انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 69/تعليقات القراء على الرسالة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 69/تعليقات القراء على الرسالة

مجلة الرسالة - العدد 69
تعليقات القراء على الرسالة
ملاحظات: بتاريخ: 29 - 10 - 1934



إلى الأستاذ الرافعي

للأستاذ علي الطنطاوي

سيدي:

أعرني هذا القلم السحري الذي تكتب به. . . لأصف لك الشعور الذي خامرني وإخواني هنا، حين قرأنا فصلك الأخير: قصة زواج. . . فما أدري والله كيف أصفع لك

وقد والله قرأناه مثنى وثلاث ورباع، وقد والله قطعتا القراءة مرة وثانية وثالثة، لأننا لم نكن نملك نفوسنا أن تفلت من قيود المادة، وتنفذ من بين السطور إلى عالم أسمى وأوسع، تطير في أرجائه لتحلق بهذه البلاغة العلوية التي تسمو بتاليها وتسمو. . . حتى تدنو من حدود العالم الكامل - عالم القرآن - وتريه تحقيق ما قاله سعد (بطل المشرق): كأنها تنزيل من التنزيل!

وقد والله خرجنا منها وكأننا لم نعرف عبد الملك أمير المؤمنين، وسعيداً سيد التابعين، إلا الساعة. . . فإذا أنت قد نقلت الملك والجلال من ذاك إلى هذا، وإذا مقالة منك واحدة، تغلب عبد الملك على جيوشه وأمواله وملكه، ثم تجرده منها، ثم تعرضه جسداً هزيلاً؛ وتمنح سعيداً على فقره وتواضعه، أسمى العظمة والهيبة والجلال. . . حتى يقول هذا: (أنا. . .) فترددها ملائكة السماء. ويقول ذاك: (أنا. . .) فتستحي أن تعيدها شياطين الجحيم!

وأقسم لقد سمعت هذه القصة وقرأتها، وحفظتها، وحدثت بها. وانحدرت بين أذني ورأسي ولساني عشرين مرة، ثم كأني لم أسمع بها إلا الآن. . . وكأني كنت فيها في ليل مظلم، فطلعت على مقالتك شمساً ساطعة؛ عرفت معها كيف تكون حصيات الليل لآلئ النهار. . . فما بالك بمن لم يسمع باسم سعيد؟ وما بالك بمن لا يعرف في الدنيا أدباً، إلا الأدب الذي يسقط علينا من باريس أو لندن أو بوسي أيرس؛ ولا يدري من البلاغة إلا أنها التي تلوح بين سطورها رؤس البنادق، وأفواه المدافع، وأجنحة الطيارات؟

ومثل أولئك كثير، فقد عابوك بالغموض، ورموك بالإبهام، وادعوا أن كتبك لا تفهم، ومعانيك لا تساغ، فلما ظهر أن في الغرب شاعراً فحلاً مذهبه الغموض فنًا من فنون الأدب تتمحل له الأسباب وتتلمس له الدواعي! فما الذي سيئة الرافعي حسنة بول فاليري، إلا أن ذاك من فرنسا وهذا من مصر؟

أما إن هذا الإيمان بالغرب إذا انتقل من الشيوخ إلى الشبان لم يكن إلا كفراً بالشرق وإلحاداً بالعقائد الشرقية، وجهلاً باللغة الشرقية، وخروجاً من الجلدة الشرقية. . . وإن عندنا في دمشق ندوة أرادت أن تعيب مجمعنا الأدبي، فلم تجد أبلغ في العيب من قولها: إن المجمع ثقافته شرقية، بل لقد (ضبطتنا متلبسين بالجريمة)، وأشهدت علينا أننا كنا نحمل كتباً صفراء. وكان الذي نحمله (شرح المواقف للسيد). ومثل هؤلاء لا يقرأون الأدب العربي إلا إذا صيغ هذه الصياغة

وعندنا إن هذه القصة بكل ما قرأنا في العربية من قصص ما يزال أكثر أصحابها ينشدون أدباً فرنسياً أو إنجليزياً بحروف عربية

وعندنا أنك إذا استكثرت من هذا النوع غطيت على خيام أهل الجديد ودورهم المبنية من الطين والقش، بقصر شامخ من الصخر يثبت ما ثبت الدهر

وعندنا أن مائة قصة من مثل هذه القصة، تنشئ الأدب العربي إنشاء جديداً، وتخرج من الشيخ الهم الفاني، الذي ينتظر الموت شاباً قوياً بهياً، جاء يستأنف الحياة بحنكة الشيخوخة. وتجعل من الأدب العربي أدبين: أدب أربعة عشر قرناً، وأدب الرافعي

ولست والله أمدحك لأتملقك وأتزلف إليك، وما بي بحمد الله رذيلة التملق والتزان، وإني لأنقم منك أحياناً. إنك تبالغ في الدقة، وتمعن في السبك الفني لمعانيك وألفاظك، حتى ما أكاد أفهم عنك، وإننا لنحفظ جملك هذه الغامضة، ونتنادر بها، على حين أنك تعرف من نفسك القدرة على أسهل الكلام وأوضحه، , وإن شعرك لين سائغ عذب كالماء

ولكني أمدحك، وما أجدني صنعت شيئاً، لأنك في نفسي أكبر من ذاك، إنك واحد من عشرة هم كتاب العربية في كل عصورها، إنك لسان القرآن الناطق.

فاقبل تحياتي وإكباري وشكري، وأسألك أن تزيدنا من هذا النوع من الأدب، وأن تستكثر من هذه الفصول الاجتماعية، وأن تعلم أن مقالاتك في الزواج كان لها من الأثر ما لا يكون لقانون صارم من ورائه السجن والغرامة. وإننا نحمد الله على أن جعل في العربية مجلة صاحبها الزيات، ويكتب فيها الرافعي

علي الطنطاوي عضو المجمع الدبي بدمشق