مجلة الرسالة/العدد 782/آثار الملوك والسلاطين المصرين بمدينتبي القدس
مجلة الرسالة/العدد 782/آثار الملوك والسلاطين المصرين بمدينتبي القدس
والخليل
للأستاذ أحمد رمزي بك
روى عن أنس مالك أنه قال: (إن الجنة لتحن شوقا إلى بيت
المقدس، وبيت المقدس من جنة الفردوس)
مقدمة
لملوك مصر وسلاطينها اليد الطولي في إنشاء المباني العالية بمدينة القدس، إذ لهم المدارس والمساجد وبيوت العلم والرباطات والحصون التي بنوها وأنفقوا عليها من أموالهم وحبسوا على خدمتها الأوقاف ورصدوا لوجوه الخير والأموال والضياع والعمائر مما لا يصدقه الجيل الحالي.
ذلك لما حباهم المولى تعالى من بسطة في الملك والعظمة، ولما رزقهم من نصر يتبع نصرا، ولما اشتهروا به من أنهم خدام الحرمين الشريفين بمكة والمدينة، وسدنة الحرمين الشريفين بالقدس والخليل. والمتتبع لهذه الحقبة من الزمن يقف حائرا أمام عظمة تلك العهود وأمام عظمة هؤلاء الملوك، وتأخذه الحيرة لماذا أخفى الناس تلك الأيادي البيضاء؟ وما الحكمة في تناسي ماض لنا هو جزء منا لا أقول يكمل شخصيتنا، بل أذهب إلى أكثر من ذلك فأقول هو أكبر مظهر لمصر الإسلامية العربية وأثرها في تاريخ العالم.
عود إلى الماضي:
كان ذلك في نهاية عام 1935، هو أول عهدي بفلسطين، حين دعيت إلى العشاء بمنزل المندوب السامي البريطاني، الجنزال السير آرثر ووكوب، فجاء مكاني بجوار المستر ريتشموند مدير مصلحة الآثار، وتناول برفق عدة مسائل تمت بصلة إلى التاريخ والآثار، وعرض لهبة روكفلر التي رفضتها مصر، فقبلتها فلسطين، ورأى في هدوءا واستماعا ورغبة في الاستزادة من علمه، فدعاني لزيارته في متحفه، وكنت مأخوذا بالتعرف إلى الآثار المسيحية، وقد وضع النائب البطريركي للروم الأرثوذكس برنامجاً لي، فرأيت أ أحدثه في ذلك وأن أستعرض معه بعض ما لديه من التحف مما يمت إلى العصور المصرية القديمة. وهنا طفق يحدثني بطلاقة عن دهشته من الثروة الإسلامية التي أنشأها ملوك مصر في أنحاء فلسطين، وما خلفوه فيها. وكنت أنصت لحديثه وهو يقول: إن مصير هذه الآثار إلى الزوال إذا لم تتداركها عناية حكومية إسلامية قوية مثل مصر. وإني لدهش من موقفكم، تقيمون الدنيا لاكتشاف حجر قديم فرعوني، وتنسون ماضيكم القريب. لكم المدارس والمساجد والقباب مما يشهد لملوككم وأمرائكم بحسن الذوق وعظمة النفس وعلو الهمة في تذوق الفن، وتتركون كل هذا وكأن الأمر لا يعنيكم؟
وكنت أجهل الكثير مما يقول ولا أعرف من أثارنا سوى مدرسة قايتباى، فأخذت في إشباع نفسي المتطلعة إلى الاستزادة من المعرفة، وقلت إذا نظر الناس إلى الماضي نظرة تقديس وإلهام، فلم لا أنظر إليه نظرة الباحث المتعلم؟
إن الثمن الذي سأدفعه قد يكون غالبا، إذ أحدث الناس من قومي بما لم تسمعه آذانهم: وقد يتخذ الذين لا يؤمنون بشئ أقوالي هزوا لهم، لأني أحدثهم بما لم يألفوا، ولأني اضع للناس قيما جديدة لبعض الأشياء التي لم يؤمنوا بها ولن يصدقوا بعظمتها وكان أهم ما لدى أن أومن أولا بعظمة ماضينا الإسلامي وأن أعيش فيه، وقد كان ولا يزال مهما غلا الثمن ومهما كانت التضحية فإنه من أسعد الأوقات أن أشيد بهذا الماضي، وأن انتهز الفرص للكتابة فيه. وليس أسعد من أن يسمع العالم انتصار جنود العروبة على عصابات الصهيونية وإخراجهم من داخل مدينة القدس القديمة، فإن هذا النصر جعلني أحن إلى القدس، وهي مدينة من أحب مدن العالم إلى قلبي، ولذلك يلذ لي أن أكتب شئيا عنها في هذا الأيام التاريخية، وأعيد قيم الأشياء كما كانت؛ فأرجو ألا يحمل كلامي على غير ظاهره، أو أن يؤخذ بأنه يرمى إلى أهداف سياسية. لقد عاشت مصر والشام سويا أكثر من ثمانية قرون، وعلى صعيد هذه الأرض كتب أسلافنا بدمائهم قصص الملاحم الكبرى وذاقوا طعم النصر، كما أنشئوا أعظم ما يمكن تصوره من المباني، تقربا إلى الله ولخدمة هذا الدين الحنيف، وكان عامل الخير وحب الناس طابعهم، وكانت تستوقهم عاطفة خالصة نحو هذا، لذلك نجحوا حيث أخفق الغير: فإذا كتبت أشير إلى هذا الماضي العظيم فإنما أدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
سلسلة من أعمال الخير والإنشاء:
كان ولا يزال للمسجد الأقصى ولمسجد الخليل إبراهيم المقام الأسمى في نفوس المسلمين. ولذلك اعتنى بهما ملوك مصر من عهد الملك الناصر صلاح الدين والدنيا يوسف بن أيوب الذي أتم الله فتح القدس على يديه؛ فإنه اتخذ سنة عمل الخير والعمارة، واتبع سننه من جاء بعده من ملوك بني أيوب.
وفي عهد الدولة التركية من الأمراء البحرية بعد أن اتسعت الفتوحات وتوالت الانتصارات تردد أسم الملك الظاهر بيرس كأعظم القواد العالميين وشبه باسكندر الزمان، وكان أكبر البناة والمنشئين أفرد له الأستاذ كريسويل العالم المشهور كتابا عن آثار بمصر. أما في فلسطين فقد ذكر صاحب الأنس الجليل - قاضي القضاة أبو اليمن مجير الدين الحنبلي رحمه الله - أنه اعتنى بعمارة المسجد الأقصى وجدد فصوص الصخرة الشريفة التي على الرخام، وعمر الخان الكائن بظاهر القدس الشريف من جهة الغرب إلى الشمال المعروف بخان الظاهر، ونقل إليه باب قصر الخلفاء الفاطميين، ووقف عليه نصف قرية لفتا وغيرها من القرى.
ولقد كانت أكثر قرى دمشق وأراضي البقاع داخلة في أوقاف الظاهر الذي لم يترك بابا لفعل الخير إلا طرقه وحبس الضياع على ائمة المسجد الأقصى، وعلى تفرقة الخبر وإصلاح حال النازلين والآتين للزيارة من مختلف الجهات.
وفي أيام الملك المنصور قلاوون تمت عمارة سقف المسجد الأقصى من جهة القبلة مما يلي الغرب، وتم إنشاء الرباط المنصوري المشهور بباب الناظر، وهو رباط كان في منتهى الحسن والبناء المحكم، هذا غير الإصلاحات التي اتمها المنصور بالحرم الخليلي وغير الرباط والبيمارستان اللذين أنشأهما هناك.
أما ابنه الملك الأشرف المدفون على مقربة من مقام السيدة نفيسة فقد كان من أعظم الملوك حتى إنه على بديه أتم الله فتح البلاد الساحلية وإنهاء الحروب الصليبية، وفي عهده تم عمل فصوص الصخرة الشريفة التي بدأت منذ أيام الملك الظاهر، وجدد عمارة السور الشرقي المطل على مقبرة باب الرحمة.
وفي أيام الملك المنصور لاجين جددت عمارة محراب داود الذي بالسور القبلي عند مهد عيسى عليه السلام بالمسجد الأقصى.
ثم جاء العهد الناصري، أي حكم الناصر محمد بن قلاوون الأخير الذي استمر حتى وفاته، وكان وزيره بالشام الأمير الكبير تنكز وهو الذي قيل في محاسنه:
إلا هل لليلات تقضت على الحمى ... تعود بوعد للسرور منجز
ليال إذا رام المبالغ وصفها ... لشبهها حسناً بأيام تتنكز
وهو الذي له المنشئات العظيمة بمصر ودمشق والقدس وبيروت، وله الأيادي البيضاء حتى مدينة ملاطية في الشمال حيث أراضي الجمهورية التركية. ففي عهد ولايته عمر السور القبلي بالقدس ورخم صدر المسجد الأقصى ومسجد سيدنا الخليل ابراهيم، وتم فتح شباكين بالمسجد الأقصى، وجدد تذهيب القبتين قبة الصخرة وقبة المسجد الأقصى. ويقول صاحب الأنس الجليل: ومن عجب أن تذهيب قبة الصخرة كان قبل العشرين والسبعمائة، وقد مضى عليه إلى عصرنا هذا أكثر من مائة وثمانين سنة وهو غاية الحسن والنورانية، ومن رآه قضى أن الصانع قد فرغ منه الآن.
ويطول بنا البحث إذا ذكرنا عمائر تنكز كلها في القدس فهي كثيرة متنوعة فيها بناء الأبواب والقنوات وأهمها إيصال المياه من بركة السلطان بظاهر القدس إلى المدينة وهو عمل هندسي عظيم، هذا غير أعمال الترميم في الأسوار والقلاع والحصون والأبراج.
وقد نقشت كل هذه الأعمال على الرخام والحجارة وعليها تاريخ عمارتها. لقد كان عصراً فذا لا يعادله في المعمار عصر من العصور.
ولما ولى السلطان برقوق العرش أراد أن يسير على غرار من تقدمه من ملوك بيت قلاوون فأخذ في عمارة بركة السلطان وأنشأ دكة المؤذنين تحت قبة الصخرة تجاه المحراب للمبلغين، ووقف الضياع التي كان يملكها بناحية نابلس على سماط سيدنا الخليل وشرط ألا يصرف ريعها إلا على السماط الكريم: وأخذ بسنة الملك الظاهر بيبرس فكتب نص الوقفية على باب مسجد الخليل إبراهيم كما كتب الظاهر ومن جاء بعده نصوص الأوقاف على أبواب المساجد فلم يغن ذلك شيئا بل نزعت الأملاك المرصودة لعمل الخير وتداولتها الأيدي، ولم تحمها القوانين الوضعية كأملاك مرصدة للمنفعة العامة فلا يصح تملكها أو وضع اليد عليها ولله في خلقه شئون.
مؤلفات العصور الماضية:
ذكر صاحب مسالك الأبصار، أن الصاحب تاج الدين أبو الفضائل أحمد بن أمين الملك، ألف كتابا سماه (سلسلة المسجد في صفة الصخرة والمسجد).
ولا أدري هل أبقى الدهر على هذا المؤلف أم ذهب مع الزمن. والذي يظهر مما أورده صاحب مسالك الأبصار نقلا عنه أن المؤلف لم يترك شاردة من غير أن يأتي بها. وإني لدهش من موقفنا إزاء ماضينا؛ فهذا يكتب عن المسجد الأقصى في حوالي سنة 743هـ، وهذا يقصر عنه الكثيرون، وتعيش نحن في القرن العشرين وقد ملأ أنصاف الرجال الدنيا بدعايتهم عن أنفسهم، ولا نجد بين أيدينا كتابا يعرفنا بالمسجد الأقصى. فلنسر معه قليلا: نجد في كلامه عن قبة الملك المعظم (وبقصد بها جزءا من المدرسة المعظمية) أنه يقرر أن دروس النحو كانت تقام بها، وأن عدد طلبتها كان خمسة وعشرين نفراً من الحنفية؛ وهي من عمل ملوك بني أيوب العظام. وفي كلامه وصف دقيق للرباط المنصوري والأبواب والشبابيك التي بالحرم. ثم انظر إليه حيث يقول:
(لقد مضى على في مجاورة هذا الحرم الشريف الفصول والأربعة، فرأيت له في كل فصل محاسن في غيره لم تجمع، وهو أنه من مبدأ فصل الربيع تبدو فيه من الأزاهر المختلفة الألوان ما يستوقف بحسنه الذكي الأروع، وكل أحد ممن له معرفة بالأعشاب يأتى إليه ويأخذ من تلك الأزاهر ما علم منفعته ومضرته).
ومن حديثه يتبين أن هذا الحرم الشريف والقبة والصخرة، لم تعدم اهتمام أهل الخير من مختلف الناس، فهذا الأمير علم الدين سنجر الجاولي ينشئ مدرسة باسمه، وهذا عالم من العلماء أو تاجر عظيم يتبرع من ماله، وينشئ بئراً أو سبيلا أو باباً، أو يهدي مصحفا أو قنديلا.
ومن قبيل ذلك ما أورده صاحب الأنس الجليل: من أن سلاطين بني عثمان وغيرهم من ملوك المسلمين، شاركوا سلاطين مصر قبل الفتح العثماني في الاهتمام بالمسجد الأقصى: فقد حصل السلطان مراد بن محمد بن بايزيد على ترخيص ملوك مصر بإقامة قراء يقرأون والقرآن في مصحف مهدي منه إلى الصخرة.
وكان بنو قرمان من ملوك التركمان بأرض الروم فحصل فهم السلطان إبراهيم على إذن بالقراءة في الصخرة.
هدايا الملوك:
ولو تتبعنا هذه الهدايا لاتسع بنا البحث ولذا نكتفي بما جاء من حسنات الملك الأشرف ابتاك ملك مصر الذي بعث بالمصحف الكبير الذي وضعه بالمسجد الأقصى تجاه الشباك المطل على عين سلوان، وأوقف له قارئا ورتب ما مقداره ألف ومائتا أردب ترسل سنويا قيمتها أربعة آلاف دينار وثمانية دنانير.
ثم توالت الخيرات والهدايا في أيام السلطان أبي سعيد خشقدم المؤيدي إلى أيام الملك الأشرف قايتباي وفي عهده كان ناظر الحرمين الشريفين الأمير ناصر الدين محمد بن النشاشيبي جد الأستاذ الكبير إسعاف النشاشيبي رحمه الله.
وجاء السلطان إلى القدس مرتين وأقام بها وأنشأ وعمر مما يجعل لرحلتيه إلى الديار الشامية أهمية وروعة تشجعاني على أفراد كلمة خاصة بهما.
أحمد رمزي