مجلة الرسالة/العدد 719/تفسير الأحلام
مجلة الرسالة/العدد 719/تفسير الأحلام
2 - تفسير الأحلام
للعلامة سجموند فرويد
سلسلة محاضرات ألقاها في فينا
للأستاذ محمد جمال الدين حسن
المحتوى الظاهر والمحتوى الباطن للحلم:
رأيتم أن دراستنا لسيكولوجية الأخطاء لم تكن عديمة الفائدة، فقد استطعنا بفضل الجهود التي بذلناها في هذا الاتجاه أن نصل، عن طريق الفروض التمهيدية التي تعلمونها، إلى نتيجتين: الأولى فهم لطبيعة عنصر الحلم، والثانية العثور على طريقة لتفسير الأحلام. أما عن طبيعة عنصر الحلم فقد رأينا إنه ليس في حد ذاته شيئاً رئيسياً، وإنما هو بديل من شيء آخر مجهول لدى الشخص الحالم. وإنا لنأمل في تطبيق هذا الفهم على الحلم بأكمله كمجموعة من هذه العناصر، والطريقة التي سنتبعها هي أن ندع بعض الأفكار البديلة تتوارد على خاطرنا، وبواسطة الترابط المطلق سنصل إلى كشف الغطاء عن الأفكار اللاشعورية وإبرازها إلى منطقة الشعور.
فإذا انتقلنا الآن من النظر إلى العنصر الواحد ونظرنا إلى الحلم كوحدة كاملة وجدنا أن الحلم ما هو إلا تحريف لشيء آخر لا شعوري وأن الغرض من التفسير هو الكشف عن هذه الأفكار اللاشعورية، وعلى هذا يجب مراعاة الثلاث قواعد الهامة الآتية عند التفسير:
1 - لا داعي للاهتمام بالمعنى السطحي للحلم سواء أكان معقولاً أو غير معقول، واضحاً أم غير واضح، فهو لا يحتوي بأي حال من الأحوال على الأفكار اللاشعورية التي نبحث عنها.
2 - يجب علينا أن نركز جهودنا في محاولة تذكر أفكار بديلة لكل عنصر على حدة من غير أن تنعم النظر فيها كثيراً لنرى إن كانت تحتوي على شيء يلائم الحلم أو لا يلائمه. كما يجب علينا أن لا نهتم كثيراً إذا شعرنا أن هذه الأفكار تقودنا بعيداً عن عنصر الحلم.
3 - يجب علينا أن ننتظر حتى تبرز الأفكار اللاشعورية الخفية التي نبحث عنها من تلقاء نفسها كما حدث في حالة الكلمة المنسية (موناكو) التي رويتها لكم في المحاضرة السابقة.
والآن أظنكم أدركتم إنه لا داعي مطلقاً للقلق أو المبالاة إذا كنا لا نتذكر الحلم بأكمله بل نتذكر جزءاً كبيراً أو صغيراً منه فقط، وأيضاً إذا كنا نتذكر هذا الجزء جيداً أم لا فالحلم كما نتذكره ليس هو الشيء الحقيقي الذي نبحث عنه وإنما هو بجيل محرف له نستطيع بوساطة الأفكار البديلة التي تنتج عنه أن نقترب من المعنى الحقيقي وأن نصل إلى إبراز الأفكار اللاشعورية إلى منطقة الشعور. فإذا حدث إننا أخطأنا في تذكر الحلم فمعنى ذلك أن تحريفاً آخر وقع في البديل وهذا التحريف لا يمكن أن يكون من غير دافع.
وكما أن في استطاعتنا أن نفسر أحلام الغير فإن في استطاعتنا كذلك أن نفسر أحلامنا، والحقيقة إننا نتعلم كثيراً من هذا التفسير. فإذا حدث أن أجرينا تجربة على أنفسنا فإننا نلاحظ أن هناك قوة داخلية تعمل على عرقلة التفسير. حقيقة أن الأفكار المترابطة تتوارد على خاطرنا ولكنا نجد أننا لا نريد أن نعترف بها جميعاً بل نأخذ في نقدها والتمييز بينها لتنتخب ما هو صالح فنقول لأنفسنا: (لا: هذه الفكرة لا تلائم الحلم). أو (هذه فكرة تافهة جداً). أو (هذه فكرة بعيدة عن الموضوع). ثم نلاحظ إننا بهذه الاعتراضات كلها قد خنقنا الأفكار المترابطة وفي النهاية أقصيناها عنا قبل أن تتمكن من الظهور بوضوح تام. وعلى هذا فإننا نحاول من ناحية أن نتمسك بالفكرة الأصلية، أي عنصر الحلم نفسه، ومن ناحية أخرى نعرقل عملية الترابط المطلق عندما نحاول النقد والتمييز. فإذا حدث إننا لم نقم بالتفسير بل تركنا شخصاً آخر يقوم به فإننا نلاحظ جيداً إن هناك دافعاً آخر يدفعنا إلى هذا التمييز بين الأفكار المترابطة فنقول لأنفسنا في بعض الأحيان: (لا هذه فكرة يثقل على النفس التحدث بها. إني لا أستطيع بل لن أقولها له).
ومن الواضح أن هذه الاعتراضات تهدد مسعانا بالفشل، ولذا يجب علينا أن نتخذ لأنفسنا الحيطة ضدها. فإذا كنا نقوم بتفسير أحلامنا وجب علينا أن نعقد العزم على أن لا نخضع لهذه الاعتراضات مهما بدت قوية، وإذا كنا نقوم بتفسير أحلام الغير فيجب أن نضع نصب عينيه هذه القاعدة الصارمة وهي أن لا يخفى عنا أي فكرة تخطر على باله أثناء عملية الترابط المطلق حتى لو اعترضها أحد الاعتراضات الأربعة التي ذكرتها لكم كأن تبدو عديمة الأهمية أو سخيفة، أو غير ملائمة، أو يثقل على النفس التحدث بها. وقد يأخذ الشخص على نفسه عهداً أن لا يخرج عن هذه القاعدة، ولكنا سنشعر بالخيبة والضيق بلا شك عندما نرى أنه سرعان ما ينسى هذا الوعد. وقد نحسب لأول وهلة أن هذا النسيان يرجع إلى عدم ثقته في نجاح عملية الترابط المطلق على الرغم من تأكيداتنا القاطعة له. وربما كانت الخطوة التالية لذلك هي أن نحاول أن نجتذبه أولاً إلى نظريتنا بأن نعطيه كتباً يقرأها أو نرسله إلى محاضرات يسمعها حتى يتحول إلى وجهة نظرنا في الموضوع، ولكن قليلاً من التفكير يرينا أنه لا داعي لاتخاذ مثل هذه الخدوة الخاطئة، لأننا سنرى أننا أنفسنا عرضة لمثل هذه الاعتراضات على الرغم من عدم شكنا البتة في نجاح طريقتنا.
ولكنا بدلاً من التبرم بهذا الإهمال من الشخص الحالم في المحافظة على وعوده لنا سنتخذ من هذه التجربة مادة صالحة لنا في الحصول على شيء جديد، شيء ذي أهمية كبرى لأننا لم نكن نتوقعه البتة. فمن الواضح أن عملية تفسير الأحلام تلاقي معارضة قوية بوساطة (مقاومة) تبدو على هيئة اعتراضات في شكل نقد، وهذه المقاومة لا علاقة لها بإقناع الحالم نظرياً بنجاح العملية. وقد أثبتت التجارب أن الاعتراضات التي من هذا النوع ليس لها ما يبررها بل على العكس قد ثبت أن الأفكار التي يحاول الشخص إخفاءها عنا هي بغير استثناء على درجة كبيرة من الأهمية، وأنها لازمة جداً للوصول إلى الأفكار اللاشعورية. وعلى هذا يجب علينا أن نعتني عناية خاصة بالأفكار التي يصحبها اعتراضات من هذا النوع.
وهذه (المقاومة) تعتبر شيئاً جديداً لم يكن متوقعاً بالمرة. وهي ظاهرة لم تكن ضمن الفروض التي فرضناها في مبدأ الأمر ولكنا اكتشفناها أثناء البحث. وإنا لنخشى أن تكون هذه الظاهرة عقبة في طريقنا مما قد يدعونا إلى اليأس أو الكف عن بذل المجهود في تفسير الأحلام. ولكنا من وجهة أخرى قد نجد لذة في التغلب على هذه الصعوبات، فهذه المقاومة التي تعترضنا كلما توغلنا في البحث عن الأفكار اللاشعورية لابد وأنها تخفي وراءها شيئاً ذا أهمية عظمى. وإلا فما الداعي لهذه الصعوبات التي نلاقيها ولا غرض لها إلا التستر والتعمية على قدر الإمكان؟ إن الطفل عندما يرفض أن يفتح لنا قبضة يده ليرينا ما بداخلها فما لا شك فيه أنه يقبض على شيء لا حق له في امتلاكه.
وهذا العامل الجديد (المقاومة) يختلف من الناحية الكمية باختلاف الأحلام. فقد نجد أنفسنا أثناء العمل عرضة لمقاومات قوية ومقاومات ضعيفة. وهناك عامل آخر كثيراً ما نلاقيه أثناء التفسير يمكن أن نقرنه بهذا العامل، أعني أنه في بعض الأحيان قد تكفي أفكار قليلة أو فكرة واحدة فقط للوصول من عنصر الحلم إلى الأفكار اللاشعورية التي تستتر وراءه، بينما في أحيان أخرى قد نحتاج إلى سلسلة طويلة من الأفكار المترابطة، وإلى التغلب على كثير من الاعتراضات قبل الوصول إلى غايتنا. وهذه الأفكار المترابطة يختلف عددها باختلاف شدة المقاومة، فإذا كانت المقاومة ضعيفة فإن الأفكار البديلة تكون قريبة من الأفكار اللاشعورية، أما إذا كانت المقاومة قوية فإنها تسبب تحريفاً كبيراً في الأفكار البديلة، ومن ثم نحتاج إلى طريق أطول للوصول إلى الأفكار اللاشعورية نفسها.
أظن أن من الأوفق الآن أن نختار حلماً من الأحلام ونطبق عليه طريقتنا في التفسير لنرى إن كان ما توقعناه صحيحاً أو لا؟ ولكن أي حلم نختار؟ هذه هي المشكلة. فأنتم لا تعلمون الصعوبات التي ألاقيها في ذلك، ولا أنا بمستطيع أن أفسر لكم هذه الصعوبات الآن. وقد يرى بعضكم أن الحلم الواضح الغير مشوش يكون سهل التفسير ولكنه بذلك يكون قد ارتكب خطأ كبيراً، فقد أثبت التحليل أن مثل هذه الأحلام تكون قد تعرضت إلى درجة عالية من التحريف وعلى هذا فإنني أقترح عليكم أن نختبر عنصراً واحداً فقط من الحلم ونطبق عليه طريقتنا لنرى ماذا ستكون النتيجة:
(أ) قصت علي سيدة أنها وهي طفلة كانت دائماً تحلم: (إن الله يلبس على رأسه قبعة من الورق تغطي عينيه). كيف نستطيع إذاً أن نفسر هذا الحلم إذا لم تمد لنا صاحبته يد المساعدة؟ أظنه من غير المعقول فالحلم يبدو تافهاً لا معنى له. ولكن هذه السخافة سرعان ما تختفي عندما تروي لنا السيدة أن أهلها وهي فتاة صغيرة كانوا يضعون على رأسها مثل هذه القبعة كلما جلست إلى المائدة لأنها لم تكن تكف عن النظر أطباق أخواتها لترى إن كان أحدهم قد نال نصيبا أكبر من نصيبها. ومن الواضح إن هذه القبعة كانت تستخدم كعائق يعوقها عن التلفت يميناً وشمالاً، وقد روت السيدة هذه المعلومات غير صعوبة تذكر. وقد استطاعت أن تفسر الحلم بنفسها عندما تواردت على خاطرها فكرة مترابطة أخرى قالت: (ولما كنت قد لقنت وأنا طفلة إن الله يرى كل شيء ويعلم كل شيء، فلا بد أن الحلم يعني أنني مثل الله قد رأيت وعرفت كل شيء، على الرغم من محاولتهم منعي من ذلك). أظن هذا المثل بسيطاً جداً.
(ب) رأى أحد مرضاي حلماً طويلاً نوعاً ما كان منه الجزء الآتي: (كان لفيف من أفراد عائلته يجلسون حول مائدة ذات شكل خاص. . . الخ) وقد لفتت هذه المائدة نظر الحالم إلى إنه قد سبق له أن رأى مائدة تشبهها عند زيارته لإحدى العائلات. ومن ثم تسلسلت أفكاره على النمط الآتي: كانت العلاقة بين الابن والأب في هذه العائلة من نوع غريب، وقد أضاف الحالم أن علاقته بأبيه كانت في الحقيقة من نفس النوع. وعلى هذا فقد اتخذت المائدة في الحلم كأداة للتشبيه.
وليس من المستغرب أن يلتفت صاحبنا إلى مثل هذه التفاصيل التافهة كشكل المائدة، فقد كان على علم منذ زمن طويل بما يتطلبه تفسير الأحلام فنحن تنكر إنكاراً باتاً أن هناك شيئاً اسمه المصادفة في الأحلام، بل على العكس فإننا نتوقع أن نصل إلى غايتنا عن طريق البحث في هذه التفاهات التي تبدو كأنها غير مقصودة. وقد تعجبون جداً لأن الحلم لم يقع اختياره إلا على المائدة كأداة يعبر بها عن الفكرة: (إن العلاقات بيننا تشبه العلاقات بينهم تماماً) ولكن من الممكن توضيح ذلك أيضاً إذا علمتم أن العائلة المذكورة تدعى عائلة فالحالم عندما جعل أهله يجلسون على نفس المائدة كان يعني أنهم أيضاً كانوا (أي مائدتين).
(يتبع)
محمد جمال الدين حسن