مجلة الرسالة/العدد 740/تفسير الأحلام
مجلة الرسالة/العدد 740/تفسير الأحلام
12 - تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
(تتمة)
الرموز في الأحلام:
أظن هذه الأمثلة كافية لوضع حد لهذا الموضوع، وهي ليست إلا أمثلة فقط، فنحن نعرف أكثر من هذا كثيراً فيما يتعلق بالرموز. وإن في استطاعتكم أن تتصوروا كيف تكون مجموعة من هذا النوع أكثر دسامة، وأدعى إلى الاهتمام إذا قام بجمعها أشخاص خبراء في دراسة الأساطير، وحياة الإنسان، وفلسفة اللغات، والقصص الشعبية، لا أشخاص مثلنا قليلو العناية بما يدرسون. غير أننا نجد أنفسنا مدفعوين إلى الاعتراف ببعض النتائج التي لا يمكننا أن يستفيد كل ما فيها، ولكنها مع ذلك تمدنا بالكثير الذي يتطلب الروية والتفكير.
فنحن نواجه قبل كل شئ بالحقيقة الماثلة أمامنا وهي أن الحالم يجد تحت يده أسلوباً رمزياً للتعبير، لا يعلم عنه شيئا بل لا يستطيع أن يتعرف عليه وهو يقظان. وهذه الحقيقة لا يعادلها في الغرابة إلا أن تكتشف فجأة أن الخادم التي عندك تفهم السنسكريتية في الوقت الذي تعلم فيه إنها قد نشأت في قرية بوهيمية ولم تتعلم قط هذه اللغة. وليس من السهل أن نوفق بين هذه الحقيقة وبين نظريتنا في علم النفس، وكلما نستطيع قوله هو أن معرفة الحالم بالرمزية معرفة لا شعورية تتصل بحياته العقلية الباطنة. ولكني أحسب أنه حتى هذا الفرض لن يساعدنا كثيرا فنحن إلى الآن لم نفعل أكثر من أن فرضنا أن هناك نزعات لا شعورية تكون مجهولة لدينا لبعض الوقت أو على طول الخط؛ ولكن المسألة الآن أكثر اتساعاً، وعلينا في الواقع أن نعتقد في وجود معرفة لا شعورية، وارتباط لا شعوري بين الأفكار، ومقارنات لا شعورية بين الأشياء المختلفة يمكن بموجبها لكل فكرة أن تستبدل دائما بأخرى. وهذه المقارنات لا تنشا من جديد في كل مرة، بل هي رهن الإشارة، صالحة لكل وقت، وهي نتيجة استخلصناها من التشابه الذي نجده بين الأشخاص المختلفين، حتى على الرغم من تباين لغاتهم أيضا.
ما هو المصدر الذي نحصل منه إذاً على معرفتنا بالرمزية؟ أن استعمال اللغة في الحديث لا يشمل إلا جزءاً بسيطاً فقط، بينما الأمثلة المتعددة في المجالات الأخرى تكون في الغالب مجهولة لدى الحالم، وقد عاينا نحن أنفسنا في مبدأ مشقة في تنظيمها والمقارنة بينها.
ونقطة ثانية هي أن هذه العلاقات الرمزية ليست صفة خاصة بالحالم أو بعمل الحلم، وهو السبب في التعبير بها، لأننا اكتشفنا أن نفس هذه الرموز مستعملة كذلك في الأساطير (الحواديت) وفي الأقوال المأثورة والأناشيد، وفي الأحاديث الدارجة والخيالات الشعرية. فميدان الرمزية ميدان غريب الاتساع، وليست الرمزية في الأحلام إلا جزءاً صغيراً منه، وحتى إذا عالجنا الموضوع بأكمله من ناحية الأحلام فقط، فلن يكون في ذلك نفع ما. فكثير من الرموز التي تقع باستمرار في نواح أخرى، يندر ظهورها في الأحلام أو ينعدم بالمرة. ومن ناحية أخرى نجد أن الرموز المستعملة في الأحلام لا تمر بنا في كل مجال آخر، ولكنها كما رأيتم، موزعة هنا وهناك. ومن يتولد لدينا الإحساس بأننا نعالج أسلوباً قديماً في التعبير قد بطل استعماله، ولم تبق منه إلا نتف بسيطة متناثرة، واحدة هنا فقط، وأخرى هنالك فقط، وثالثة في مجالات متنوعة، ربما على أشكال مختلفة بعض الاختلاف.
وثمة نقطة ثالثة، فلا شك أنكم ستدهشون لأن الرموز التي تقع في المجالات الأخرى التي ذكرتها لكم، ليست قاصرة على المواضيع الجنسية فقط، بينما نجد في الأحلام أن الرموز يقصر استعمالها في الغالب على تمثيل الأشياء والعلاقات الجنسية. وهذه النقطة من الصعب تعليلها. أيحق لنا أن نفرض أن الرموز التي كانت في مبدأ الأمر ذات دلالة جنسية، قد صار استعمالها أخيراً بشكل آخر، وأن من الجائر أن يكون هناك ارتباط بين ذلك وبين الميل عن الأسلوب الرمزي في التعبير إلى أساليب أخرى؟ أظن من الواضح أننا لا يمكننا الإجابة عن هذه الأسئلة إذا اقتصرنا على معالجة الرمزية في الأحلام فقط، وكل ما نستطيع عمله الآن هو أن نتمسك بما افترضناه من أن هناك علاقة خاصة قريبة بين الجنسية والرموز الحقيقية.
وهناك دليل هام في هذا المعنى قدمه إلينا أخيراً الباحث في فلسفة اللغات (إتش سبيربر) (وهو يعلم مستقلا عن التحليل النفسي) وهو أن الحاجات الجنسية كان لها النصيب الأكبر في نشأة وتطورات اللغات. فهو يقول أن الأصوات الأولى التي نطق بها الإنسان كانت وسيلة للمناجاة والاتصال بينه وبين الجنس الآخر، ثم تطور الحال فيما بعد وصارت عناصر الحديث تصاحب أنواع العمل المختلفة التي يقوم بها الرجل البدائي. فكان الناس يبذلون الجهود المشتركة في القيام بهذا العمل وهم يدندنون بأصوات وترانيم منغمة تسبغ على العمل طابعاً من الاهتمام الجنسي. ومعنى هذا أن الرجل البدائي كان يجعل العمل مستساغاً بأن يزاوله كما لو كان مساويا أو بديلا من النشاط الجنسي. ولذا فالكلمة التي كان ينطق بها أثناء العمل المشترك كانت تحمل معنين، أحدهما يدل على العملية الجنسية والأخرى على العمل الذي صار مساويا لها؛ إلى أن جاء الوقت الذي انفصلت فيه الكلمة عن دلالتها الجنسية وصار استخدامها محصوراً في الدلالة على العمل. وعلى ممر الأجيال حدث نفس الشيء لكلمة جديدة لها دلالة جنسية، فصار استخدامها للدلالة على نوع جديد من العمل. وبهذه الطريقة برزت عدة كلمات أصلية كانت كلها ذات مصدر جنسي، ولكنها فقدت جميعاً معناها الجنسي. فإذا كان هذا القول الذي ألمنا بطرف منه هنا صحيحا، فإنه يفتح أمامنا على الأقل وسيلة لفهم الرموز في الأحلام، نستطيع أن ندرك السبب في أن الأحلام، وهي تحتفظ ببقية من هذه الصفات البدائية، تحتوى على عدد من الرموز الجنسية أكبر من المعقول، أن الأسلحة والأدوات على العموم تمثل الذكر، بينما المواد والأشياء التي يجري عليها العمل تمثل الأنثى. ومعنى ذلك أن العلاقات الرمزية عبارة عن مخلفات هذا التشابه القديم بين الكلمات، فالأشياء التي كان لها في يوم ما نفس الاسم الذي يطلق على الأعضاء التناسلية، تستطيع أن تظهر الآن في الأحلام كرموز لها.
والنقطة الرابعة التي أود ذكرها تكر بنا راجعين إلى المكان الذي بدأنا منه ثم تسلك نفس الطريق الذي سلكناه. فقد قلنا أنه حتى على فرض أن الرقابة رفعت عن الأحلام، فإننا سنلاقي مع ذلك صعوبة في التفسير، لأننا سنواجه في هذه الحالة بمشكلة اللغة الرمزية المستعملة في الأحلام والتي تتطلب منا ترجمتها إلى اللغة المستعملة في حياة اليقظة. وعلى هذا فالرمزية تعتبر عاملا ثانيا قائما بذاته في تحريف الأحلام، وهو يقف جنبا بجنب مع الرقابة ولكن النتيجة الواضحة هي أن الرقابة تجد أن من الملائم لها أن تنتفع بالرمزية، بما أنهما يخدمان نفس الغرض، أي خلع هالة من الغرابة والغموض على الأحلام.
وأما إذا كانت ثمة دراسة أخرى للأحلام لن توصلنا إلى معرفة عامل آخر يشترك في التحريف، فهذا ما سوف نراه قريباً. ولكن يجب أن لا أدع موضوع الرمزية في الأحلام قبل أن أمس مرة أخرى الحقيقة المبلبلة وهو أن الرمزية قد نجحت في إثارة معارضات قوية بين أشخاص مثقفين على الرغم من أن تفشيها في الأديان والأساطير، والفنون واللغات، مما لا يقبل الشك. أليس من المحتمل إذاً أن السبب في ذلك يرجع هنا أيضاً إلى الصلة التي بينها وبين الجنسية؟
محمد جمال الدين حسن