انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 585/في الأدب الأندلسي الشعبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 585/في الأدب الأندلسي الشعبي

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 09 - 1944



ابن قزمان

للأستاذ أحمد مدينة

العربية واللاتينية، هما اللغتان اللتان كانتا سائدتين في إسبانيا الإسلامية، وعنهما تفرعت لغتان عاميتان: اللاتينية الدارجة (الرومنسية أو العجمية) لغة الصبيان والأحداث، وأرباب الصناعات والزوجات الإسبانوليات، والعربية الدارجة، متأثرة بالعجمية والبربرية:

داب نعشق لأليمه نجيمه

من يحبك ويموت فيك

إن قتلت عاد يكون بيك

لو قدر قلبي يخليك

لم يدبّر ذا النُّغيمة

يا مطرنَنِ شِلِباطُ (يا مذهول)

تُن حزين تنِ بناطُ (إنك مكروب)

ترى اليوم وَشْطاطُ (ضائعاً)

لم تذقي فيه غير لقيمة

بهذه اللغة نظم ابن قزمان - أبو نؤاس الأندلسي - أزجاله، فطار صيتها إلى مشارق الأرض ومغاربها، وتأثر بها الشعراء الأوربيون في تأليف الأغاني الشعبية لا سيما شعراء (التروبادور) وعلى رأسهم (الكونت ده بواتيي) البروفنسالي

نشأ الشاعر في قرطبة وتوفي أوائل النصف الثاني من القرن السادس بعد أن تجاوز الثمانين سنة قضاها متنقلاً، بين إشبيلية وجيَّان وبلنسيه

كان طويل القامة أشقر الشعر، أزرق العينين، تزوج، ثم هجر زوجه لما لقيه فيها - وفي بنات جنسها - من المكر والخديعة:

أنا تايب يا لس نقول بزواج

ولا بجلوَ ولا عروس بتاج

لا رياسة غير اللعب بالزجاج والمبيت برَّ والطعام والشراب

النسا، كما علمك، الهروب منهم غنيمة

لس نرى لوحدَ منهم ما بقيت في الدنيا قيمة

وسوى تكن فعيني الجديدَ والقديمة

والبعيدَ والقريبَ والسمينة والدقيقة

عاصر من القواد يوسف بن تاشفين وابنه علي وحفيده تاشفين، ومن الأدباء ابن بسام صاحب (الذخيرة) ومن الفلاسفة ابن باجه وابن رشد

في أزجال ابن قزمان يتقلص ظل التأثير الشرقي في الأدب الأندلسي، فلا أطلال، ولا دمن ولا صحراء ولا جمال نجد لها ذكراً في ديوانه، بل هو نفسه يستنكر احتذاء الأقدمين ويمعن في تعرية أزجاله من الإعراب، موجهاً لومه لأستاذه أخطل ابن غارة لالتزامه له:

(ولما اتسع في طريق الزجل باعي، وانقادت لغريبه طباعي وصارت الأئمة فيه حولي وأتباعي، وحصلت منه على مقدار لم يحصله معي زجال، وقويت فيه قوة نقلتها الرجال عن الرجال. وصفيته عن العقد التي تشينه، ومهلته، حتى لان ملمسه، ورق خشينه، وعربته من الإعراب. . . وجعلته قريباً بعيداً، وبلدياً غريباً. ولقد كنت أرى الناس يلهجون بالمتقدمين ويعظمون أولئك المتقدمين يجعلونهم في السّماك الأعزل ويرون لهم المرتبة العليا والمقدار الأجزل، وهم لا يعرفون الطريق، ويذرون القبلة ويمشون في التغريب والتشريق، يأتون بمعان باردة وأغراض شاردة، وألفاظ شياطينها غمز ماردة، والإعراب وهو أقبح ما يكون في الزجل، وأثقل من إقبال الأجل. ولم أر أسلس طبعاً وأخصب رَبْعاً - ومن حجوا إليه طافوا به سبعاً - أحق برياسة في ذلك والإمارة، من الشيخ أخطل بن غارة. فإنه نهج الطريق، وطرق، فأحسن التطريق. ولو لم يكن له رحمة الله من قوة التخيل وصحة المعارضة إلا. . . كقوله: أنا من أهل البادية، ومعي دارا خالية، ملأ بدم الدالية. . . وليس اللحن في الكلام المعرب القصيد أو الموضح بأقبح من الإعراب في الزجل. ولو عاش ابن غارة، وأحضرنا وإياه سلطان وضمّنا قصر، حتى يسمع الغرائب والأسمار لحار، ولعلم أن لنا قصب السبق ولواء الغلب

سمى ديوانه (إصابة الأغراض في ذكر الأعراض) وفيه يصف أعياد المسلمين والمسيحين، ويفرط في ذكر محاسن الغلمان، وامتدح السكارى والمخمورين، ومجالس الشراب، ولا يخفى تبرمه بالصوم:

تركيب الإنسان مذ كان لطيف

وبالصيام قد صرت نحيل ضعيف

رقيق أنا يابس. أصفر نحيف

يحملني البرطال (العصفور) في شان شاله

ولا سخريته بالفقهاء:

اسمع اش قلَّي الفقي: توب، إن ذا فضول أحمق!

كيف نتوب والروض ضاحك والنسيم كالمسك يعبق!؟

فطعن من أجل ذلك في دينه، وكاد يقتل لولا أن لطف به أحد القضاة من أصحابه

وهو إذ ينظم الزجل، لا يعبر فيه دائماً عن إحساسه الشخصي، وإنما يؤلف الكلام لينشده المغني على لسان ملك، أو تاجر أو عبد مسترق أو امرأة. وقد يكون المغني والمستمعون كلاهما من المتسولين والمشعوذين والمحتالين، بل مما لا غنى عنه أن يتألف منهم (الكورس) لترديد (المركز) كلما كف المنشد عن الغناء، وقلما تحتجب - في مثل هذه المحافل الشعبية - العيدان والمزامير والطبول والمصافق وغيرها من آلات الطرب، مع الاستعانة بالرقص في بعض الأحيان.

الديوان

يرجح أن الذي عثر عليه في العراق هو (روسو) قنصل فرنسا في بغداد، ثم بيع للإسكندر الأول قيصر روسيا سنة 1825 فضم إلى المخطوطات الشرقية في المتحف الأسيوي بسان بترسبورج (لنينجراد) وبقي منسياً فيه إلى سنة 1881 حين كتب عنه (البارون ده روزن)، ثم نشره (البارون ده جونزبرج) بالتصوير الشمسي سنة 1896، وضمنه وعدا بإيراد سيرة الشاعر، وترجمة أزجاله ومقارنة لغتها بلهجات الأندلس وشمالي أفريقية، خلال القرن السادس، ولكن الموت أدركه سنة 1910، دون أن يفي بما وعد. ثم جاء بعده المستعرب الإسباني (ريبرا)، فألقى محاضرة عنه طبعت سنة 1912 وفي عام 1933 طبعه (نيكل) في مجلة الأندلس بحروف لاتينية إلى المقدمة، فإنها بالرسم العربي، وعني بذكره بعد ذلك الأستاذ بلينسيا في كتابه (تاريخ الأدب العربي في أسبانيا) المطبوع سنة 1928

وأخيراً يردد في الدوائر الأدبية أن المسيو لاوي بروفنسال شرع في التأهب لنشره

والديوان المطبوع بالتصوير الشمسي منسوخ بخط شرقي (استكتبه لنفسه الأديب محمد بن أبي بكر القطان بصفد المحروسة استحساناً له وغواية فيه)

أحمد مدينة

ليسانسيه في الآداب من جامعة فاروق الأول