انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 771/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 771/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 04 - 1948



تضحية أم

للأديب عبد القادر صادق

(روى لي هذه القصة شيخ جليل زار الشرق الأقصى للتبشير) (الكاتب)

تشرف على المحيط الباسفيكي مدينة جميلة تسمى (أوزاكا) تمتد في جنوبها سهول فسيحة مترامية الأطراف، مبتدئة من ذلك الكوخ المتواضع، تحيط به أشجار باسقة عارية من الأوراق، أو مكتسية بها.

في أمسية من أمسيات الخريف الكئيبة لعام 1904 واليابان قد أعلنت النفير العام، إذ تأزم الخطر عليها، وأحدق بها أعداؤها الروس من الشمال الغربي؛ راح الشبان يتقاطرون زرافات ووحداناً على مكاتب التسجيل ما بين نداء الوطن. في هذه الأمسية الكئيبة، وفي هذا الكوخ البعيد عن البلدة؛ جلست الأم (شيحار) مساهمة مشردة الخواطر، موزعة الأفكار، تحيك بيديها جورباً من الغزل، على عادتها، من يوم أن توفى زوجها وترك لها ولداً في التاسعة من عمره. لقد مضى على الأم عشرة أعوام، وهي ما تزال تجد في حياكة الجوارب طوال النهار وطرفاً من الليل، لتوفر لولدها شئون الحياة وأسباب العيش، وهي تتعهده بالرعاية والعناية، ساكبة عليه كل ما في الأمومة من حنان. وكان الموقد أمامها، والنار تئز فيه أزيزاً أشبه بالوسوسة، فتبعث لها بالدفء والإيناس؛ إنها لتنتظر خبر ولدها (فوزاكي) ذلك الشاب الذي ذهب لتسجيل اسمه في عداد المجندين؛ وإنها لتتخيله، وهو الشاب الفارع القامة، المفتول العضد، القوي البأس، بالبزة العسكرية متقلداً سلاحه، وهو يشق خطوط الأعداء ويقارع كوارث الحرب، متفوقاً في فنون النزال والضرب، تزين ساعده الأشرطة العسكرية، وتملأ صدوره الأوسمة والأنواط البراقة. . .

ويقطع عليها هذا الحلم اللذيذ دخول ابنها (فوزاكي) والوجوم يغشى سحنته، والحزن يسيطر عليه، فتهب إليه الأم لتتلقاه متلهفة، تريد أن تضع في تقبيله كل حنانها لخبره السار في أن يكون من عداد المجندين، ولكنها ترتاع لمرآه الواجم وهو يأخذ يدها بين يديه، كأنه ينشد منها المعونة والعزاء، ومتجهاً بها إلى الموقد:

- أماه! ما أمر خيبتي عند ما علمت لجنة التسجيل أني وحيدك، وأن ليس من يقوم على رعايتك سواي. . . ولما اعترضت على ذلك أجابوني بأن القانون لا يسمح لأمثالي بالتجنيد. . وكان بينهم رجل وقور الشيبة، جليل الهيبة، رأف بحالي وتقدم نحوي وهو يقول: لا تحزن يا بني، إن خدمة والدتك نوع من خدمة بلادك. وقد ظن أنه بذلك يستطيع تعزيتي وتبديد خجلتي، وأنا أنظر إلى رفاق طفولتي في المدرسة ولداني في المعمل وهم يرتدون البزات العسكرية. . لست أنكر أنني وحيدك، ولكن أما كان الأجمل لك والأجدر بي، أن أكون مدافعاً ومانعاً ضيم العدو لنا واستعباده لبلادنا فينصرف كيفما شاء بأرضنا ومالنا ونسائنا؟!. .

لا يمكن أن أتصور يا أماه شماتة الناي بي، ونفورهم مني وهم يشيرون إلي بسخرية قائلين: هذا الذي تخلف عن خدمة بلاده والذود عن حياضها. . يا لسقوط همته، ويا عالته على أمته! لئن تطوني الأرض بين طياتها، أحب إلي من سخريات الناس وشماتتهم. وإني لأشعر في أعماق قلبي العزم، وفي غليان دمائي البأس، يدفعانني لأن أحيا لبلادي وأموت لبلادي، وأن أحظى بشرف الجندية، حيث يشرفك هذا يا أماه! وتشرف بلادنا بالعزة والكرامة فتقضي على مطامع أعدائها. . .

كانت أمه ما تنفك حديثه تنقل طرفها الوامق بين شفتيه ووجهه الحزين، وقد أخذت رأسه بين يديها وراحت تواسيه:

- نعم ما قال هذا الرجل العطوف النصوح يا بني: أن خدمة والدتك نوع من خدمة أمتك؛ ولكن هل هناك مانع من أن تقوم والدتك بخدمة بلادك؟؟. . .

فرفع بصره إليها، ليعي ما تقول. . ولكنها راحت تتابع حديثها، متجاهلة دهشته ونظرات عينيه المستفهمة، وكأنها مصممة على أمر ما، وأناملها ما تزال تعبث بخصلات شعره الجميل؛ ثق يا بني بأنك ستكون في خدمة بلادك وستتقدم رفاقك. . . ولكن قل لي: ألست بجائع؟ أجل! أنت جائع، لاشك أنك جائع!!. .

وانفلتت نحو صوان الأكل؛ فشيعها بنظرات الوامق البار، وهي تسير بخطوات وئيدة رزينة مولية له ظهرها، ولمعت لعينيه شعرات الشيب كأسلاك من النور الساطع عندما ضاحكتها رقصات ألسنة اللهيب من الموقد وحطت على عقصة شعرها الملتفة: يا لي من أحمق! كيف لم ألحظها من قبل؟ هكذا قال لنفسه، وقد ارتد رأسه إلى راحتيه، وساورته الهموم ولكن سقطة جسم على الأرض ردته إلى صوابه. . يا لهول ما رأت عيناه!. . أمه المسكينة مضرجة بدمها المتدفق. . المدية مغروسة في صدرها؟!. .

فملكته روعة المشهد الأليم، وأخذته الحيرة فما يستطيع أن يهتدي لعمل ينقذ به أمه. . .

وتقطن أمه إلى ما يريد فنقول

- لا لا يا (قوزاكي) لا تحاول إنقاذي، ولا تستدع أحداً. . فكر في إنقاذ بلادك، في أمك اليابان لا أمك (شيحار)!. .

لن أكون حائلة بين إشباع عواطفك الجائعة لخدمة بلادك، ولن أكون السبب في خيبتك وخجلتك بين أبناء قومك. . لن أحرمك شرف الجندية، ولن أحرم اليابان خدمة أبنائها. .

لقد رعيتك للبلاد فأنت ملك لها، ولست ملكاً لي، ففي سبيلها ما دعيت. . . سر على بركة الله، وإلى الأمام بالرعاية والعناية والكرامة. .

وتأخذها سكرة الموت وهي تجالده، آخذة أنفاسها بعسر ومشقة. وقد بدا على وجهها نور سماوي لست تلقاه إلا على وجوه القديسين والأولياء والصالحين من دنيانا، وراحت تقول متممة رسالتها. . .

وهناك في السموات العلى، ألتقي بك وقد رويت عواطفك الملتهبة، وقد تكللت بلادنا بالعزة والنصر. . . هناك أتلقاك لأتابع العناية بك. . .

وأطبقت أجفانها لتتابع الحلم اللذيذ. . في مجد اليابان وفي فتاها البطل العزيز.

(دمشق)

عبد القادر صادق