مجلة الرسالة/العدد 740/مع ميخائيل نعيمه في (زاد المعاد)
مجلة الرسالة/العدد 740/مع ميخائيل نعيمه في (زاد المعاد)
للأستاذ مناور عويس
(غداً ستغمرنا لجة العدم بأحزابنا وأوصابنا، بجائعنا ومتخومنا، بفقيرنا وموسرنا، بوجيهنا وحقيرنا، وستقوض الأيام أركان ما شدناه من البنايات السياسية والاقتصادية فلا يبقى إلا الخالد والجميل والحق فينا. . . ومن ذا الذي يبقى ليخبر عن الخالد والجميل والحق فينا أن لم يكن ابن الأدب والفن؟!)
(نعيمه)
لك الله يا ميخائيل كم لك على من يد بيضاء!
في الثالث والعشرين من حزيران سنة 1947 فجعني الموت بابن أخي (جمال نوري عويس) فرحت التمس العزاء في الشعر العربي القديم منه والحديث - فقد كان الأدب وما زال هو الملجأ والمعاذ الذي أهرب إليه في الأزمات والملمات - فماذا وجدت؟ وجدت شعراً مفجعاً مؤثراً غير أنه فردى لا يصلح لكل إنسان ولا يسمو به فوق المكان والزمان، اللهم إلا رائعة رهين المحبسين الخالدة وهل أعني سوى (غير مجد)؟.
وإذا بيدي تمتد إلى (زاد المعاد) فأفتحه وإذا بي أقع على هذه الآيات في الموت والحياة:
(وعندي أن من ينوح على ميت إنما ينوح على الله، ومتى كان الله في حاجة إلى نوحكم ونوحي؟ أو ليس الله حيا من الأزل وإلى الأبد؟ إذن كل ما ينبثق منه يحيا بحياته مهما تبدلت أحوله وكيفما تغيرت أشكاله، والذي يقول أن الأموات بادوا واندثروا إنما يقول أن الله الذي كان وما يزال حياً فيهم قد باد واندثر.
والذي يؤمن بأن الموت رب الحياة أحرى به أن يعبد الموت ويكفر بالحياة، والذي يبصر في الموت نهاية الحياة إنما هو ضرير لا يبصر الحياة ولا الموت!. . .
فما بالنا ونحن الذين حصرنا الزمان بين المهد واللحد نقبل على المهد ونهرب من اللحد، وما المهد إلا طريق اللحد وبابه؟!
ما بالنا نلثم اليد التي كتبت ونعض اليد التي خطت الخاتمة، واليد التي خطت الخاتمة هي عين اليد التي كتبت الفاتحة؟ أن تكن خاتمة العمر شراً فالفاتحة التي تؤدى إليها شر مثلها. وإذا ذاك أحرى بنا أن ننوح على من يولد قبل أن ننوح على من يموت.
أتروني أكلمكم بالأحاجي؟ وبماذا عساني أكلمكم أن لم يكن بالأحاجي؟ وتقاليد الناس قد جعلت من وجودهم سلسلة كل حلقة فيها أحجية؟ أجل. إنها لأحجية أن تفصل بين الحياة والموت وهما متصلان اتصال النهار والليل، واليقظة بالمنام، والزهرة بالثمرة، وقطرة الطل بقطعة الجليد. إنها لأحجية أن تميت نبات الأرض وطيرها وحيوانها لتحولها لحماً في جسدك ودماً وعظاماً وأن تدعو موتها حياة وعندما تحول الأرض جسدك نباتا وطيراً وحيواناً أن تدعو تلك موتاً لا حياة! إنها لا حجية أن تأكل الموت في كل ما تأكل وتشربه في كل ما تشرب وتلبسه في كل ما تلبس. وأن تنام وتقوم وإياه. وأن تشتهيه في كل شهوة من شهواتك. وأن تباركه في كل ذلك باسم الحياة. ومن ثم أن تلعنه عندما يأكلك ويشربك ويلبسك ويشتهيك!. . . الخ.
قرأت هذه الآيات التي تزخر بالإنسانية والفلسفة والشعر والمنطق فإذا بي أحس بدبيب التعزية يسري في نفسي وإذا بالثورة التي كانت تعتلج في روحي قد استحالت هدوءاً وسكينة واستسلاماً فخرجت بالنتيجة الآتية:
إن الأدباء صنفان: صنف يرهقك بآرائه وآراء غيره الجافة التي تعتمد على البحث والاستقراء دون أن يعطيك شيئاً من روحه ووجدانه، وصنف يقدم لك روحه ووجدانه طعاماً شهياً بأسلوب سهل واضح لا غموض ولا أنانية فيه. ومن الصنف الثاني شاعر الإنسانية الشاملة، شاعر المحبة، شاعر الحياة وكاتبها الكبير الأستاذ ميخائيل نعيمه!. . .
فأنت تقرأ حين تقرأه فلسفة عميقة ومنطقاً سليما وأدبا رائعاً دون أن تحس بإرهاق في عقلك أو توتر في أعصابك، فأنت معه في بستان حافل بكل ما يعجب ويطرب ويلذ. . .
فبينما ترى الصنف الأول من الكتاب يمتدح من معين غيره ترى الصنف الثاني يستقي ويسقى من نفسه وروحه، ومن يستوح نفسه يستوح أرواح الناس جميعاً؛ الأول يكتب في كل شئ ولا يكتب في شئ؛ الأول بحاثة والثاني صاحب رسالة، الأول تقرأه مرة وقل أن تحس بحاجة للرجوع إليه، والثاني لا تستغني عنه لأنه منك وإليك!. . . الأول أناني محدود الآفاق، والثاني واسع شامل عميق كالحياة، الأول يشبه البركة الراكدة، والثاني يشبه الأوقيانوس!
فالأديب الذي لا يكفكف عبرة، ولا يكشف غمة، ولا يحل عقدة هو أدب حظه من البقاء قليل ونصيبه من الخلود هزيل. . . .
قدر لي أن أنشأ نشأة ريفية صميمة، فقد تفتحت عيناي على تلك الجبال التي تغزل بها سليمان في نشيده الخالد: (شعرك كقطيع الماعز الرابض على جبال جلعاد) هذه الجبال جبال جلعاد أو جبال عجلون - كما تدعى اليوم - هي مجلى هواي ومرتع صباي. . . . كنت أفارقها - مرغماً - العام والعامين - طالباً أو مسترزقاً - وأعود إليها مستروحاً مستجما - لاغتسل من أدران المدينة وأتطهر من أقذار المدينة، ولقد كنت أشعر شعور الحاج أقبل على الأماكن المقدسة، فمن مشاعر غريبة مبهمة وأحاسيس غامضة من الحنين والشوق والحب والشعر والدين، إلى عواطف متضاربة من الفرح والحزن، والعبوس والابتسام.
كنت أقف إزاء هاتيك الجبال الأزلية، التي شهدت فجر الخليفة وستشهد غروبها، خاشعاً مبهوتاً، وأهبط إلى تلك الأودية العميقة الرهيبة فأحس بحاجة ملحة إلى السجود والتعبد، كما كنت أشعر بإشراق في روحي وفرح وحشي في قلبي لا يعرفه إلا ابن الطبيعة، الذي ألف ولولة الرياح وهزيم الرعد وانفجار الصبح ولمع البروق!. . . ولطالما أحسست وأنا أسير بين تلك الجبال الحبيبة التي عرفت طفولتي وصباي وشهدت ملاعبي وهواي بالحاجة إلى نظم الشعر أو كتابة النثر فكانت تعجزني الأداة وغلبة الإحساس الطاغي على التفكير والتركيز، فتسيل عواطفي من عيني، وتستحيل الفكرة في رأسي إلى نوع من الشرور والذهول، ولست أدري أكانت دموعي دموع الفرح بعد طول الفراق، أم دموع الأسى على هاتيك الأيام والليالي التي بددتها فذهبت إلى غير رجعة؟
ظل ذلك شأني إلى أن قرأت هذه الآيات من خطاب (نعيمه) إلى أبناء بلدته (بسكنتا) إثر عودته من أمريكا:
(يا أبناء بسكنتا يا لحمي ويا دمي!
منذ عشرين عاماً أدرت وجهي إلى البحر وظهري إلى صنين واليوم صنين أمامي والبحر ورائي. وأنا بين الاثنين كأني في عالم جديد وكأني ولدت ولادة ثانية.
ما أنا بالنبي يضع العجائب، غير أني منذ عدت إليكم والعجائب تكتنفني، فكأنني في عالم مسحور. أنظر إلى الجبال التي كنت أتسلقها فإذا بها تتسلقني! وإلى الأودية التي كنت أهبط إليها وإذا بها بهبط إلى أعماقي! وإلى البساتين والكروم والحقول التي كنت أتمشى فيها وإذا بها تتمشى بين جنبات ضلوعي، وكأن كل غرسة فيها غرست في داخلي. وكأن كل يد تعمل في ترتيبها تعمل في تربة نفسي!. . .
أكاد لا ألمس حجراً إلا تفجرت منه سيول من الطهر والجمال! أكاد لا أسمع زقزقة عصفور إلا سمعت فيها أجواقاً من الملائكة ترنم بصوت واحد (قدوس. قدوس قدوس.!) أكاد لا أرفع بصري إلى نجم إلا تدلت منه سلالم سحرية. هي سلالم المحبة التي تربط كل ما في السماء بكل ما على الأرض!. . .
ومن ثم فكيفما انقلبت تجمهرت على ذكريات ما كان من حياتي قبل هجرتي. فهي تثب على من جوانب الطرق، وشقوق الصخور، وخطرات النسيم، وقطرات عيون بسكنتا الكثيرة) فأي امتزاج في الطبيعة هذه الأمتزاج؟ وأية صوفيه، وأية روحانية تطالعا بك من هذه الفقرات؟!
إن الشعور الطاغي الذي كان (سديماً) في صدري قد جعله نعيمه شموساً وأقماراً وأرضاً، والأفكار المشوشة، والحنين المبهم والشوق المحرق، قد حوله نعيمه بمقدرته الفنية إلى أدب رفيع وفن رائع!
إن ما كنت أحس بالرغبة للتعبير عنه لا أستطيع إليه سبيلا بغير الصمت والخشوع والدموع، قد عبر عنه نعيمه بأسلوب الملهمين وأصحاب الرسالات الروحية الخالدين!
فالكاتب الذي ينطق بلسانك ويشرح ما يكنه جنانك هو أديب وأي أديب!. . .
والأديب الذي يجد الناس في أدبه بلسما لجراحهم ومتنفساً لخواطرهم ومعبراً عن أحاسيسهم ومشاعرهم هو أديب فيه نبوة وفي أدبه قدسية!. . .
مناور عويس
مدرس الأدب العربي بكلية تراسانطة