انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 616/صلوات فكر في محاريب الطبيعة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 616/صلوات فكر في محاريب الطبيعة

مجلة الرسالة - العدد 616
صلوات فكر في محاريب الطبيعة
ملاحظات: بتاريخ: 23 - 04 - 1945



للأستاذ عبد المنعم خلاف

مع العالم الأكبر

لنا نحن الآدميين عالم صغير، هو الأرض. شغلنا به وبصغاراته عن العالم الأكبر وغاياته، بل إن لأكثرنا عالماً لا يعدو أن يكون بيته أو حجرته أو حقله أو وظيفته أو ديناره أو كأسه أو بطنه، إلى آخر هذه التفاهات.

وقد مضينا نقطع العمر هكذا دائرين على هذه الصغارات كما يدور الذباب على القاذورات والعفونات. . . وكأنه لا يعنينا من شأن هذا العالم الأكبر الذي نرى معالمه العظيمة في السماء تضيء لنا، وتنادي عيوننا بنورها إلى النور الأكبر الذي يضيء ذلك العالم، ما نراه ولا ما نراه، لنتجه إليه بآمالنا وأفكارنا ومساعينا، ولتتسع سماحة نفوسنا باتساع عالمنا الذي يشغل بالنا؛ فإن الذي يتجه إلى الكثير ويعنى بالعظيم، قليلاً ما يخاصم على القليل والحقير. وإن السر في سماحة النفس التي شغلتها السماء فلم تخلد إلى الأرض، هو هذا الاتجاه إلى مفاتح الرحمة وكنوز الثراء وخزائن النور الأعلى!

لهم عذرهم أولئك الذين مضوا قبل التاريخ، وقبل معرفة جدود الأرض وضآلتها ومركزها الصغير في الكون، أن تشغلهم أنفسهم أو ديارهم الضيقة، أو جزرهم المنثورة في محيط مائي، أو واحتهم الضالة في بيداء، وأن يحسبوا أن العالم ضيق لضيق ما يعرفون. . .

ولكن، لا عذر لأبناء هذا الزمان الذي يتلقى صغارهم وناشئوهم كثيراً من حقائق الكون وأوضاع الأرض وأخبار الأمم مما لم يبسر عشر معشاره لفلاسفة تلك الأزمنة التي خلت وبادت

كما كان يشير الرواد الأولون بأيديهم صوب الدروب والبقاع المجهولة التي كشفوها ورادوها، ينبغي أن يشير الآن رواد الحياة والعلوم للناس إلى الطريق الذي يجب أن يسيروا فيه وحده إلى حقائق الوجود الحالي وعلومه ومعارفه. . . ينبغي أن يشير المعلمون والآباء للأطفال إلى ذلك الطريق. . . ويفتحوا مداركهم على فجاج الحياة ومناجع الأسرار، وأن يشعروهم رهبة الرحلة في هذا الكون!

ينبغي أن يقول الوالد الجسدي أو الروحي لولده عند ما تتفتح مداركه ويستطيع التمييز: بني إني جئت الحياة مثلك. وقبلي جاء أبي وأبو أبي، في حبل نسل طويل يتصل بآدم أبي البشر. . . لنرى هنا ما تراه أنت اليوم بعيونك الجديدة. وقد أصاب عيني الكلال من كثرة التحديق إلى مشاعل النور التي تراها فوق. . . ولم يشغلني عنها من ظلمات الأرض. وحسبك نظرة بالليل الرهيب لترى أن عينيك غريبتان في هذه الظلمات! لأنها لم تصنع لها غربة روحك في كثافة جسمك التي لم تخلق لها. . .

يا بني إن عينيك مخلوقتان لنور الشمس والنجوم التي تعرفها في السماء. . . وكذلك روحك مخلوقة لنور الكون وروحه. ولا تستطيع حياة الظلام الأرضي. . . فأرفع عينيك إلى منابع نورها، وارفع روحك إلى منبع نورها. . . يا بني إننا ألقينا في ظلمات هذه الأرض لغرض عظيم خفي من أغراض واهب الحياة. ثم لا نلبث أن نرفع ونعود إلى ذلك العالم الذي ألقينا منه.

يا بني فكر دائماً في أن تتخذ سلماً تعرج عليه روحك إلى هذا العالم، ولا تخلد إلى الأرض إخلاد حشراتها وحيواناتها الدنيئة. ولا تدم النظر إلى تفاهاتها وحقارتها وضيقها، لئلا يضيق نظرك وخلقك وفكرك، وتعشى عيناك من رؤية النور، وهو ما يجب أن تبصر به. . . شتان بين عقلين أحدهما يحدق في النور والثاني يأبى أن يرفع عينيه إليه.

الأول أوسع وأعلم وأروح. . والثاني أضيق وأجهل وأكثف. . . لأنه مطارد ملهوف خائف من فوات فرصة حياة الظلام التي لم ير غيرها إلى غير رجعة، فهو يملأ منها كل أوعيته، وكلما امتلأ غاص حتى لا يبقى منه على سطحها إلا ما يبقى من فقاعة على سطح وحل وحمأ مسنون!

على عتبة من عتبات الكون!

إنما مثل الله، جل جلاله، مع أحدنا حين أخرجه من العدم إلى الوجود، وأدخله هذه الأرض ليريه من عجائب ملكوته ما يشير به شهوته وتطلعه للخلود، وحبه للمتاع بملكوته وعجائب صنعه، كمثل غنىٍ أخذ بفقير جائع عارٍ إلى قصره الفاخر، وأوقفه على عتبته وفتح له الباب، فرأى من موقفه هذا ما أثار شهوته للطعام والمتاع والسكني في هذا البيت. . . ولا شك أنه سيسأل هذا الغنى ويتمنى عليه أن يمنحه دخول هذا القصر والخلود فيه والمتاع بما به من بهجة وتعاجيب وثراء. . ولا شك أن موقفه الصحيح ينبغي ألا يكون شغل النفس بعتبة المنزل، ورؤية واجهته وحدها بدون تطلع إلى ما وراءها. . .

كذلك هذه الأرض إنما هي عتبة من عتبات ملكوت الله الذي لا نرى إلا جزاءاً ضئيلاً من سطحه في السماء. . . ينبغي لنا ألا نخلد إليها وننسى ما وراءها. بل ينبغي أن نسأل الله مالك هذا الملكوت الأعظم، ونلح في السؤال أن يدخلنا إلى واسع ملكوته ورحاب رحمته وسبحات جماله وأفانين صنعه. . .

ذلك هو الموقف المعقول إن كنا ذوى طبع سليم وعقل غير مصروف ومزاج غير مؤوف!

دود!

رأيت دوداً حقيراً شنيعاً يرعى في جيفة كلب بشراهة، فتذكرت مصيري وفزعت. . .

ثم رأيت فكري يقول في رنة أسف وألم وتحد: أنت يا هذا الدود تأكلني وتمزق أوصالي وتغيبني في جوفك. . . ثم تفنى أنت أيضاً.!

لي الله! لك الله يا جسدي وأعضائي التي تجمعت لأكون! لكما الله يا قلبي ويا مخي! يا موضعي الأسرار الذهبية مني! والله لما اختزنتماه من معاني الحق والجمال والحب والخير والإيمان إن كان مصيرها كمصيركما!

هبوا أحشائي السفلى ومواضع القذر في جسمي تفنى هذا الفناء وتصير إلى المصير الرهيب؛ ولكن ما بال رأسي وقلبي يفنيان مع هذه الأنجاس والأقذار.! ما بال الرأس يساوى القدم واللسان يساوى الظفر!!

أنا فتى هذا الفناء مع الكلاب!!

كلا! لست هذه الأوصال. . . ولكنها دوابي وآلاتي أركبها وأعمل بها، تفنى وتتجدد في حياتي وتتهدم وتتخرب بعد مماتي. . . أنا الساكن المستخفي في جسمي ولا أراه! والذي يحدثني الآن ويحاكمني ويدير هذه الآلات ويوجهها. . ذلك كائن آخر له شأن آخر. . .

إنه هو الذي يتخلى عن تلك الأوصال. وسواء بعده رأس وقدم، وعين وظفر؛ فإنها آلاته ترساً ومسماراً، وجهاً أوقفا، لابد له منها ليعلم بها ما هنا ويستكمل شئونه.

إنه هو الذي ينظر أوصالي في جوف الأرض ويتعجب من شأنها معه الآن، وشأنها بعد أن يتخلى عنها. . .

إنه هو الذي يذكرها الآن بمصيرها لتجد وتعمل وتأخذ نصيبها من الإحساس والشعور والفكر والعلم والقوة والنزوع قبل ألا تستطيع.

أنه راصد يقظ دائماً وراء الحس والفكر، يقول هذا حسن وهذا قبيح، وهذا حق وهذا باطل. . .

إنه من عالم الصحو المطلق، والإدراك الكلي، والخلود السرمدي، والانطلاق الحر، والجمال الدائم. لا يفزع من ذلك المصير الحقير لنعله الباليه التي بها يسير في أوعار الأرض وأشواكها ومجهولاتها ومهولاتها، بعد أن يقضي منها أوطاره. .!

إن هذه الأوصال طين مزوق، لبسته روح الحياة فمنعت عفونته وظلمته، وقللت كثافته. . . ثم لا يلبث إذا فارقته أسرار الحياة أن يختمر ويتخلل، شأنه شأن كل نوع من طين الأرض، يوقد عليه في حرارة الحياة. . . فلا بأس أن يذهب روح الحياة ويتركه يرتد إلى ما كان. . .

ومن الطين وروح الحيوان تولد كائن آخر هو الإنسان الذي يستعلى على ذلك المصير الفاني، ويتعلق بالفكر العالي، والجمال السني، والكمال السري. . . هو الذي فزع حين رأى جيفة الكلب، وأبى حكمه ويقينه أن يكون مصيره مصير روح هذا الكلب، وإن سلم لقميصه المادى أن يجيف كما جيفت جثة الكلب. . .

عطر الخلود ورباه:

خبرت الحب، فلم أره من أشياء هذا العالم الفاني. . . وإنما هو من الخالد. . . هو عطر الخلود ورباه، يهب حين يتماس قلب بقلب فلا يشعر به غيرهما. . .

وإذا صح أن الحب في أكثر حالاته البشرية هو عاطفة مهددة للزواج والشعور بالجنس، أو أنه خدعة لتحقيق مآرب من امتداد النوع. . . وإذا صح أن ثمرة الغريزة هي الولد، والنسل هو امتداد الشخصية الأبوية، وأنه صورة من صور الخلود الذي تتعلق به وتتمناه كل ذات لنفسها. . . إذاً فقد صح قولي، إن الحب هو صبوة النفس إلى عالم الخلد. . .

ويحس الفرد حين يصرعه الحب، ويغدو قلبه في يد هذا الطفل العابث الدائم الطفولة، أنه يتهافت على موارد الحياة، ويهفو قلبه إلى جميع مصادر الأنس والبهجة والتفتح والخفة والطيش إلى ما تعزف النفس عنه حين لا تكون في قبضة ذلك الطفل. وهذا يؤيد عندي أن الحب هو مفتاح الشعور العميق بالحياة، وأكبر دافع إلى خوض غمارها وخبر شعابها.

وليس يكون تصوير الحب أصح وأوفق من تصوير قدماء اليونان إياه، حين صوروه طفلاً. فالشعور بالطفولة وارتداد النفس إليها بين المحبين، هو أخص صفاته وسماته؛ إذ هو يرد الشيخ والكهل إلى حب الحياة والتجمل والتزين لها، كحب الأطفال وتجملهم. . .

ولا غرابة مع هذا أن يكون الحب مستشاراً سيئ الرأي. . . لأن طفولته تمنعه من سداد الأحكام!

عبد المنعم خلاف