مجلة الرسالة/العدد 657/هؤلاء الفرنسيون. . .
مجلة الرسالة/العدد 657/هؤلاء الفرنسيون. . .
للأستاذ سيد قطب
في الوقت الذي تنال فيه قضية سوريا ولبنان عطفنا وعطف الجامعة العربية، وتتمتع بالاهتمام الذي تستحقه من كل عربي، توجد قضية أخرى لا تتمتع بهذا الاهتمام بالدرجة الكافية. . . تلك هي قضية الشمال الأفريقي - الجزائر وتونس ومراكش - الذي ترتكب فيه الدولة الفرنسية أشنع مأساة يخجل منها المتحضرون.
والواقع أن أشنع ما ارتكبه الفرنسيون في سوريا ولبنان، لا يعد شيئاً بالقياس إلى ما يرتكبونه في الشمال الأفريقي إلى هذه اللحظة. فلم تزد شناعاتهم في سوريا ولبنان على فعلة حمقاء - جرباً على طبيعتهم في تاريخهم الطويل - بالقبض على رئيس جمهورية لبنان ووزرائه؛ ولم تزد على مؤامرة خسيسة دبروها لاغتيال أعضاء الوزارة السورية وأعضاء البرلمان في أثناء اجتماعهم؛ هذه المؤامرة التي فشلت لوقوع بيانات سرية في أيدي الحكومة السورية قبل تنفيذ المؤامرة الخسيسة! ثم ضرب دمشق بالقنابل مرتين في خلال عشرين عاماً. . .!
وهذه كلها بالقياس إلى ما يرتكب في الجزائر ومراكش خاصة لا تعد شيئاً. وقد هزت شعورنا تلك الحوادث التي ارتكبت في البلدين الشقيقين، فمن حق ما يقع في الشمال الإفريقي أن يثير نفوسنا وأن يدفعنا إلى التدخل الحاسم.
وأنا لا أتوجه بهذا الكلام إلى الجامعة العربية وحدها، ولا إلى رجال السياسة في البلاد العربية كذلك؛ إنما أتوجه إلى ضمير الشعوب العربية جميعاً. فأنا على ضعف ثقتي برجال السياسة في هذا الجيل لا أزال شديد الثقة في الجماهير، وفي ضمير هذه الجماهير؛ وهو وحده الضمان لتقوية الجامعة العربية ودعمها، ولدفع رجال السياسة مهما اعتور نفوسهم من الضعف والتردد.
فإلى هذا الضمير الشعبي العام أتوجه بالحديث.
ولكي لا أتهم بالتحامل فإني أعرض على قراء العربية صورة لتصرف الفرنسيين في الجزائر ليست من صنعي ولا من صنع كاتب عربي، إنما هي من رسم رجل فرنسي شذ فكان له ضمير! ولعله هو أيضا ضمير مدخول، فهو يكشف لأبناء وطنه عن شناعة الحكم الفرنسي في الجزائر خشية أن يؤدى بهم هذا إلى فقدان الجزائر. فليس شعوراً إنسانياً هو الذي يدفعه إلى بسط سوء الحالة فيها، إنما هو روح استعماري بصير، هدأت فيه الحماقة التي هي طابع السياسة الفرنسية التقليدي في التاريخ!
هذا الكتاب هو المسيو (جان ميليا) من كبار الدبلوماسيين الفرنسيين، وقد ضمن ملاحظاته هذه كتاباً باللغة الفرنسية نستعرض هنا مقتطفات منه نقلها إلى العربية الأستاذ (محمد عبد الكريم) ونشرها مجلة (الشرق الجديد).
(ضرب المؤلف الفرنسي مثلا مما يسميه مواطنوه الفرنسيون قانوناً بالجزائر، بذلك القانون العجيب المسمى قانون الغابات.
(فالمستعمر الفرنسي يُمنح الأرض ليستغلها، وهو يُعطى ما يختاره بسخاء بدون مقابل. وقد حدث مرة أن احترقت غابة يستغلها فرنسي، وحامت الشبهة في هذا حول الوطنيين، فكان أن عمدت الحكومة إلى إصدار قانون ينص على أنه في حالة إحتراق أي غابة يملكها فرنسي، فإن العرب المقيمين في أقرب منطقة مجاورة للغابة يلزمون بدفع تعويض للمستعمر الفرنسي صاحب الغابة حسب ما يقرره حاكم المدينة.
(ويردف الكاتب الفرنسي ذلك بقوله: ومن يوم أن صدر هذا القانون أصبح شائعاً في أوساط المستعمرين الفرنسيين أن من يصاب في مشروعة بالفشل أو من يسوقة الحنين للعودة إلى بلاده فما عليه إلا أن يعمد إلى غابته يحرقها، ويبلغ الحاكم ليشهد في اليوم التالي إبلاً وغنماَ وحميراً وخياماً وأقوات أهل القرية المجاورة تباع كلها في السوق قسراً، ليعطى ثمنها تعويضاً لذلك الفرنسي عن ضرر أحدثه هو بيده!)
هذا ما قاله الكاتب الفرنسي، أما الذي لم يقله في هذا الصدد فهو أن المساحات الشاسعة من الحقول والبساتين تنزع ملكيتها من أيدي ملاكها العرب لتعطي إلى المستعمرين الفرنسيين حيث يطرد هؤلاء الملاك إلى البقاع الممحلة، حتى إذا راحوا يفلحونها بالجهد الشديد ويصلحون ترتيبها بسواعدهم وكواهلهم والبقية الباقية من أموالهم إلى أن تصبح صالحة للزراعة. . . عاد الفصل السابق يمثل معهم من جديد فيطردون منها لتعطى للمستعمرين من جديد!
ثم يقول المؤلف الفرنسي: (إن حق المواطن في الجزائر يمنحه كل يهودي دون استثناء ولا يجوز منحه للمسلمين إلا لعدد قليل ممن يرى الحاكم الفرنسي منحه لهم: ولم ينتفع بهذا الحق حتى الآن من المسلمين أكثر من ألف وخمسمائة
(وجرمان رجل أولى حقوقه العامة كمواطن لا لجرم سوى أنه مسلم هو أعجوبة الأعاجيب في الأوضاع الدستورية، حتى أن (بارتلمي) أستاذ القانون الدستوري بجامعة باريس لم يستطيع كتمان تعجبه، فهو يسائل مواطنيه في مناقشته حتى الانتخاب بكتابه الذي يدرس بالجامعات الفرنسية: إنا لنعجب للتفرقة بين مواطنين من بلد واحد! كيف يمنح حق المواطن لأحدهما ولو كان من الرعاع لأنه يهودي، ويحرمه الآخر ولو كان مؤهلاً بالدكتوراه وحاملاً لوسام جوقة الشرف، لا لذنب إلا لذنب لأنه مسلم؛!)
وينقل الكاتب الفرنسي في كتابه شهادة كاتب فرنسي آخر هو (بليسيه دى رينو) حيث يرجع رينو (عدم تحقق الألفة بين الوطن الفرنسي إلى ما يكنه ويبديه الفرنسي للجزائري من مهانة واحتقار. فالمستعمر الفرنسي بل الحكام الفرنسيون يهبطون إلى أرض الجزائر مشبعين بفكرة وعقيدة لا تتزعزع، هي أنهم بين أعداء، وهم لهذا لا يبدون نحو العرب أي عطف أو حسن معاملة)
وينقل كذلك شهادة كاتب فرنسي ثالث هو (جوليوفيرى) (إن المستعمر يستبد بالوطني أي استبداد، وهو يستشعر العسف لا في أقواله فحسب، بل في سلوكه الذي لا يرعى فيه للعرب حقاً ولا كرامة)
هذا ما قاله المؤلف الفرنسي وما نقله من غيره. أما ما لم يقله، فهو أن كلمة (عربي)! هس من ألفاظ الشتائم والتحقير في الاصطلاح الفرنسي، فإذا شاء أن يشتم إنساناً أو يحقره نبزه بلفظ (عربي)!
وهذه حقيقة معروفة أضعها تحت أنظار العرب لينظروا في رد هذه الإهانة عن أنفسهم باحتقار كل ما هو فرنسي - مهما اشتدت حاجتهم إليه - واحتقار كل من يخدع بفرنسا أو ينتمي إليها، أو يرفع رأسه ليعجب بهؤلاء الذين يدعون أنفسهم متحضرين
أما الفرنسيون في مراكش فهم الفرنسيون في الجزائر - وفي كل مكان على ظهر هذه الأرض يبتلى باستعمارهم الوحشي.
بين يدي نشرة صغيرة وزعتها (رابطة الدفاع عن مراكش) في 11 يناير الماضي، بمناسبة (ذكرى عيد الجهاد الوطني) الذي بدأ في 11 يناير سنة 1944. وقد جاء فيها بأسلوب معتدل كل الاعتدال تحت عنوان (السياسة الفرنسية في مراكش) ما يأتي:
(هناك مبدأ شعاره السيف والمحراث، وهو مبدأ قديم ابتدع شعاره الكونت ديسلى منذ أوائل القرن التاسع عشر؛ والسيف رمز لقهر أصحاب البلاد وإرهابهم؛ والمحراث رمز لاستغلال كل الخيرات التي تشتمل عليها تلك البلاد، وإذا أردنا أن نقلب العبارة من الرمزية إلى الصراحة قلنا: الاستغلال بالقوة!
(ومراكش اليوم مستغلة بالقوة بكل ما تحمل هذه العبارة من معنى. وفرنسا حجر عثرة في سبيل رخائها وتقدمها بأكثر مما في هذه العبارة من معنى. ومبدأ العرقلة يتمثل في كبت الحريات، وعدم التشجيع على التعليم، وعدم السماح بوجود صحافة حرة أو جمعيات حرة، وغير ذلك من الحقوق البسيطة التي تتمتع بها أحط المستعمرات في العالم. فالمثقف غريب في مراكش لا عمل له ولا مستقبل. بينما يتقلب الجهال في الوظائف العليا؛ وبذلك يساعدون على بث الانحلال في أداة الحكومة الوطنية. وسلطة الحماية تعرقل أيضا كل ما من شأنه أن يغير أسلوب الحياة الاجتماعي. وهي لا تسمح للصحف العربية بالدخول إلى البلاد ولا تسمح للطبقة المثقفة بإصدار الصحف لتنوير عقول الناس. وهي تعرقل قيام المؤسسات الوطنية الاقتصادية. وهكذا لا توجد وسيلة لعرقلة التقدم في مراكش إلا تفنن هؤلاء الموظفون في تنفيذها.
(أما سياسة السيف والمحراث أو الاستغلال بالقوة فهي تتمثل في نزع ملكية الأرض من الأهالي وتوزيعها على المستعمرين الفرنسيين؛ وفي تأسيس الشركات الاحتكارية التي تستحوذ على الصادرات والواردات، وتهيمن على السوق؛ وفي استغلال المناجم استغلالاً لا تعرف عنه مراكش شيئاً؛ وفي تسخير الأيدي العاملة بأجور زهيدة؛ وفي إشعار رجل الشارع بأنه دون الفرنسي؛ وفي فرض الضرائب الفادحة حتى أصبح المراكشي يدفع من الضرائب ما لا يدفعه أي شخص في العالم؛ وفي استغلال المياه الإقليمية والأنهار والغابات والمزارع وآبار البترول وكل الخيرات التي توجد في هذه البلاد. وقد تمت سياسة الاستغلال هذه بشكل أصبح يهدد كيان البلاد الاقتصادي بالإفلاس) هذا ما قالته مذكرة رابطة الدفاع عن مراكش. أما ما لم تقله - ولديّ عنه أخبار وثيقة - فهو الوحشية البربرية المتبعة في نفي الزعماء السياسيين وتعذيبهم واختيار أماكن اعتقالهم، حتى أصبح معظمهم مريضاً بالسل. وهي وحشية مقصودة لتخويف الآخرين!
وليس لأحد أن يشك في صحة هذه البيانات المراكشية، فهناك ما يؤيدها في الجزائر بشهادة الكتاب الفرنسيين أنفسهم. فهي إذن سياسة واحدة تدل على هذه العقلية البربرية التي تعيش بها فرنسا في القرن العشرين في ساحات شاسعة تستحق الاهتمام.
ومما يدل على الظلم والجحود أن هؤلاء الجزائريين والمراكشيين هم الذين نصروا فرنسا في حربين متواليتين؛ فكل الشجاعة التي يتشدق بها الفرنسيون في معركتين كبيرتين في هذه الحرب والحرب الماضية - وهما معركة بئر حكيم ومعركة المارن - كان أبطالها هم الجزائريين والمراكشيين. أما الجندي الفرنسي - الذي يشيع المغرضون عنه خرافة الشجاعة - فقد تحطم وانهارت قواه وهو يدافع عن بلاده في الحربين على السواء
معركة المارن كسبها (الفيلق الإفريقي) وكانت نقطة التحول في الحرب العظمى. ومعركة بئر حكيم ثبت فيها الجزائريون واللبنانيون. ومعركة الصحراء الغربية كسبها جنود مستعمرة تشاد وإفريقية الاستوائية. أما الجندي الفرنسي فقد انهارت قواه أو استأسر استسار الجبان في كل مكان!
ثم تكون المكافأة التي يوحى بها الجحود لهؤلاء الذين نصروا فرنسا مرتين في ربع قرن هذه هي المعاملة القاسية!
ولكن مما يعزى الشرق العربي أن فرنسا قد انتهت - على الرغم من كل تشبث لها بالبقاء - انتهت، ومن واجب الشرق العربي أن يدق المسامير في نعشها
وآية انتهائها هو هذا الجمود في سياستها وعقليتها الاستعمارية، بينما الآخرون يحاولون التجديد، ولو في الألفاظ والأساليب
ففرنسا قد استحالت أمة جامدة متمسكة بكل وضع قائم تمسك الغريق. كانت هي الأمة الجامدة المحافظة في إلغاء الامتيازات بمصر بمؤتمر مونتريه. وكان هذا موقفها مع سورية ولبنان، فلم تبرم معهما المعاهدة التي اتفقا عليها، وكانت النتيجة أن فقدت نفوذها كله. وبالمثل كان موقفها في هيئة الأمم المتحدة وهي تتمسك بالاستعمار والانتداب ولا تقبل كلمة (الوصاية) كما قبلتها إنجلترا الماكرة المرنة اللعوب!
هو التحجر. وهو آية الفناء. فليعمل كل عربي مخلص على الإسراع بهذه النهاية السعيدة. وليكن اهتمامنا بالشمال الأفريقي العربي ضربة حاسمة في دق المسمار الأخير.
سيد قطب