انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 719/الأدب فير سير أعلامه:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 719/الأدب فير سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 04 - 1947


10 - تولستوي

(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)

للأستاذ محمود الخفيف

خيوط من النور

لئن اشتدت حلكة الليل في عهد نيقولا، وأحاطت الناس المخاوف مما كان يتهددهم من المهالك، فإن خيوطاً من النور برغم ذلك كانت تتراءى على الأفق فتكون لأنفس الأحرار أنساً وشفاء وعزاء. . .

حالت القوة بين الروس وبين أي عمل يتصل بالسياسة فقام الفكر والأدب مقام العمل؛ ولكن أي فكر هذا وأي أدب وكيف يتسنى له أن يخرج من الرؤوس، وكيف تتجاوب به نفوس الأحرار والرقيب من ورائهم محيط وسلطة لا يجدها قانون ولا نقومها نصفة؟ ليس غير الفن ينفس به الأحرار عن أنفسهم وقد اختاروا من صور الفن: القصة والشعر والموسيقى. . . وراحوا يهمسون بهذا الفن همساً سوف يكون له في روسيا دوى عظيم.

كانت القصة الروسية على حد تعبير أحد الكتاب (صرخات من فوق خشبة الصلب)، ولكنها كانت صرخات القوى الذي أنطقه الألم الهائل على رغمه، لا صرخات الخائر الذي يستعطف ويبكي. . .

ولما كانت القصة في مقدمة الوسائل التي عبر بها الروس عما في نفوسهم، فقد برعوا فيها براعة جعلت الكثيرين من فطاحل النقد في أوروبا يسلمون لروسيا بالتنسيق في هذا الميدان، فعندهم أن فن القصة بلغ أوج كماله في القرن التاسع عشر في روسيا فقد سبق الروس في هذا القرن أساتذتهم من الفرنسيين والإنجليز والألمان حتى غدوا هم الأساتذة وأحدثوا في هذا القرن أثراً بعيداً في فن القصة في هذه الأمم الثلاث وفي غيرها ممن نقلوا القصة الروسية إلى آدابهم. . .

وليس بعجيب أن ينبغ الروس في هذا النوع من القصة، فأمام غيرهم مجال القول متسع في غير هذا الفن، ولكن الروس اضطروا أن يظلوا على القصة عاكفين زمناً طويلاً فتهيأت لهم أسباب التفوق، وتعددت في القصة مذاهبهم وأساليب تعبيرهم، واتضحت هذه المذاهب واستقرت، وطوعت هذه الأساليب وأساس قيادها.

كان على كتاب القصة أن يخلقوا وسيلة بها يتكلمون ولكن على ألا يفطن إلى ما يريدون المنصتون من الحكام والرقباء، وكانت القصة في ذاتها كعمل فني خير معين لهم على ذلك ولكنهم أضافوا إليها ما أضافوا من صور الوصف فأبدعوا تصوير ما كانوا يريدون تصويره من مشاهد الحياة وآلامها، وألوان العواطف الإنسانية وخلجاتها؛ ولقد أدى بهم هذا إلى أن يسلكوا وإن لم يقصدوا مذهب الفن للفن، فلم يدعوا إلى شيء إيجابي أو يقترحوا علاجاً لداء؛ وإنما اكتفوا أو اضطروا في الحق أن يكتفوا بتصوير الحياة الروسية كما هي بما فيها من خير وشر، ومن هنا كذلك كان المذهب الواقي هو الغالب في القصة الروسية.

وكان هذا الوصف أعلى في الآذان صوتاً وأعمق في النفوس أثراً من كافة صورة التعبير التي أتيحت لغير الروس، من فلسفة ومقالة ومحاضرة وبحث، وتلك هي ميزة الفن وبخاصةً فن القصة وقد بلغت أقصى ما يبلغه فن كأداة للتعبير على أيدي أساطين القصة الروسية.

وثمة صفة أخرى للقصة الروسية، وتلك هي انطواؤها على كثير من النذر، ويشاركها في ذلك الشعر إلى حد كبير، حتى ليمكن القول إن الأدب الروسي في القرن التاسع عشر كان أكثر من أدب أية أمة تنبؤا بالمستقبل المخيف؛ بل لعل هذا التنبؤ هو خاصته التي مازته من غيره فهو نذير للناس بالهول والبلاء والشر المستطير، وقل أن كان بشيراً بشيء إلا بما يفهم مما يتضمنه هذا الشر المنتظر من معنى الثورة التي تذهب بالمساوئ القائمة وتفتتح في تاريخ البلاد عهداً جديداً. . .

ولقد كان الأدب الروسي في الواقع لهذه العوامل المحيطة به أدباً تأثراً؛ لا بما كان ينذر به من هول فحسب ولكن من هدوئه كان متنفساً للنفوس مما كانت تنطوي عليه من ثورة، أو كان شكاة وأنيناً أو (صرخات من فوق خشبة الصلب).

والفرق واضح بين هذا الأدب الروسي وبين أدب فرنسا قبيل ثورتها الكبرى على أيدي فلتير وروسو ودبدرو وإضرابهم فقد تفلسف أولئك الفرنسيون وسخروا وبينوا سبل الخلاص وواجهوا المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية مواجهة مباشرة فكانوا في الغالب فلاسفة مفكرين، ولكن الروس صوروا فحسب، فلم يبينوا لنا المعايب الاجتماعية وأسبابها وشقاء العيش وعوامله، وإنما خلقوا لنا أناساً أشقياء يتألمون وتفدحهم كوارث الحياة ولا يدرون ماذا يفعلون.

ولقد أحدث هذا الأدب أثره العميق في النفوس على الرغم من الرقابة والرقباء، حتى انتهى الأمر إلى ثورة جارفة كانت في الواقع من صنع الفن وحده؛ وليس في هذا الذي نذكر شيء من الغلو، فبالفن لا بالأفكار المجردة، ولا بالدراسة المباشرة لمشكلات روسيا هدم أدباء الروس صرح العهد القديم، وعلى ألسنة أشخاصهم التي خلقوها وفي ميول هذه الأشخاص ونزعاتها وحركاتها عبر الكتاب عما يريده كل روسي وأفصحوا دون أن يقولوا قولاً صريحاً عما كان يشغل الأذهان من آراء في الاجتماع والسياسة والاقتصاد ما كان ليسمح بها الرقيب. . .

وفي الأدب الروسي جانب روحي أسكبه صفة إنسانية عامة بها وجد سبيله إلى قلوب الناس في كل أمة؛ وهذا الجانب الروحي فيه هو محاولة الوصول إلى خلاص للإنسان عامة من شرور الحياة وشقائها، وتوقعه حياة أخرى أسمى من هذه الحياة، ومرد ذلك في الواقع إلى هول ما عانى الروس من ظلم وما ذاقوا من ألم وشقاء. ومن عجب الأمور أن كثيراً من الأدباء الروس على ما بلوا من شرور الحياة حولهم وآثامها كانوا يؤمنون في كتابتهم بالخير وأنه هو الأصل في الإنسان، وأن الشر يأتيه من الحياة وملابساتها، فكان هؤلاء الأدباء متفائلين مع ما كانت تريهم الحياة من دواعي التشاؤم.

وكفر أدباء روسيا بمدنية الغرب وثقافة الغرب، فلم يروا إنهما حق كلهما، وإنما أحسوا فيهما بكثير من صور الباطل؛ وارتابوا في كثير من المبادئ التي أخذ بها العالم الغربي واطمأن إلى استقرارها وصلاحيتها لتقدم العمران والسمو بمستوى الحياة؛ وساورهم كثير من القلق فيما عسى أن تفضي إليه هذه المبادئ من كوارث قد تطيح بها وبمدنية الغرب جميعاً، وقد أضاف هذا الكفران بمدنية الغرب وثقافته إلى الأدب الروسي والقصة الروسية نغمة ارتاحت إليها النفوس القلقة، وزادت هذه النغمة ثورة هذا الأدب بروزاً، وجعلت له خطراً كبيراً في تاريخ الفكر البشري. . .

وأدى هذا الكفران بمدنية الغرب ومبادئ المجتمع الغربي إلى اتساع أفق الأدب الروسي، فبات يتعمق النظر في مسائل الحياة والموت وما عسى أن يكون وراء هذا الكون العجيب من أسرار ود الأدباء لو استطاعوا أن يهتدوا إلى شيء ما، وقد صبغ هذا الاتجاه الأدب الروسي بصبغة دينية صوفية لا مثيل لها في أدب الغرب. . .

كان الشعر أسبق من النثر في هذا القرن ولذلك حق أن نتكلم أولاً عما كان للشعر من أثر فيما نحن بصدده، وقد تجلى هذا الأثر في شعر شاعرين كانت لهما أو على الأصح كانت لأولهما زعامة الشعر الروسي الحديث وهما بوشكين وليرمونتوف. وقد ولد أولهما سنة 1799 ومات في الشهر الأول من سنة 1837. وولد ثانيهما سنة 1814 ومات سنة 1841.

تمثلت الروح الجديدة في حياة بوشكين وفي شعره، ولقد كان لهذا الشاعر الفذ الذي مات في الثمانية والثلاثين من عمره، أعمق الأثر في الأدب الروسي في القرن التاسع عشر. . .

يعد بوشكين بحق أحد عباقرة الشعر في جميع عصوره وعلى اختلاف بيئاته، فقد خلق موهوباً كما يخلق أفذاذ هذا الفن وفحوله فله قوة الشعر وعمق الفكرة وصدق الإحساس وحدته وسمو الروح وحرارة الإيمان وجمال النفس، وله إلى جانب ذلك الأداة الطيعة من التعبير الجميل القوي والموسيقي الرائعة الحلوة.

على أن ما يعنينا هنا هو أثر فنه لا قيمة ذلك الفن؛ ولقد كان أكبر تأثيره في حياة قومه بما تغنى به من أغاني الحرية، تلك الأغاني التي هزت النفوس هزاً.

تأثر بوشكين بشاعر عظيم متمرد تأثر هو اللورد بيرون الذي قضى نحبه سنة 1824 في حصار مسولنجي مصاباً بالطاعون، وقد كان يدافع مع المدافعين عن حرية اليونان، وأعجبت بوشكين حمية بيرون كما أعجبته طريقته في الشعر، وكان من أبرز خصائص بوشكين أنه يتمثل آثار غيره ويتأثر بها ولكنه لا يفقد أصالته ولذلك فقد احتفظ بروحه الروسية وإن اصطنع أسلوب بيرون.

تغنى بوشكين بعظمة روسيا وقوتها وكان يعد بطرس الأكبر بطلها الفرد، وغنى بمثل البكاء حياة فلاحيها وشقائهم، وكان شعره مليئاً بالنذر، فكان منذراً للطاغيين مبشراً بحرية سوف تنعم بها روسيا بعد طول الأسر والعذاب تجد ذلك في قوله (إنا منتظرون، وقلوبنا المتلهفة تخفق بالأمل في الحرية المقدسة كما ينتظر العاشق الشاب ساعة لقائه بفاتنته).

وتأثر بوشكين كذلك بمبادئ الثورة الفرنسية، وكان صديقاً للديستمبريين، ولكنه كان قد نفى إلى ضيعة أمه قبيل حركتهم فلم يشارك فيها ونجا بذلك من الموت لينظم لروسيا خير ما أخرجت من شعر وليوقظ مشاعرها ويطبع أدبها بطابعها، وليكون شعره حداءها الممتلئ بالأمل والسحر.

وكان حول بوشكين عدد من الشعراء، كان ليرمنتوف الذي بدأ ينظم الشعر من سن الرابعة عشرة أبرزهم وأقواهم موهبة، وقد تأثر هذا الشاب الشاعر بيوشكين أولاً ثم بشلر وأخيراً باللورد بيرون ذلك الذي أحبه ليرمونتوف حباً كاد ينسيه كل شاعر غيره حتى بوشكين نفسه.

وكان ليرمونتوف في شعره منذراً أكثر مما أنذر بوشكين، وقد أذاع قصيدة غفلا من اسمه سنة 1830 تنبأ فيها بالثورة، حتى ليعجب من يقرأها بعد الثورة البلشفية من صحة نبوءته؛ فكأنما كانت تتكشف له حجب الغيب؛ وتغنى ليرمونتوف بالحرية كما تغنى بوشكين، وكان ينظم الشعر في يسر فيجئ قوياً متدفقاً كالسيل، ولكن الموت لم يمهله لتمد موهبته غاية مدها فمات وهو في السابعة والعشرين. . . على أنه قبل وفاته بسنة أخرج وصية نثرية سنة 1840 تعد أول قصة تحليلية في الأدب الروسي الحديث وهي القصة المسماة (بطل من أبطال عصرنا)، ولذلك يعد هذا الشاعر الفذ طلعة في فن القصة.

ونعود بالحديث إلى القصة فنجد أن الكاتب الذي يعد مقامه في القصة كمقام بوشكين في الشعر هو جوجول المولود سنة 1809 والمتوفى سنة 1852؛ وليس معنى ذلك أنه لم يوجد قبل جوجول قصصي، وإنما نقصد أن جوجول كان رائد القصة الروسية في القرن التاسع عشر وكان زعيماً من أكبر زعمائها غير مدافع. . .

قام فن هذا القصصي على أساس السخرية من المعايب الاجتماعية في عصره، ولم تكن سخريته سخرية نفس هادئة تعطف على ما تخلق من الشخصيات وترفق بهم وتضحك مع الضاحكين كسخرية شارلزدكنز مثلاً، وإنما كان سخرية عنيفة هدامة تبرز المعايب عن سخيمة ونقمة كأنها سخرية شيطان يلهو بزلة فريسة من فرائس غوايته. . .

كان يؤلم جوجول أن يرى روسيا وقد ذاع فيها الشر والفساد والباطل، وماتت فيها روح العدالة والخير، وكان يقول دائماً إنها ممتلئة بالأقعنة الكاذبة حتى ما تقع العين على آدمي واحد فيها، والحق أنه قلما اطمأن إلى وجود شيء من الخير في الحياة الروسية فقد استشرى الشر في رأيه حتى لم يدع للخير مجالاً. . .

وقد أنتج جوجول عدداً غير قليل من القصص والصور الاجتماعية، ويهمنا فيما نحن بصدده ثلاثة منها هي (المفتش العام) و (الأنفس الميتة) و (العباءة) أما القصة الأولى فهي ملهاة تهكمية تدور حول نبأ أذيع بأن مفتش الحكومة العام قادم للتفتيش في مدينة من مدن الأقاليم، ولما كان المفتش غير معروف فقد أخذ الموظفون مسافراً من المسافرين على أنه المفتش الموهوب الجانب، فأكرموا وفادته ومشوا بين يديه بالزلفى وأعطوه المال والهدايا، ولما رأى ذلك المسافر أنه قد أخذ منهم كل ما استطاع أخذه من المال فر هارباً؛ ويسدل الستار عقب إعلان إن المفتش الحقيقي قد وصل فعلاً!؛ وقد أحدثت هذه الملهاة ضجيجاً كبيراً وأثارت من حنق الحكومة على مؤلفها ما اضطره إلى مغادرة روسيا إلى إيطاليا حيث أتم قصته الكبرى (الأنفس الميتة).

تعد هذه القصة الثانية من أعظم الآثار في أدب أوروباً جميعاً ولم تكن لها عقدة معينة أو حكاية غرام، وقد أتمها جوجول في عدة سنوات، وفيها سخر أشد السخرية من كل ما عده معيباً في الحياة الروسية، وتهزأ بمن شاء من الأشخاص الذين صور أمثلة لهم في قصته الكبرى، وقد نفذت عينها نفاذاً عجيباً إلى كل معيب شائن في جوانب تلك الحياة وإلى كل وضيع مرذول من صور الناس وأنماطهم، لم يغادر شيئاً من ذلك إلا أحصاه. . .

ولو أراد النقاد أن يعدوا عشرة كتب في فن القصة لها أثرها في توجيه هذا الفن، ولها خطرها فيما تقاس به رسالة هذا الفن لكان كتاب جوجول (الأنفس الميتة) أحد هذه الكتب العشرة بلا جدال، فهو فيما تواضع عليه نقدة الأدب أعظم ملحمة للضعة الآدمية في أدب العالم كله، وذلك حسب ما يفهم من معنى الملحمة كعمل فني، وليس كما قد يذهب إليه الذهن من معنى المعركة. فما في القصة معركة ما وإنما نقصد معنى الملحمة كما تسمى ملهاة دانتي المقدسة، أعنى أنها عمل أدبي شامل يحيط بكل شيء مما هو منه بسبب. . .

(يتبع)

الخفيف