والمندوب، والإجماع والقياس، والحيض والاستحاضة. يا ليتهم علموا أن العلوم الأولى اقرب إلى الله من الثانية، وادخل في الإسلام منها؛ إذا لما اصبح المسلمون عبيدا للأوربيين الذين وقعوا على ذخائر العرب فأنفسح أفقهم العقلي، ووصلوا إلى هذه المخترعات التي أثاروا بها الأرض وعمروها، وحددوا الأفلاك وفحصوها، وحللوا العناصر وركبوها، فدانت لهما الأمم، وعنت لهم الشعوب.
القرآن الكريم وهو الأصل المتفق عليه للإسلام، والمصدر القطعي الثبوت والدلالة، ما تعرض للبحوث التي سموها علوم الإسلام إلا لماما، حتى أن الصلاة وهي عماد الدين لم تتبين فيه أوقاتها وطريقتها، لا استهانة بها ولكن لأن أهم أركانها صفاء القلوب، وخشية المعبود، وأما أقوالها وأفعالها فتوقيفية يسيرة المتناول على الذكي والغبي. وكذلك الزكاة، والصيام، والحج، وهي قواعد الإسلام، يشير إليها القرآن الكريم إشارات خفيفة تاركا كل تفصيل وتوضيح للروح لا للعقل، وللذمة والضمير، لا للحدود والأقيسة.
أما القصص التهذيبي الذي أهمل المسلمون طرائقه في التعليم الخلقي فهو أكثر ما في القرآن. وأما الإيمان بالغيب والإسلام لله فهو لب التنزيل. وأما البحث في النفوس وخلقتها، والأجنة ونموها، والأمم وتاريخها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها، والكون وما يصير إليه، والرزق وما يحصل به، والأمم وكيف تحيا ولم تموت، وحسبان الشمس والقمر، وما في الأرض والسماء من قوى وعبر، فهي كل القرآن وهي موضوع العلم الحديث، ومن يتبحرون فيها هم علماء الدين الذين يخشون الله ويخدمون الأمة، ويرفعون شأن الملة.
علوم الإسلام، هي الصناعة والزراعة والطب والهندسة وما لف لفها. وأما علوم الكلام والفقه والأصول وما جاراها، فليست من الإسلام في شيء. وقد بلغت وما أنا إلا حريص على نهوض المسلمين، والسلام على من اتبع الهدى.
عطية الشيخ
المفتش بالمعارف