مجلة الرسالة/العدد 782/النزاع بين الروحانية والماديين
مجلة الرسالة/العدد 782/النزاع بين الروحانية والماديين
للدكتور فضل أبو بكر
أثارت ظاهرات الطبيعة فضول الإنسان الأول وراعته عواديها فأطلق لخياله العنان ومن بعد ثم شرع يشحذ من قريحته البدائية وتفكيره الساذج يحاول تعليلا لتلك الظاهرات والوصول إلى حل بعض طلاسم الوجود.
ينشد حلا يروى عاش نفسه الظمأى ووجدانه الحائر، ويرضى في الوقت نفسه ولحد ما كبرياءه كحيوان بلغ درجة من التطور العقلي والجسمي ما جعله يلقب بسيد الخلوقات، وهو لقب ناله بجدارة واستحقاق.
غير أن سيد المخلوقات قد عاش في ظلمات من الجهل، وأسدلت بينه وبين نور المعرفة حجب كثيفة حالكة، ولم يبد أمام ناظره بصيص من نور أو وامض من برق إلا متأخرا جداً بالنسبة لبدأ خلقة كانسان - ولا أقول ككائن حي - كما يحدد ذلك على وجه التقريب علم (الأنثروبولوجيا) وكما تدعم ذلك متحجرات (الجيولوجيا) وحفائر (الأزكيولوجيا)
كان لعهد ليس بالبعيد يعتقد في سطحية الأرض ويظنها بساطا ممتدا إلى ما لا نهاية له بساطا لا حراك فيه؛ وكان جهله بالسماء وشمسها وكوكبها أشد من جهله بالأرض التي يعيش فوق أديمها وذلك إلى أوائل القرن السابع عشر، حتى جاء (حاليلي) (ونيوتن) و (لابلاس) فيما بين منتصف القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر، فأثبتوا كروية الأرض ودورانها حول الشمس وقانون الجاذبية، ونهضوا بعلم الفلك ووضعوا له أسسا وقواعد علمية متينة، كما أسس العالم الفرنسي (لافوازييه) قواعد الكيمياء بعد ما فند آراء القدماء فيما يتعلق بالاحتراق (والتأكسد) خاصة. كما ظهر غيرهم من العلماء، وكان عصرهم هو عصر النهضة العلمية خطا فيه العلم خطوات المارد في جميع فروعه. لقى الكثير منهم تعتتا واضطهادا بل وتعذيبا من رجال الدين ورؤساء الكنائس، وذلك لجمود أهله في ذلك الحين وس وسطحية تفكيرهم وضيق أقفهم؛ كذلك كان العلم والمعرفة في ذلك الحين موقوفين على أهل الدين فاشتد الخلاف ودب الحقد في نفس العلماء كما خرج بعضهمعلى الكنيسة والدين، وأكبر مثل لأولئك الخوارج المرتدين كان العالم الرياضي الفلكي (لابلاس) الذي تشرف بالمثول بين يدي جلالة الإمبراطور نابليون الأول لأبحاثه القمية في علم الفلك ومؤلفه (الميكانيكا السماوية فهنأه الأمبراطور على اجتهاده وقال له مندهشا مستفسراً (أراك لم تذكر شيئا عن الخالق ولم تمجده في جليل صنعه!!) فأجابه لابلاس على الفور (ما كنت يا مولاي في حاجة إلى مثل هذا الغرض) ,
من هنا يتبين لنا الفرق الشاسع بين المسيحية في ذلك الوقت وبين الإسلام فيما يتعلق بتسامحه وسعة صدره إزاء العلماء والفلاسفة الذين لم يلاقوا من رجال الدين تعنتا ولا اضطهادا إلا القليل بل كانوا على العكس محل احترام وإعجاب الكثيرين كما رعاهم الملوك والأمراء ورغما عما أدعاه كذباً وتمويها للحق بعض المؤرخين الغربيين بأن العرب عندما دخلوا الاسكندرية في القرن السابع حرقوا كنوز العلم والفلسفة والفنون من مخلفات الأغريق التي كانت تعج بها مكتبتها الفريدة وتكتظ بها في ذلك الحين؛ غير أن بعض المنصفين من مؤرخهم نفوا تلك التهمة وبرءوا العرب من جناية لم يرتكبوها، وأثبتوا بأن الرومان وحدهم لما دخلوا الإسكندرية في القرن الأول قبل الميلاد هم الذين بددوا تلك الكنوز وعبثوا بنفائسها.
ذكرنا فيما تقدم بأن عهد النهضة العلمية كان حقا العصر الذهبي خطت فيه العلوم والمعارف الإنسانية خطوات واسعة كما تحرر فيه العقل البشري - لحد كبير - من ربقة القيود التي كبلته حينا من الدهر.
تقدم علم الكيمياء والطبيعة والرياضيات والفلك منذ ذلك الحين، وما زالت في تقدم مطرد - تقدما غير وجه الأرض وما عليها وكانت نتيجة ذلك حضارتنا الراهنة التي هي وليدة تطبيق تلك العلوم.
وقد نهض الإنسان بعلمي الطبيعة والكيمياء إلى درجة مكنته من تحطيم الذرة واستخذام القوة الهائلة الناتجة عن ذلك.
قوة - كما يقول علماؤها - إذا سخرت في الصناعة أغنته عن الفحم والبترول وغير ذلك من المواد الخام اللازمة لتوليد القوة وأعطته من الإنتاج أضعافا مضاعفة لما تأتى به تلك المواد، كما أنها إذا استخدمت أداة للحرب والشر عصفت بالعالم ومن عليه وما عليه وجعلته قاعا صفصفا وعليفا مأكولا.
غير أن علم الحياة لم يخط كما خطت تلك العلوم وذلك لتعقيده ووعورة مسلكه شأن كل ما يتعلق بالحياة، فهو لغز الوجود وسر الخالق! فالإنسان المكتشف المخترع لآلات وأجهزة بلغت من الدقة والإتقان شأوا بعيدا، هذا الإنسان عينه نراه في الوقت نفسه عاجزا تمام العجز عن خلق أدنى المخلوقات الحية!! خلق كائن مركب من خلية واحدة مثل (الأميبيا) أو (البكتريا) مع أنه يعرف (تحليلا) وبدقة تامة المواد والعناصر التي تتركب منها ولكنه يعجز (تمثيلا) عن أن يهبها الحياة!!
فلغز الحياة الإنسان بنفسه ككائن حي حير الفلاسفة من عهد سقراط إلى يومنا هذا، وهو ما حدا بسقراط أن يكثر من القول (أعرف نفسك) وهو بيت القصيد من فلسفته والمحور الذي تدور حوله رحاها. وهو هو الذي أعيا الخياموجعله يهرب من ميدان الجدل، ويحتمى بالطاس والكاس يغرق فيهما همومه وحيرته، ويستوحيها لمعرفة السر الرهيب! وهو ما أقلق راحة المعري حيرة وشكا إزاءهما في كروفر؛ فانظر إليه حين يقول:
والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد
ومنها أيضا:
حار أمر الإله واختلف النا ... س فداع إلى ضلال وهاد
يقول هذا وربما يطمئن إلى ما يقول حينا فيعاوده الشك وتنتابه الحيرة أحيانا فيناقض نفسه بنفسه كما يذكر ذلك في شعره وتأملاته، ومن هنا كانت بليته وعذاب نفسه.
وقد روى عنه أنه كان (نباتياً) يعف عن اللحوم ويرى في أكلها قسوة من الإنسان على الحيوان؛ وربما كان سبب ذلك عقدة نفسية ومركب نقص مصدره إكبار الحياة في شخص الأحياء!! الحياة التي هزمه لغزها وأعياه سرها: فالإنسان يكبر - من حيث لا يشعر ولا يريد - ما يدق عنه وما يجهله والمجهول ما هو إلا خصم عنيد تغلب عليك وهزمك تكبره وإن كنت في الوقت نفسه تشعر نحوه بشيء من العداء!!
وقف العالم وأسرار الطبيعة في حيرة من أمرهما بسبب الجدل الدائم المحتدم بين المادتين المسمين أنفسهم بالواقعيين، وبين الروحانيين، وذلك من عهد سقراط إلى يومنا هذا.
وقد كان أكبر حجة للروحانية المثاليين عند الإغريق هو (أفلاطون) بلا شك. وكان يمجد الروح والعقل بقد ما كان يحتفل المادة ويحط من قيمتها. كان يؤمن بخلود الروح ويعتقد بأن الجسد ما هو إلا سجن وقيود وأصفاد تكبلها. والروح - كما يعتقدها - أزلية لا بداية لها ولا نهاية، وقد عاشت قبل أن تحل بالجسم كما ستبقى وتخلد بعد فنائه، وأن جوهر الأشياء وحقيقتها لا يعرف عن طريق الحس والمشاهدة، وإنما الوصول إلى الحقيقة يأتي عن طريق هبة علوية روحانية يمكن تنميتها وترويضها عن طريق الجدل المنطقي والتأمل العميق، وهو ما يميز الفيلسوف - الذي هو لا غيره - القادر المقتدر على حكم الدولة حسب قوانين مثالية توحي بها العدالة ويمليها المنطق السليم.
يشارك أفلاطون في آرائه تلميذه وخليفته من بعده (أرسطو) الذي نجح في تدعيم آراء أستاذه بحجج قوية عن طريق المشاهدة والتجارب، ومن هنا كان أقل مثالية من أفلاطون وأقرب منه إلى الواقعيةوالمادية، كما امتاز أرسطو بآرائه في مسألة التطور التي أولاها الكبير من عنايته. أما عن كبار الماديين عند الإغريق فنذكر أهمهم وكبيرهم (ديمرقريط) الذي كان يعتقد بأن المادة تتكون من ذرات متناهية في الصغر في حركة دائمة سرمدية، وأن تلك الذرات غير قابلة للتجزئة أو التحطيم، وكان يعتقد في مادية الروح وتركيبها من ذرات مشابهة لذرات المادة، كما أن حقيقة الأشياء لا تعرف إلا عن طريق الحس والمشاهدة.
ولما كان يعتقد في مادية الروح فقد نفى عنها الخلود وهاجم آراء أفلاطون مهاجمة قوية يتعلق بأزلية الروح.
ظلت الحرب سجالا بين الفريقين إلى أن ظهرت الديانة العبرية بأحبارها، ومن بعد ذلك المسيحية بقسيسها، وشن رجال الدين من الطائفين حربا ضد الماديين، يستنكرون فلسفتهم ويحرمون تعاليمهم، فأفل نجم الماديين إلى منتصف القرن السابع عشر حيث بدأت النهضة العلمية فعادت إليه إلى الميدان من جديد وأهم الفلاسفة الماديين في ذلك العهد هو بلا شك (اسبينوزا) الذي كان من أصل يهودي برتغالي، ولجأت عائلته إلى هولندا حيث ولد وعاش فيها.
تأثر (اسبيتوزا) لحد كبير بفلسفة (ديكادرت) وألف كتابا شرح فيه آراءه في الفلسفة (والمتافزيقيا) وقد ثار عليه رهبان اليهود وطردوه من حظيرة دينهم على أثر مؤلفه (الدين والسياسة).
وفلسفة (اسبيتوزا) المادية فيها كثير من الغموض، بل والتناقض في بعض الأحيان وهاك ملخصها:
المادة - في اعتقاده - شئ قائم بنفسه له خصائص ومميزات بواسطتها نصل إلى معرفة المادة. أما المادة ككائن - حي أو غير حي - فهذا ما نجهله وهو سر المادة نفسها، ويقصد بذلك المادة الكبرى أي الإله.
الإله - هو المادة والكائن اللانهائي، ولكنه ليس يخالق الكون، وما نسميه بالمخلوقات ما هي في الواقع إلا أنواع مختلفة ومحدودة لمادة لا حد لها ولا نهاية هي مادة الله.
أما الروح فهي في نظره جزء من الجسم وفي وحدة معه، وهي الجزء العاقل الحساس، ورغما عن هذه الوحدة فالروح لا تؤثر على الجسم تأثيرا مباشرا كما أن الجسم لا يكون له مثل هذا التأثير المباشر على الروح، وإنما هناك تحدث تغييرات وانفعالات في الجسم يقابلها ما يشابه ذلك في الروح في نظام وتناسق تام.
ومن أكبر الروحانيين المثاليين في منتصف القرن التاسع عشر، نذكر الفيلسوف (أوجست كمت) مؤسس الفلسفة الإيجابية وهي خليط من الدين والفلسفة والسياسة والاجتماع.
يرى (كمت) أن الثقافة الفكرية يجب أن تكوم مؤسسة على دعائم قوية من الدين والمتافزيقيا والفلسفة الإيجابية، كما أنه يرى من الأجدى لعلماء الطبيعة أن يكتفوا فقط بوضع قوانين لعلومهم ويصفوا ما يشاهدونه من ظاهراتها وما بين ذلك من تشابه وتنافر بدلا من التعمق في معرفة الأسباب والقوة الخفية المؤدية لذلك والتي تدق عن إدراكهم في معظم الأحيان؛ لأن مثل هذا العمق فضلا عن عقمه - يوقع في الحيرة والشك - وهما يفضيان إلى المادية والسلبية.
والخلاصة كما يقول كمت هي أن العقل البشري مهما سما واتسعت مداركه لا يمكنه أن يصل إلى معرفة الكثير من الأسرار والقوى الخفية في هذا الكون؛ ولا يقصد بذلك أن هذا العجز يجب أن يشل من تفكيره ويوقعه في اليأس والاستسلام بل على الإنسان أن يكثر من التأمل ويجد في التفكير وإلا يكون أخفاقة - كما هو الحال مع بعض الفلاسفة والعلماء - سببا لتبرمه بالخالق ونكرانه له. ولنتأمل في قول الخالق نفسه: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) وكما يقول الفيلسوف الإنجليزي (هربرت اسبنسر): (من درس الطبيعة دراسة مستعجلة سطحية أغوته وقادته إلى الشيطان، ومن درسها بتعمق وروية سمت به وأوصلته إلى الخالق).
(باريس)
فضل أبو بكر
بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا