انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 616/مقالات في كلمات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 616/مقالات في كلمات

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 04 - 1945



للأستاذ علي الطنطاوي

مقدمة

كان عندنا مدرس (فاضل)، يعلمنا إنشاء ولا ينشئ، ويريد أن يجعلنا كتاباً وما كان قط كاتباً ولا صاحب قلم، وكان مما لقننا من مسائل هذا (الفن. . .) ولم نستفد منه لأننا لم نعمل به، أن القطعة الأدبية يجب وجوباً لا جوازاً أن تجيء في أحد عشر سطراً، في كل سطر إحدى عشر كلمة، فإن زادت على ذلك فهو الإسهاب الممل الذي وصفه أهل البلاغة، وإن نقصت فهو الإيجاز المخل، وأن الموضوع إن انتشر على الكاتب واتسع كان عليه أن يأخذ من أطرافه، ويضم بعضه إلى بعض، ولو بتر في سبيل هذا النظام (الأحد عشري) عضواً منه أو هدّركناً، حتى يعود إلى حده، ويدخل في أحد عشر سطراً لا تزيد، وإن ضاق عن ذلك وكان في أقل منه مجزأة ودلالة على القصد ووفاء بالمرام، كان على الكاتب أن ينفخ الموضوع حتى يكبر، أو يركب له فوق أعضاء أخر، ولا بأس أن يخرج مخلوقاً مشوهاً عجيباً. . .

لقد مرّ على هذا المدرس دهر طويل، وأكبر الظن أنه قد ذهب إلى رحمة الله، ولكني كلما عرضت لي فكرة لا تبلغ أن يكتب فيها مقال ذكرته، فأنا أضيع صوراً وخواطر كثيرة لأنها تجئ في الجملتين أو الثلاث ولا تؤلف مقالا، ومن حقها عليّ وحق القراء ألا أضيعها، وأن أدونها كما هي. . .

لذلك فتحت هذا الباب (مقالات في كلمات) أطرقه كلما تجمع لدى من هذه الكلمات ما يصلح للنشر:

ردوا علينا فننا

كنت أجوز أمس سوقاً في حي بلدي من أحياء القاهرة، أسرع الخطو لأنجو من هذا البلاء الذي يأخذ بالعين والأنف والأذن، قذارة ورائحة مزعجة وضجة مدوية، وفي بعض هذا ما يهرب منه، وإذا بي أسمع صوتاً تيقظت له روحي وتنبهت أعصابي، صوتاً منبعثاً من قهوة هناك ذكرني أيامي الخوالي وبلدي ومجالسي لي فيه. وا شوقاه إلى هذه المجالس! صوتاً أبصرته يطفو على وجه هذه الأمواج العاتية من ضجة السوق وصراخ الباعة، يرقص نورانياً، ثم يذهب في جوانب السوق القذرة فيغسلها، ويطهرها ويحيلها جنة شممت عبيرها، ورأيت وردها، وسمعت تغريد بلابلها، ذلك الصوت هو (دور) قديم للصفتي طالما سمعته فلم أمله، ولم تبل في أذني جدته، هو دور (يا الله اصلح الحال) الذي يقول فيه، يصرخ صرخة متألم محروق (أنا على نار في انتظار مطلوبي) و (يا اللي عليك العين تبكي أشوفك فين) يرددها وما أحلى ذلك الترداد إذ يقلب فيه الأنغام والقلوب، وهذا هو سر فننا، وفيه براعة المغنى من مغنينا، أما الغافلون فيسحبونه ترداداً نمطياً، وقولاً معاداً، وهو السحر، وهو الفتنة. . . لقد نسيت منه السوق، ونسيت يومي، وعشت مع هذا العاشق الذي تبكي عينيه على حبيب لا يدري أين مقره ومثواه. وأبصرت مأساته، ولمست جرحه الدامي، وأحسست دمه الآني.

يا ناس، افهموا عنا، وسلوا قلوبكم، ودعوا التقليد، فلئن كان العلم عالمياً لا جنس له ولا وطن، فالفن لعمر الفن ما كان عالمياً ولن يكون. حاولوا أن تطربوا الإفرنج بغنائكم. إنكم لن تطربوهم ولا تطربون أنتم لغنائهم، ولكن منا من يستشعر قوتهم وضعفنا، فيخادع نفسه رياء وتقليداً. يا ناس، هذه أغانينا، لا ما تنقلونه إلينا من هناك. إنها لنا وحدنا. إنها ألفت من خفقات قلوبنا، وأشواق محبينا، وزفرات عشاقنا، ودموع آلامنا، ودماء أكبادنا. ألا ترون المغنى ينطلق بها صوته حراً ممتداً، على حين نرى أصحاب هذا الفن (الجديد)، يغنون ملوية أشداقهم، يعتصرون الحناجر اعتصاراً، فيخيل إليّ وأنا أسمع منهم (آه. . .) وهم يرجمون ألفها، أني أمام نفساء تصرخ من آلام الوضع!

أليس حراماً عليكم يا أيها الموسيقيون، أن تحرمونا هذه المتعة بفننا الذي هو لنا، وأن تأتونا بكل غريب عنا! ألم تدركوا أن أذواق الناس لا تنشرح إلا للشرقي الأصيل؟ أنسيتم كيف هتف السامعون في كل قطر عربي لصوت (على بلد المحبوب وديني) لأنه لحننا، ومعانيه معانينا التي نحس بها؟ ما لنا وللجندول وأهل الجندول؟ ما لنا ولأنغام الإفرنج التي لا طعم لها في حلوقنا؟! إن كان لابد من تجديد. فهاتوا مثل تجديد سيد درويش!

أما إنني قد أعجب بعبد الوهاب، ولكني أطرب لدور الصفتي أما الطرب الحق الذي يهز نفسي ويبلغ قرارتها، فللعتابا الشامية، والأبوذية البغدادية، وهذه الأغاني البلدية المصرية! أي والله وقولوا عني ما شئتم!

لذة الخمول

إن من دأبي كلما هبطت بلداً لا أعرف فيه، أن أجوب طرقاته وأضرب في سككه على غير هدى، أمشي حيث يدعوني بصري وتحملني رجلاى، وكلما رأيت مشهداً استوقفني وقفت عليه، أستمتع بالجديد ألقاه، ولا يلقاه الناس جديداً لطول ألفتهم إياه، وأعجب من الأمر لا يعجبون منه. . . لذائذ خصصت بها من بينهم وحدي!

وأختزن هذه الصور في موضع الذكريات من نفسي إلى اليوم الحاجة إليها، كما يدخر مصور السينما ما يصور من المشاهد ليضعه في مكانه من (الفلم).

وسر المتعة في هذا التطواف أني أرى الناس ولا يرونني، لأن جهلهم بي يصرفهم عن الانتباه إليَّ، فأكون كمن يلبس (طاقية الإخفاء) فيحس الحرية والانطلاق وأنه هو وحده مكافئ لهؤلاء الناس كلهم، وتلك هي لذة الخمول والنكارة، وإنها لأكبر من لذة الشهرة. ولأن أمر في الطريق لا يعرفني فيه أحد أحب إلي من أن يشير بإصبعه إليَّ كل واحد، وإذا كان الرجل المعروف يزهى وينتفخ فإنه يتقيد ويتضايق إذ يحس أنه مراقب، تعد عليه أنفاسه، وتحصى حركاته وسكناته، وإن المجهول المغمور أهدأ منه بالاً، وأسعد حالاً. . . فلا تحسدوا أهل الشهرة على شهرتهم، بل اغبطوا أهل الخمول على خمولهم. . .

مجلة أوتوماتيكية:

من أعجب ما رأيت في مصر، وما أكثر عجائب مصر، مجلة لا يدري صاحبها من أمرها إلا أن يرسل الورق إلى المطبعة وأن يدفع الحساب، أما الكتابة فيها وإعداد مقالاتها فيقوم به صاحب المطبعة بالمقص، فهو يقطع من الجرائد والمجلات والرسائل ما يراه يصلح لها، والمنضد يصف حروفه، والطابع يطبعه، ثم ترسل المجلة إلى المشتركين والباعة، وأعجب من هذا كله أن صاحبها المكتوب اسمه في رأسها بالقلم الجلي لا الثلث، لا يقرؤها ولا يطلع عليها أبداً، ولا يحاول أن يعلم ما الذي نشر فيها. . .

. . . والناس يسمونه صحفياً، وأديباً، وكاتباً، ووزارة المعارف - فيما سمعت - تشتري من مجلته أكثر مما تشتري من مجلة الرسالة مثلاً. . . ويقال بأن هذا العصر عصر الحقائق، لا عصر التدجيل!

التطبيع:

التطبيع: هو الخطأ المطبعي كما سماه الأديب الضليع واللغوي المحقق، الذي لم يسم عضواً في المجمع اللغوي في مصر، النشاشيبي.

وإن في قلبي من التطبيع لحزات وغصصاً، أكتب المقالة وأبعث بها إلى المجلة، فتجيئني وقد حرفت فيها الكلمات وصحفت، وبدلت وغيرت، وزلزلت عن مواضعها وزحزحت، وأتى بما لا يخطر لي على بال ونسب إليّ ووضع عليه اسمي، ولو عرفت العامل الذي صنع بي ذلك لأخذت بخناقة، ثم لم يشف غيظي منه إلا أن أنزل عليه ركلاً ولكماً، ولكني لا أعرفه ولا أناله، فليعلم ذلك القراء، حتى إذا استشكلوا شيئاً أو وجدوا خطأ قدروا الضمير المستتر فيه إلى العامل قبل إعادة الضمير فيه إليّ، أو سألوني عنه قبل أن يأخذوني به.

القاهرة

علي الطنطاوي

تصويب

وقع تطبيع في مقالة (كلمة لا بد منها) في العدد 615 من الرسالة وهو:

الخطأ

العمود

السطر

الصفحة

الصواب

ردّه

2

2

392 ردَّ

يشنعوا

2

9

392

يشفق

يخرج

2

9

392

لا يخرج

فلا ينشر

2

12

393

ينشر

نصل

2

13

393

نصل إليها