مجلة الرسالة/العدد 657/في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
مجلة الرسالة/العدد 657/في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 25 -
ج2ص192: جواب الخوارزمي (عن رسالة الهمذاني): شريعة ودي لسيدي إذا وردها صافية، وثياب بري إذا قبلها ضافية، هذا ما لم يكدّر الشريعة بتعنته وتعصبه. ولم تحترق الثياب بتجنيه وتسحبه، فأما الإنصاف في الإخاء فهو ضالتي عند الأصدقاء، ولا أقول:
وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يرق ويصفو إن كدرت عليه
فإن قائل هذا البيت قاله والزمان زمان، والإخوان إخوان، وحسن العشرة سلطان. ولكني أقول: وإني لمشتاق إلى ظل
رجل يوازنك المودة جاهداً ... يعطي ويأخذ منك بالميزان
فإذا رأى رجحان حبة خردل ... مالت مودته مع الرجحان
وقد كان الناس يقترحون الفضل فأصبحنا نقترح العدل، وإلى الله المشتكى لا منه.
قلت: أغلب الظن أن الأصل (ما لم تكدر الشريعة. . . ولم تخرّق الثياب) بالخاء لا بالحاء. وعجز البيت الأول هو: (يروق ويصفو إن كدرت عليه) والبيت الأول لأبي العتاهية، وقبله:
عذيري من الإنسان لا إن جفوته ... صفالي ولا إن صرت طوع يديه
والبيتان صوت، في الأغاني في خبر:
(قال علّويَةْ: فدخلت إلى المأمون فأقبلت أرقص من أقصى الديوان، وأغني بالصوت (بالبيتين) فسمع المأمون والمغنون ما لم يعرفونه فاستضرفوه، وقال المأمون. ادن يا علويه، ورده، فرددته عليه سبع مرات، فقال لي في آخرها عند قولي (يروق) يا علويه: خذ الخلافة، وأعطني هذا الصاحب).
وجواب الخوارزمي عن رسالة الهمذاني (وما أوردته هو قسم منه) لم أجده في رسائل أبي بكر المطبوعة في قسطنطينية سنة 1297 كما لم أجد رسالة أخرى للخوارزمي رواها ياقوت وذكره الهمذاني في حديث المناظرة المشهورة. وهذه الرسالة جواب عن رسالة للهمذاني. ولا ريب في أن الرسالتين هما للخوارزمي وفقدهما في تلك الط خلوها من غيرهما.
يقول الإمام الثعالبي في اليتيمة: أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي باقعة الدهر، وعلم النثر والنظم، وعالم الفضل والظرف، وكان يجمع بين الفصاحة العجيبة والبلاغة المفيدة، ويحاضر بأخبار العرب وأيامها ودواوينها، ويدرس كتب اللغة والأدب والنحو والشعر، ويتكلم بكل نادرة، ويبلغ في محاسن الأدب كل مبلغ، ويغلب على كل محسن بحسن مشاهدته، وملاحة عبارته، وديوان رسائله مخلد سائر، وكذلك ديوان شعره.
وفي (وفيات الأعيان) أبو بكر أحد الشعراء المجيدين الكبار المشاهير كان إماماً في اللغة والأنساب، وله ديوان رسائل وديوان شعر، وكان يشار إليه في عصره، وهو إن أخت محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ، مات سنة (383).
وجاء في (بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة) قال الحاكم: كان واحد عصره في حفظ اللغة والشعر.
ذلكم أبو بكر الخوارزمي، وتلكم منزلته، فلن تخدع أحداً براعة (البديع) وشيطنته وشعبذته في رسالته ذات الأفانين في تلك المناظرة. ومن يصدق أن الخوارزمي لا يعرف (أن للشاعر أن يرد ما لا ينصرف إلى الصرف كما أن له رأيه في القصر والحذف) ويجهل أن معنى (كند النعمة كفرها) ويقول: (ذئب غاض. . . يأكل الغضا) وينظم (تسعة أبيات جمع فيها بين إقواء وإكفاء وإخطاء وإيطاء) فيقول البديع (لمن حضر من وزير ورئيس وفقيه وأديب: أرأيتم لو أن رجلاً حلف بالطلاق الثلاث لا أنشد شعراً قط ثم أنشد هذه الأبيات فقط، هل كنتم تطلقون امرأته؟ فقالت الجماعة: لا يقع بهذا الطلاق. . .).
من يصدق هذا الشيطان (بديع الزمان) في الذي نمقه وزوقه، وقد سمعنا قصته، وغابت عنا مقالة خصمه وإن أيقنا بأن بداهة الفتى أعجزت روية الشيخ. ورسائل الخوارزمي تحقق قول الثعالبي وغيره فيه، وتخبر بأن منشيها يفوق الهمذاني علماً وسعة اطلاع. وكلام أحمد بن الحسين الهمذاني ألطف وأرشق، وكلام الخوارزمي أرصن وأدق، وهو مسجع وكأنه مرسل.
ولأبي بكر رسالتان عجيبتان كتب الأولى إلى جماعة الشيعة بنيسابور، وكتب الثانية إلى أبي الحسن البديهي الشاعر. وقد اشتملت كلتاهما على إشارات وأسماء كثيرة تدهشان القارئ، وتطيلان تعجبه من تلك الإحاطة. وتشاكل الأولى في الاستقصاء رسالة أبي العلاء في تعزية خاله ابن سبيكة بأخيه. وتشبه الثانية رسالة ابن زيدون إلى ابن عبدوس الملقب بالفار؛ وهذه مشهورة، شرحها ابن نباتة المصري. والظن بل اليقين أن ابن زيدون قد وقف على رسالة الخوارزمي وقلدها واقتبس منها. ورسالة الأول أطول وأكثر تشعباً، ورسالة الثاني أقصر، والمقصد في الرسالتين واحد، وهو التقريع والتهكم. وهذه الإغارة - وسمها معارضة - لا تنقص شيئاً من مقدار ابن زيدون الشاعر الساحر والناثر القادر، و (الذي رزق السعادة في سعة العبارة) كما قال صاحب (الغيث الذي انسجم في شرح لامية العجم)
أوردُ من رسالة أبي بكر إلى جماعة الشيعة بنيسابور هذه القطعة نموذجاً، وهي العقيدة، وهي الخصومة، وهو الخوارزمي الداهية يلغو (يتكلم) كما يهوى:
(. . . وقل في بني العباس فأنك ستجد بحمد الله تعالى مقالاً، وجل في عجائبهم فإنك ترى ما شئت مجالاً. يجبى فيؤهم فيفرق على الديلمي والتركي، ويحمل إلى المغربي والفرغاني، ويموت إمام من أئمة الهدى وسيد من سادات بيت المصطفى فلا تتبع جنازته، ولا تجصص مقبرته. ويموت (. . .) لهم أو لاعب، أو مسخرة أو ضارب، فتحضر جنازته العدول والقضاة، ويعمر مسجد التعزية عنه القواد والولاة، ويسلم فيهم من يعرفونه دهرياً أو سوفسطائياً، ولا يتعرضون لمن يدرس كتاباً فلسفياً أو مانوياً، ويقتلون من عرفوه شيعياً، ويسفكون دم من سمى ابنه علياً).
ثم يَعلق الخوارزمي يقول. . . ويجول. . .
أخبرني العلامة الأستاذ أمير البيان الأمير شكيب أرسلان أنه كان ينوي شرح هذه الرسالة. وقد ثناه عما نواه أن الشرح يشيّع ناراً أشعلتها المذاهب والمقالات، ويزيد (الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً) تفريقاً، ويظَّلم كباراً لم يكونوا ظالمين، وكانوا خير مظاهرين لشائد هذا المجد. والأمير شكيب يستظهر رسائل الخوارزمي كلها، ذكر ذلك في إحدى مقالاته في جريدة (المؤيد) يوم سأله أحد الأدباء كيف وصل في الكتابة والأدب إلى هذه المرتبة العليا.
وهذه نتف من رسالة الخوارزمي إلى البديهي:
(. . . كأنك لم تخلق إلا لتطمس عين النور، وتقلب أعيان الأمور، وتعكس البدعة سنة حتى كأن سوفسطا استخلفك على جحد ما يدرك عياناً، ويعرف إيقاناً.
(. . . ولو ذوكرت في القائم ادعيت أنه مضى. . . ولو ذكر أبو جهل حكمت له بالإسلام، ولو مررت بإيوان كسرى استقللت بنيانه، ولو رأيت إرم ذات العماد استصغرت شأنه، ولو خوطبت في التراويح أخذت بابتداعها الشيعة، ولو عد الأجبار والتشبيه ألزمت دينهما المعتزلة، ولو حلم الأحنف بن قيس استخففت عقله، واستعظمت جهله، ولو تعجب الناس من بناء الهرمين أخذت تذكر انتقاصه ووهنه. . . ولو فضل التوحيد أفردت به النصارى. . .)
(لقد أعجبت بنفسك الخسيسة التي لا تستحق العجب حتى كأن كسرى أنو شروان حامل غاشيتك، وكأنك قارون وكيل نفقتك، وكأن بلقيس ذات العرش العظيم دايتك، وكأن مريم البتول أمتك، وحتى كأن العود وجميع الملاهي وضعت لطربك، وحتى كأن المريخ يستقي من صولتك ومضائك، وعطارد يستمد من لطفك وذكائك، وحتى كأن زرقاء اليمامة لم تنظر إلا بمقلتك، وكأن لقمان لم ينطق بغير حكمتك، وكأنك بنيت منارة الإسكندرية من آجر دارك، وكأنك علمت زياداً السياسة، وأفدت عبد الحميد الكتابة، ولقنت يحيى بن خالد الفصاحة، وألقيت على الحسن البصري المحبة، وعلى الحجاج بن يوسف الثقفي الهيبة، وحتى كأنك زرعت غوطة دمشق، وشققت أنهار البصرة، وهندست كنيسة الرها، ووضعت قنطرة سنجة. . . وحتى كأن فضائل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من فضائلك مسترقة. وحتى كأن خالد بن الوليد قاتل تحت رايتك، وقتيبة بن مسلم فتح البلاد ببركة دعوتك، وحتى كأنك وضعت التقويم لآدم بن يحيى، وحللت الزيج الأول، وعدلت الطبائع الأربع، وحتى كأنك كشفت لبطليموس الفلك حتى نظر إليه، ومثلت لجالينوس تركيب الجسد حتى وقف عليه، وحتى كأنك أورثت بني أسد العيافة وبني مدلج القيافة، وعلمت شقا وسطيحاً الكهانة، وحتى كأنك علمت حاتم بن عبد الله السخاء، والسموءل بن عاديا الوفاء، وقيس بن زهير المكر والدهاء، وإياس بن معاوية الفطنة والذكاء، وأخذ عنك سيف بن ذي يزن أخذ الثأر، والإدراك بالأوتار، وحتى كأنك لا أحد أعلم منك فأضربه مثلاً، ولا أعلى منك فأجعله غاية وأمداً، ومن شبهك به فقد رد الوصف إليك، ووفره عليك، والقرد لا يشبه بغيره، والراجح لا يوصف بمن تقاصر عن رجحان قدره. . .)
(قد اتفق الناس على ضياع النسخة الأولى من كتاب العين فأمله علينا، وأجمعوا على ذهاب قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود فأخرجهما إلينا، وتخالف الناس في المهدي وشكوا في السفياني وفي الأصفر القحطاني فعرفْنا متى يخرجون؟ فإني أعلم أنهم إليك يختلفون، وفي أمرك ونهيك مترددون، وبمشورتك يغيبون ويحضرون. وآل أبي طالب قد علمت أنهم مسلوبون حقهم، ومغصوبون إرثهم، فتقدم إلى غلامك الدهر بأن يرفع رايتهم، ويرد إليهم ولايتهم. . .)
(. . . إني - وفقدِك - فلا شيء أعز علي منه ولا أحسن منه ما سمعت قول علي بن جبلة في أبي دلف:
إنما الدنيا أبو دلف ... بين بادية ومحتضرة
فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
إلا غضبت عنك عليه، واعتقدت أنه سرق صنعتك، وأعار أبا دلف مدحتك، ولا سمعت قول ليلى:
فتى كان أحيا من فتاة حيية ... وأشجع من ليث بخفان خادر
إلا قلت: فكيف لو رأت ليلى أخاها فتعلم دعواها من دعوانا؟
أنت (رحمك الله تعالى) من أيدي هؤلاء الشعراء الكذابين مرحوم، وفيما بينهم مظلوم؛ سلبوك علاك وهي حلاك، ونحلوها قوماً سواك، والمدح الكاذب ذم، والبناء على غير أساس هدم. . .)
اجتزئي بهذه النتف القصيرة القليلة من تلك الرسالة المتبحبحة المتفننة الطويلة.
وللخوارزمي شعر كثير جيد، منه هذه المقطوعة في نقد الألقاب في زمانه:
مالي رأيت بني العباس قد فتحوا ... من الكنى ومن الألقاب أبوابا
ولقبوا رجلاً لو عاش أولهم ... ما كان يرضى به (للدار) بوابا
قل الدراهم في كفي خليفتنا ... هذا فأنفق في الأقوام ألقابا
وأختم الحديث عن أبي بكر بهذا الخبر الدال على فرط كلفه بالعلم: (قيل لأبي بكر الخوارزمي عند موته: ما تشتهي؟
قال: النظر في حواشي الكتب. . .!)