مجلة الرسالة/العدد 782/أساتذة الجيل:
مجلة الرسالة/العدد 782/أساتذة الجيل:
2 - أحمد تيمور باشا
ندوته في درب سعادة
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
(إلى الصديق الكريم، والباحث المحقق، الدكتور محمد سامي الدهان، وفاء بما وعدته من الإفاضة في الحديث عن أولئك الأستاذة الأماثل الذين مهدوا الطريق أمام هذا الجيل. . .)
كانت منازال الكبراء والعظماء وأهل البيوتات لعهد أدركناه، منازل لأهل الفضل من العلماء والأدباء والشعراء، ومجامع للفحول في كل علم وفن، يلتقون فيها كل ليلة أو كل أسبوع، فيتباحثون ويتجادلون، ويسمرون، ويضحكون، ويذهبون في فنون القول مذاهب، فما شئت من حقيقة علمية خافية، أو أدبية رائعة، أو فكاهة حلوة تروى وتحفظ.
وكان الكبراء والعظماء وأهل البيوتات لعهد أدركناه، والعراقة، فكانوا يفسحون لهم في جانبهم وفي منازلهم، ويبذلون لهم من جاههم ومالهم ما وسعتهم القدرة على ذلك، فكانت هذه المجالس هي مجالي التفكير العلمي والأدبي والتدبير السياسي والاجتماعي وليس من شك في أن هذه المجالس قد أثرت في حياتنا الفكرية أكثر مما أثرت (الصالونات الأدبية) في الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر، ولكنها من الأسف لم نجد المؤرخ الذي يدون أخبارها، وبذكر آثارها. .
كانت في دار الأميرة نازلي هانم فاضل ندوة، وفي دار آل البكري ندوة، وفي دار سليمان أباظة باشا ندوة، وفي دار الإمام محمد عبده بعين شمس ندوة، وفي دار آل عبد الرزاق ندوة، وفي دار آل القاياتي ندوة، ولا تزال منها بقية باقية. . . وكان من أحفل هذه الندوات وأعمرها ندوة أحمد تيمور في درب سعادة حيث كانت دار آل تيمور الفسيحة الجنبات المتفتحة الأبواب. . .
ولقد رأيت فيما قدمنا لك أن والد أحمد تيمور باشا قد عكف في آخر حياته على جمع الكتب ومجالسة أهل العلم والأدب في داره، فلما شب الابن جرى على سنة ابيه في هذا، وكانت له به قدوة، ففتح داره لشيوخ العصر وأعلام اللغة والأدب وكل من يمت إلى هذه بسبب، فكان يجتمع في هذه الدار الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده والشيخ محمد بن محمود الشنقيطي والشيخ حسن الطويل والشيخ أحمد أبو خطوة والشيخ طاهر الجزائري والسيد محمد الببلاوي والشيخ محمد شاكر والشيخ حسن منصور والشيخ أحمد مفتاح ويحيى أفندي الأفغاني وحمد أفندي أكمل والشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري، والشيخ عبد الرحمن الكواكبي والسيد عبد المحسن الكاظمي ورفيق بك العظم، والسيد محمد رشيد رضا، ثم كان بعد هؤلاء رعيل آخر من أعلام الأدب واللغة ورجال القلم والصحافة والمستشرفين الذين كانو يتوافدون على مصر للدراسة والتحقيق العلمي والبحث عن المخطوطات النادرة، فكانت ندوة أشبه بجامعة علمية تمت لها كل فروع المعرفة ووسائل الدراسة العلمية والأدبية وامتازت بالتخلص من قيود النظم والقوانين. . .
في هذه الندوة تخرج أحمد تيمور، ودرس وحصل وأفاد، واستطاع أن يقرأ جميع ما جمع من أمهات الكتب ونوادر المخطوطات وأن يعلق عليها التعليقات المفيدة، فبعد أن كان يجلس في هذه الندوة مجلس التلميذ المستفيد أصبح يجلس مجلس الأستاذ المفيد، وأصبح أهل العلم يتوافدون عليه للأخذ عنه والإفادة منه ويرجعون إليه فيما يريدون من تحقيق أدبي أو تعليق لغوي.
لم يدون أحد ما كان يجري في هذه الندوة من المطارحات والمناقشات، ولو جمع هذا التحصل منه علم كثير وأدب كبير، ولكنا نجد تيمور باشا يشير إلى ذلك إشارات عابرة مقتضية فيما كتبه في تراجم أعيان القرن الثالث عشر الهجري، فيقول في ترجمة الشيخ أحمد مفتاح: (ولما انتقل إلى مدارس الأقليم صار يحضر إلى القاهرة في فترات فينزل عندنا، ويجتمع به إخوانه وأصدقاؤه في ليال كنا نحييها بالمطارحات الأدبية وإنشاد الأشعار).
ويقول في ترجمة أستاذه الشيخ حسن الطويل: (ومن غريب المصادفات أنه زارني قبل وفاته بيومين في ليلة مقمرة، فجلسنا في صحن الدار نلعب الشطرنج، وكان مولعا به مع قلة إجادته فيه، فقال لي عندما أراد الذهاب: نحن الآن في الامتحانا وقد قربت الإجازة، وصدري ضيق في هذه الأيام من الناس، ونفسي تجنح للعزلة، فهل تعرف لي مكانا أقضي فيه بعض أيام بعيدا عنهم؟ فقلت: يا سيدي. إذا انتهى الامتحان فالأوفق أن نسافر معا إلى ضيعتنا التي بقويسنا فنخلو فيها بكتاب نقرؤه، فقال: نعم الرأي هذا، وسأستصحب معي ولدي حسنا ليشترك معنا في القراءة. ثم لم يمض يومان حتى نقله الله إلى جواره، ويسر له العزلة ولكن في دار قراره).
ويظهر أن ندوة تيمور لم تكن لها ليلة معينة في الأسبوع، بل كانت مفتحة الأبواب دائما، وكان إخوانه يجتمعون به كل ليلة وكل وقت يروق لهم، فهو يحكى عن نفسه أن أستاذه الشنقيطي أشار عليه بقراءة أمالي أبى على القالي قراءة إمعان وتدبر، فاعتزل الناس ثلاثة أيام لهذا الغرض، فلم ترق هذه العزلة صيقه محمد أفندي أكمل فعاد إليه بعد الأيام الثلاثة ومعه زجل ينحى فيه على الشنقيطي وعلى أبي علي القالي اللذين تسببا في انقطاعه عن الإخوان وفيه يقول:
يا سيد احمد يا تيمور ... يا للي منعنا منأنسك
هو ودادك من بنور ... حتى كسرته من نفسك
أهديك سلام يشحن وابور ... يقطع محطات على حسك
هو الكتاب ده م الجنة ... ولا كلام المجريطي
أبو علي كان لك محنة ... الله يجازي الشنقيطي
بكره يجينا الشيخ مفتاح ... يحلى السهر في القماري
نفضل ندردش للأصباح ... والشيخ بروحه مؤش داري
عبيط خفيف عالم فلاح ... بجوز شوارب هوارى
أوقات كده يبقى زنه ... وأوقات نشوفه رهريطى
أبو علي كان لك محنة ... الله يجازي الشنقيطي
وهو زجل طويل، وكله على هذا النحو من الطرافة والدعابة، وقد أورده جميعه تيمور في كتابه أعيان القرن الثالث عشر.
ويحكى تيمور باشا في ترجمة محمد أفندي اكمل أيضا فيقول:
(وأطلعته على رسالة عندي جمعها الشيخ أحمد الفحماوي وذكر بها كنى وألقابا وضعها لفضلاء أواخر القرن الثالث عشر على سبيل المزاح والدعاية، فلقب كل واحد بلقب شاعر متقدم أو رجل مشهوريوافق اسمه هيئة الملقب به أو شيئا يغلب على أخلاقه وأحواله، فلما اطلع المترجم عيها جن بها جنونا وشرع في وضع رسالة تماثلها في فضلاء عصره، وسألني مشاركته فيها فامتنعت خشية اللوم فانفرد هو بتاليفها وأنى فها بغرائب، فمن ذلك تلقيته للعالم الفاضل على رفاعة بابن المقفع لنحافته ودخول شديقه، وتلقيه للعالم الفاضل يحيى افندي الأفغاني بالقدوري لغرابة شكله وقصر ساقيه تشبيها له بالقدر من الفخار، والقدوري اسم عالم مشهور من الحنفية، ولقب نفسه بابن قتيبة، ثم تركه وتلقب بالمقوقس، ولما لقب صاحبنا وصاحب الشيخأحمد مفتاح لسلامة طويته بالأبله البغدادي غضب منه، وكاد يتفاقم الشر بينهما، وغضب منه صاحب آخر وكان قصيراً ممتلئا يتدحدح في مشيته كما يتدحدح البط لأنه لقبه بابن بطوطة). .
وهكذا كانت ندوة تيمور باشا مجالا للمداعبات الأدبية والفكاهات الطريفة بين الأصدقاء والإخوان كما كانت مجال علم وأدب، ودراسة وتحقيق.
(له بقية)
محمد فهمي عبد اللطيف