انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 74/لويدجي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 74/لويدجي

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 12 - 1934



صاحب جائزة نوبل لعام 1934

منح الكاتب الإيطالي بيراندللو جائزة نوبل للآداب، فجاء ذلك القرار برهاناً جديداً قوياً على خطر الدور التجديدي الذي أداه بيراندللو في تطور المسرح الإيطالي المعاصر. فقد كان المسرح الإيطالي منذ عام 1870 حتى الحرب العالمية يعاني تدهوراً شديداً حتى دفع ذلك الناقد بنجمان كريمو إلى أن يعتبر المسرح الإيطالي أثناء هذه الفترة الطويلة خارجاً عن دائرة الأدب الصحيح. والواقع أن من العسير أن يشعر الإنسان بوجود فن مسرحي في إيطاليا خلال نصف القرن الذي سبق الحرب العظمى إلا بأعمال الكاتب الكبير جبرييل دانونزيو، وبعض أعمال عدد من الكتاب مثل وبراكو وسمبنللي

لم يكن التأليف المسرحي ضعيفاً فحسب، بل إن محاولات الكتاب

الخائرة كانت تعيش كَلاً على الآداب الأجنبية، وتمعن في تقليد الكتاب

الفرنسيين، وأخصهم دوماس الصغير وأوجييه. ثم الكتاب الروس

والكاتب النرويجي ابسن فيما بعد

وكان المسرح الإيطالي في هذه الفترة من العبودية، بحيث كانيتغير بتغير العوامل المؤثرة فيه. فعندما قوى المسرح في فرنسا، لقى ذلك التغير صداه السريع في المسرح الإيطالي فسادت روح المؤلفين، وكانت هذه الروح من القوة بحيث تشبه الثورة على فن دوماس وأوجييه اللذين كانا يطبعان المسرح الإيطالي بطابعهما حتى ذلك الوقت

على أن التحرر من سيادة فن دوماس وأوجييه لم يكن إلا بنقل السيادة من يد إلى أخرى، وكانت هذه اليد هي فن ابسن الذي يغذي المسرح الواقعي الإيطالي بمشاكله التي يعالجها، وبمواقف أبطاله حتى أوائل الحرب الماضية. كان للمسرح الواقعي بعض القوة، إلا أن تكرار معالجة المشاكل التي عالجها ابسن في قصصه خلق نوعاً من الملل الشديد فقامت محاولات جديدة لبناء مسرح كان من زعمائه قبل الحرب سمبنللي، وبعد الحرب أركول (1882 - 1921). على أن هذا المسرح أيضاً لم يؤد إلى الغرض المنشود، لأنه بالغ في رومانتيكيته حتى كانت قصصه أشبه بالأساطير القديمة، وكان أظهر عوامل الضعف فيه انطفاء الأسلوب وخطأ التحليل. لذا ظل الرجاء معقوداً على طبقة أخرى من الكتاب حتى لاحت شمس النهضة الجديدة على يد (المسرح الساخر)

الذي كانت فكرته نواة أدب بيراندللو، فاليه يرجع الفضل الأول في تحرير القصة المسرحية لإيطالية مما يسمى الفكرة التي خلقتها النظرة الواقعية والرجوع بالقصة إلى معالجة الموضوعات وتحليل العواطف والنزعات الإنسانية بطريقة أكثر حرية وانطلاقاً

طريقة تقوم على أساس من الدعابة والسخرية

وجاء بعد ذلك بيراندللو فاستطاع بعبقريته أن يبني على تراث (المسرح الساخر) فلسفة خاصة هي وليدة تجاربه في الحياة، وآلامه النفسية، وقراءاته الواسعة. وأن يركز هذه الفلسفة في مذهب فني عرف باسم (مذهب الدعابة) باسم (مذهب بيراندللو) الذي رفع به مسرح بلاده بعد انحطاط نيف على نصف قرن كامل

لقد بلغ بيراندللو الآن سن الشيخوخة، ففي شهر يونيو الماضي أتم السابعة والستين. وقد ابتدأ الكتابة وهو في العشرين من عمره. وكان إنتاجه من الغزارة بحيث أنه كتب إلى الآن أربعة مائة أقصوصة، وعشر قصص، وثلاثين رواية مسرحية ومع كل ذلك كان اسمه منذ عشرة أعوام يكاد يكون مجهولاً في عالم الآداب، على أن بيراندللو قد استطاع في الأعوام الأخيرة - بفنه المسرحي على الخصوص - أن يشق طريقه إلى المجد، ويكون له أتباعاً في أوربا بأسرها. وأن ينال أخيراً أعظم الجوائز الأدبية في العالم أجمع.

ولد بيراندللو في بلدة بجزيرة صقلية في اليوم الثامن والعشرين من شهر يونيو عام 1867. وعند ما شب درس الأدب في روما. ثم سافر إلى ألمانيا حيث حصل على شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة بن ولما عاد إلى بلاده عين أستاذاً في (المدرسة العليا للبنات) بروما، وبقى فيها أربعة وعشرين عاماً من عام 1897 إلى 1921. ابتدأ بيراندللو حياته الأدبية قصصياً يكتب القصص الطويلة والقصيرة، ولكنه تحول فيما بعد إلى الكتابة المسرحية فلقي عن طريقها سبيله إلى الشهرة العالمية. وقد كتب بيراندللو من القصص الطويلة (1904) (1911) و (1924) و , , (1926) وغيرها. أما قصصه القصيرة فأنها تظهر تدريجياً مجموعة تحت عنوان رئيسي ثابت هو (حكايات لعام) وأشهر هذه المجموعات أما الروايات المسرحية فقد ابتدأ بيراندللو الكتابة فيها عام 1912، فكتب رواياته

و' (1913) ثم (1914). على أن هذه الروايات كانت في الواقع بمثابة الخطوات الأولى لفنه الذي لم يزدهر إلا ابتداء من عام1917 حين كتب رواية وتوالت بعد هذه الرواية رواياته المسرحية الرائعة التي أشهرها ' (1918) و ' , و (1919) , ' (1920) و ' و (1921) (1922) ' (1923) (1925) (1926) ' (1927) الخ. . . .

كان أظهر ما يميز فن بيراندللو منذ قصصه الأولى ميله إلى الدعابة، إليها بغريزته كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً. على أن فكرة بيراندللو عن الدعابة قد تطورت وتحددت بتحوله إلى المسرح واهتمامه على الأخص بكتابة الروايات المسرحية ونبوغه فيها. فقد كان بيراندللو

في البداية يلجأ إلى الدعابة إجابة لنداء طبيعته الساخرة. لكنه أقتصر فيما بعد - وخصوصاً في مسرحه - إلى اختيار الموضوعات التي تثير حقاً سخرية المرء ودعابته. ثم جعل بعد ذلك من هذه الموضوعات مجالاً واسعاً لإطفاء ظمئه الطبيعي في حب الدعابة. وقد اتفق النقاد على أن عبقرية بيراندللو هي من مهارته الفائقة في حسن اختيار هذه الموضوعات وتوخي الصدق فيها

ويجب أن نلاحظ أن رواية بيراندللو لا تصلها بالرواية الهزلية صلة؛ ذلك أن الناحية النقدية هي الغرض الأسمى من الرواية، فهي لم توضع لتبعث الضحك والمرح إلى نفوس المشاهدين كما هو الحال في الرواية الهزلية، بل لتكشف لهم بطريقة تحليلية لاذعة عن حقيقة الطبيعة البشرية ونواحي الصراع بينها وبين تقاليد المجتمع وموجباته. وقد كتب بيراندللو عام 1920 يشرح ذلك قال:

(إنني أعتقد أن الحياة مهزلة محزنة. لأننا نرى في داخلها دافعاً خفياً لا ندري سببه يدفعنا إلى أن نخدع أنفسنا على الدوام، فنخلق لنا شخصيات وأفكاراً تختلف باختلاف كل فرد. ثم لا نلبث أن يبدو لنا أن ما فعلنا ليس إلا وهما وخديعة. إن فني ممتلئ بالشفقة الحارة على أولئك الذين يخدعون أنفسهم. على أنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من أن ألحق بهذه الشفقة سخريةً قاسيةً من الأقدار التي تفرض على الإنسان فرضاً هذا الغش والخديعة) وفن بيراندللو يعالج مشكلة من أكبر مشاكل الطبيعة البشرية. تلك هي مشكلة (الشخصية)؛ فكم ينتاب شخصياتنا كل يوم من التغير والتقلب! وكم يعاني الإنسان في علاقاته بسائر الناس الذين يختلف بعضهم عن بعض في العادات والطباع، فيرى المرء نفسه مرغماً أن يلبس مع كل فرد ولكل حادث ولكل زمن شخصية جديدة حتى يستطيع الحياة في هذا العالم. فبيراندللو حين معالجته لمشكلة الشخصية تراه يقارن بين طبيعة الإنسان وما تميله عليه مقتضيات البيئة ومظاهر الحياة وبين ما يتبع ذلك من صراع، وما يتخلل ذلك الصراع من رياء الحياة الإنسانية وصغائرها

يريد بيراندللو أن لكل إنسان شخصيتين كامنتين فيه، هما أبداً في تناقض مستمر وحرب دائمة

أولاهما: (حيوانيته) أي شخصيته الطبيعية بغرائزها وشهواتها

وثانيتهما: (إنسانيته) أي شخصيته الاجتماعية التي تحتم عليه أن يخضع للتقاليد والأوضاع والمبادئ الجامدة، وكل ما اصطلح المجتمع على تمجيده وتقديسه

ويرى بيراندللو أيضاً أن الفرد يعتبر في حالته الطبيعية حين يتبع غرائزه وشهواته و (حيوانيته)، فان خالف ذلك وحاول أن يكون (إنساناً) يتقيد بنظم مخصوصة، ويخضع تصرفاته لقواعد مرعية، فهو في نظره قد خرج على طبيعته، وأوقف سير (حياته الحقيقة) ليدخل (حياته الوهمية) التي يتصور أنها الحياة الحقيقية وهنا يجب أن نتساءل: ما الذي يرغم الإنسان أن ينتقل من (حياته الحقيقية) إلى (حياته الوهمية) أو من (حيوانيته) إلى (إنسانيته)؟

إنه الضمير. الضمير في نظر بيراندللو هو الذي يفرق بين الإنسان والحيوان، وبين والإنسان والنبات. الضمير الذي يولد معنا يوم ميلادنا، ويصاحبنا حتى الموت هو الذي يفسر حياتنا. هو الذي يقيدنا بالأوضاع، ويخضعها لناموس الخطأ والصواب. ولكن هل استطاع الضمير أن يكبح غرائز الإنسان وشهواته ويمنعها عن الظهور والانفجار بين حين وآخر؟ لا. لم يستطع الضمير ذلك. فحيوانية الإنسان لا تزال كامنة فيه تتلمس الخروج كلما وجدت الفرصة المناسبة. وكثيراً ما تستبد بصاحبها وتعميه وتسيره في الطريق الذي تشاء. والذي يرى بيراندللو أن كل شقاء الإنسان النفسي إنما هو وليد وجود الضمير. فقد أراد الضمير أن يكبل الطبيعة الإنسانية بسلاسل التقاليد والأوضاع الاجتماعية، بينما الضمير لا يعرف التقاليد، ولا يخضع للأوضاع. فلا الضمير إذاً استطاع أن يميت (حيوانية) الفرد فتسود (إنسانيته) على الدوام، ولا هو سمح لهذه الحيوانية أن تتحقق وفق هواها ليحيا الإنسان (حياته الحقيقية). وكانت نتيجة ذلك نشوء هذا الكفاح الدائم بين شخصية الإنسان الطبيعية وشخصيته الاجتماعية، أي بين حيوانيته وإنسانيته

هذا الكفاح القاسي بين الشخصيتين الكائنتين في كل منا هو الذي يخلق الهم الممتزج بالابتسام، والتشاؤم الممتزج بالسخرية، وذلك هو أظهر ما يميز فن بيراندللو ويطبعه بطابع خاص، على أن هذا الطابع الخاص لم يمنعه من أن يكون ملتقى عدة تيارات فكرية كان لها تأثير كبير في تفكيره. فغرابة شخصيات القصص تذكرنا بقصص الكاتب الروسي دستويفسكي والكاتب النرويجي إبسن. وطريقة تحليل نفسيات الأبطال والبطلات المضطرين الحائرين بين الحقيقة والخيال تبين لنا بأجلى بيان الأثر العظيم لنظريات العالم النفسي فرويد عن (اللاشعور) أو ما يسمونه (العقل الباطن)، والعالم انشتين عن (النسبية)، والفيلسوف برجون عن (الحركة)؛ كذلك فيها كثير من (ذاتية) الكاتب القصصي مارسل بروست

على أن هذا الكفاح يختلف نوعه في نظر بيراندللو عند الرجل والمرأة. فالرجل تتغلب عليه (شخصيته الاجتماعية) وهو لذلك يحاول جهده أن ينظم حياته ويخضعها قدر الطاقة لأوضاع المجتمع. أما المرأة فتغلب عليها (شخصيتها الطبيعية) وهي لذلك أقل من الرجل قدرة على سيادة نفسها وتقييد غرائزها وميولها. على أن هذا الاستعداد لدى كل من الرجل والمرأة هو عند بيراندللو أمر نسبي ومؤقت. فالرجل لا يستطيع أن يمنع (شخصيته الحقيقية) من أن تحطم أحياناً القالب الاجتماعي الذي وضع نفسه فيه كما في قصتي (شهوة الشرف)

' (هنري الرابع). وكذلك المرأة التي تسيرها طبيعتها تود من وقت إلى آخر أن تكبح جماح عواطفها وشهواتها كما في قصة:

فأزمة بيراندللو المسرحية تحدث عن اصطدام شخصيتي كل فرد، وهي تختلف - على ضوء ما ذكرنا - عند أبطال قصصه (أي الرجال) عنها عن بطلاته (أي النساء). فالأزمة تحدث عند الأبطال - وهم كما سبق يخلصون للوضع الاجتماعي - إما حين يظهر لهم فجأة أنهم يحيون (حياة وهمية) على خلاف ما كانوا يتصورون، حياة تخالف كل ما جبلت عليه (شخصيتهم الحقيقية)، إما حين تنفجر هذه الشخصية الحقيقة مرة واحدة وتخرجهم عن الوضع التقليدي الذي كانوا يحيون فيه. . . أما الأزمة عند البطلات فبالعكس تحدث حين يرين أنفسهم مرغمات على الخضوع لوضع مخصوص أو فكرة مخصصة كما في قصة: , ' حيث نرى بطلة القصة مضطرة إلى مجاراة أبنتها - التي تظن أن أمها ماتت - في اعتقادها أنها زوجة أبيها.

وفي الفصول الأولى من روايات بيراندللو المسرحية، نرى حوادث القصة غامضة أشبه ما تكون بالقصص البوليسية. وكل حوادث القصة تحدث في هذه الفصول الأولى. فإذا ما جاء الفصل الثاني - وهو أعظم فصول القصة شأناً - ابتدأ دور (التنبه) وفي الفصل الثالث - وهو عادة أقصر كثيراً من الفصلين الأولين - يكمل دور (التنبه) ويكون ذلك مصحوباً غالباً بحركة مسرحية عنيفة تحل بها العقدة المسرحية فنواحي التجديد في مسرح بيراندللو:

أولاً: أن القصة لا تبلغ حدتها في الفصل الذي يقوى فيه (الحادث) في الفصل الذي تقوى فيه (المعرفة)

ثانياً: أن القصة ترمي إلى إثارة المشاهدين عن طريق (اكتشاف) حقيقة كانت مجهولة عن طريق (الحركة).

ومن الحق أن نذكر ما يوجهه النقاد إلى فن بيراندللو. فقد أتهمه ناقدوه بأن رواياته لا ترتفع عن مستوى الدرام، بل عن مستوى الميلودرام. وأنه أختار لقصصه موضوعات هي من التعقيد بحيث كان من العسير التصديق بإمكانيتها في الحياة الإنسانية الواقعة، وأخيراً أن روايته لا تخلو من بعض الملل لأن بيراندللو كان فيها (مفكراً) أكثر من اللازم

على أنه مهما قيل في فن بيراندللو فانه لا يمكن إنكار أهمية مسرحياته وأثرها التجديدي في المسرح العالمي مما جعل بعض قصصه الشهيرة يترجم إلى خمسة عشرة لغة أجنبية. كما أن بيراندللو هو الكاتب الإيطالي الوحيد الذي استطاع أن يحل المعضلة التي اعترضت كل الكتاب الإيطاليين منذ عام 1870 ألا وهي كتابة عمل أدبي يعالج موضوعات ويرسم شخصيات قومية بحتة وينال في الوقت نفسه إعجاباً عالمياً. فكأن بيراندللو بنيله جائزة نوبل قد نال فخراً مضاعفاً. إذ بلغ مجده الأسمى وحقق أملاً عزيزاً من آمال وطنه.

علي كامل