مجلة الرسالة/العدد 809/الحديث الشريف
مجلة الرسالة/العدد 809/الحديث الشريف
هل تنقيحه ممكن؟
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
يموج العالم الغربي اليوم بمتلاطم من المذاهب والنظريات والحقائق التي بلبلته حين تكاثرت عليه، فصار لا يدري ما يأخذ، أو ما يدع.
والعالم الإسلام ي عرضة لتلك الأمواج تتوافد عليه فتحدث فيه بعض ما أحدثت في عالم الغرب من اضطراب في الفكر والاعتقاد، وذلك رغم ما يملكه المسلمون من معايير وثيقة للحق والباطل تتجلى في كتاب الله وسنة الرسول.
ولعل من بوادر البلبلة الوافدة ما يبدو لبعض الناس في بعض الأحاديث الشريفة من مخالفة للعقل يقترح من أجلها تنقيح كتب الحديث القديمة أو تنقيح الأحاديث نفسها في كتب جديدة.
وتمحيص الحديث لا يمكن من الناحية النظرية إلا عن طريقين: تمحيص المتن أو تمحيص السند. فأما تمحيص الأسانيد فقد قام به أئمة الحديث على صورة لم تدع زيادة لمستزيد. ونحل الأسانيد فوق ذلك أمر غير ممكن. وأما نقد متون الأحاديث فلا يزيد على أن يكون تحكيما للرأي في الدين بحيث يصبح الدين رأيا ويصبح الرأي هو الدين.
إن القدماء كانوا على حق حين حكموا أن الطريق الوحيد المأمون في تصفية الأحاديث هو طريق تمحيص السند، لأنه بعد أن قامت الحجة القاطعة على رسالة الرسول صلوات الله عليه، وانه لا ينطق عن الهوى في كل ما بلغه الناس عن الله، لم يبق لتمييز الحق من الباطل إلا أن تثبت القول عن الرسول. وتمحيص الأسانيد المتصلة إلى الرسول هو الطريق البديهي لهذا الإثبات. فمن آيات الله الباهرة في حفظ هذا الدين أن وفق علماء المسلمين للقيام بتلك المهمة الكبرى قبل أن يفوت وقد أمكن القيام بها فلو تأخرت إلى ما بعد تلك العصور التي تمت فيها لأصبح القيام بها مستحيلا، إذ لو وجد العلماء الراغبون في بذل الجهد القادرون على التمحيص، لما وجد ما يفحص أو يمحص بعد موت جميع الشهود.
فمن فضل الله علينا وعلى الناس جميعا أن كان الدين وعلومه شغل العلماء الشاغل عصورا طويلة حتى تم حفظ اللغة، وحفظ القران، وحفظ الحديث، وإلا أصاب الإسلام م أصاب غيره من التحريف والتبديل والتضييع.
ولست ادري كيف يمكن إذا كان الحديث ثابتا عن الرسول أن يمتد إليه عقل، مهما قدر، بتنقيح أو تعديل! لست ادري كيف يمكن أن يجوز عند العقل أن قولا ثابتا عن الرسول الذي قطع العقل برسالته عن الله يصح أن يكون محل بحث غير بحث يرمي إلى استنباط المعنى منه، لا إلى تصحيح أو تنقيح شيء فيه. أن الدين قد جاء الإنسانية بكثير مما لم تكن تعرف، وكثير مما لا يمكن أن تعرف إلا عن طريقه؛ وكل أخبار الغيب لا يمكن أن نعرف إلا عن طريقه. والمسالة ليست مسالة ماذا نفهم من الدين، أو ماذا نعقل، أو ماذا يتفق مع ما نعرف أو نعلم عن غير طريقه، ولكن المسالة هي أمر الواقع الذي كأن والذي بلغه الرسول للناس عن الله سبحانه. فإذا ثبت أن أمرا قد وقع أو قولا قد صدر عن الرسول وجب قبول هذا الواقع وذاك القول مهما بدا للعقل غريبا أو عجيبا أو غير مفهوم.
إن الدين صادر عن خالق الخلق، وقد تناول جميع الفطرة ماضيها وحاضرها ومستقبلها: بالإجمال فيما اقتضت الحكمة الإلهية إجماله، وبالتفصيل فيما اقتضت تفصيله. والعقل الذي يمكن أن يحيط بالفطرة لم يخلقه الله بعد، وهو على أي حال عقل المجموع لا عقل الفرد والعلم الذي يتسع حتى لا يند عنه شيء من الفطرة لم يوجد، ولن يوجد أبدا. فسيظل الإنسان يعلم ويزداد علما من غير أن يصل إلى نهاية العلم.
وإذا كان الأمر كذلك فهل من المعقول أن يتطلع الإنسان إلى فهم كل سيئ في الدين كان ليس في دين الله ما يسمو عن عقل الإنسان؟ وإذا كان في الدين ما يسمو عن عقل الإنسان ويزيد عن علمه، فهل من المعقول أن يحكم الإنسان عقله وعلمه في الدين، فلا يقبل من الحديث إلا ما طابق ذلك العقل على محدوديته، وذلك العلم على قلته؟ ألا يكون ذلك غرورا يضل الإنسان به عن الله، ويصبح به إلهه هواه؟
ما هو المقياس الذي يمكن أن يقيس به الإنسان متون الحديث ومعانيها ليقبل منها ما يوافقه، ويرفض أو ينقح منها ما يخالفه حتى يزول الخلف؟ أن الحق القاطع لا يختلف. ذلك أمر معروف مقطوع به. فهل يمكن أن يتناقض نص قاطع وأمر واقع عرفه الإنسان بالعلم المستقل عن الدين، كالعلم الطبيعي مثلا؟ أن هذا غير ممكن؛ فالدين من عند خالق الفطرة، واليقيني من العلم الطبيعي هو جزء من الفطرة، بمعنى أنه وصف حقيقي صادق لجزء منها، والفطرة متجانسة متساندة فلا يمكن أن يناقض بعضها بعضا. وإذن فلا يمكن أن يناقض علم دينا أو دين علما إذا كان العلم صحيحا وإذا كان الدين من عند الله. لكن الدين بحكم تناوله جميع الفطرة يجمل القول أو يبهمه فيما لا يتعلق بضروري لسعادة الإنسان الآن، وفيما ضاق عنه علمه الحاضر أو علمه وقت أن نزل القران؛ فيفهم الإنسان من القول المجمل أو النص المبهم بقدر عقله وعلمه؛ بل لعله لا إجمال ولا إبهام هناك إلا بقدر أن يكون في العبارات الكلية عند من لا يعرف جزئياتها، فهي تبدو مجملة أو مبهمه لكثرة ما فيها من المعنى الذي استغلق على الإنسان؛ حتى إذا ازداد علمه باطراد تقدمه، فهم من النص ما لم يكن يفهمه، واطلع منه على دنيا من الحقائق جديدة يتجدد بها له وللإنسانية الحجج عصرا بعد عصر: أن الإسلام دين الله، وان محمدا رسول الله، وان القران كتاب الله، وان ما ثبت عن الرسول لا يجوز أن ينقحه، وان وجب أن يتفهمه، الإنسان.
سيقال طبعا أن الثابت عن الرسول صلوات الله عليه مختلف في درجة الثبوت، فالمتواتر من الحديث قليل أو أقل من القليل، لا يكاد يجاوز أو يبلغ أصابع اليدين عدا. وهذا لا اختلاف في قبوله ولا في أنه فوق التنقيح. والثابت غير المتواتر هو الصحيح على تفاوت في درجة الصحة، وهذا لا يفيد إلا الظن، أي ترجيح أنه من قول الرسول على تفاوت في درجة الرجحان؛ وهذا هو الذي يصح أن يكون عرضة للتنقيح عند اللزوم.
أني أقول أولا إن احتياط علماء الحديث رضوان الله عليهم من الناحية العقلية المنطقية الصرفة، هو الذي جعلهم يضيقون دائرة المتواتر ذلك التضييق. وإلا فكثير من الحديث يلتحق بالمتواتر لتعدد طرقه وسلامة أسانيده. ولئن لم يتواتر هذا الكثير من ناحية اللفظ فهو متواتر أو يكاد من ناحية المعنى ولو دقق علماء التاريخ في ثبوت التاريخ تدقيق علماء الحديث في ثبوت الحديث لما كاد يثبت من التاريخ شيء. فمسلك علماء الحديث في نقد الأسانيد كان غاية في التشديد كانوا يضعفون الحديث إذا عرف عن أحد رواته سهوة، أو أحصى عليه هفوة يرونها تخل بالكرامة. وكانوا ينبذون الحديث إذا عرف عن أحد رواته أنه كذب ولو مرة. وهذا تشديد كبير لأن الذي يكذب مرة ليس معناه أنه يكذب كل مرة، أو أن الكذب له عادة. والذي يكذب على الناس ليس بضروري أن يكذب على الرسول الذي توعد الكاذب عليه بالنار. لذلك لست اشك في أن من بين ما رفضه علماء الحديث صحيح غير قليل، فينبغي أن يكون ما قبلوه بالغا في الصحة كل مبلغ، جديرا أن تتلقاه العقول بالطمأنينة والقبول.
فالرجحان هو اقل ما يمكن أن يوصف به ما صححه أولئك العلماء الأعلام المدققون. أي أن ما وصوه بالضنى والراجح هو في الواقع فوق ذلك بكثير، ولكنهم وصفوه بأقل ما يمكن أن يوصف به، لأن العقل لا يقطع بغير هذا. أي إن الأحاديث الصحيحة عند العقل هي قطيعة الرجحان. وما كان قطعي الرجحان هكذا في الثبوت عن الرسول فأي حكمة يا ترى هناك في القول بتنقيحه؟ أفمن الممكن إنزاله عن مرتبة الراجح مع أن رجحانه مقطوع به؟ أم من الممكن إعلاؤه عن مرتبة الراجح إلى مرتبة اليقيني؟ ليس هذا ولا ذاك ممكنا عند العقل اليوم، وإذا فلا محل هناك للقول بتنقيح صحيح حديث رسول الله صلوات الله عليه.
ويجب ألا يغرب عن البال، أن الأحاديث الصحيحة وان وصفت بأنها راجحة الثبوت عن النبي عليه الصلاة والسلام فإن الإجماع منعقد على العمل بها في الدين: أجمع على ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، واجمع على ذلك العلماء عصرا بعد عصر إلى عصرنا هذا. فمن يحدث نفسه يترك حديث صحيح لمجرد أنه لا يفهمه أو أنه يستغرب معناه يعرض نفسه للخروج على إجماع المسلمين ويعرضها الخروج على الإجماع لما في ذلك من خطر حقيقي عليه، لا عند الناس ولكن عند الله:
(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى وينبع غير نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا). فالإجماع واجب الأتباع بالكتاب بهذه الآية على الأقل، ولسنة بعدة أحاديث. على أن كل إنسان في ذات نفسه في قبول ما يقبل أو رفض ما يرفض، فإن ذلك متعلق بقلبه وبعمله هو. هو أمر بينه وبين الله، بل ونرجى له النجاة ما صدق النية لله في ذلك. لكنه إذا بدا يدعو غيره لي ما يشبه أن يكون خروجا على إجماع المسلمين، فإنه عندئذ يعرض نفسه لأخطار لا يقدم على التعرض لها عاقل من الناس.
محمد أحمد الغمراوي