انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 585/بعد عامين. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 585/بعد عامين. . .

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 09 - 1944



لصاحب العزة عزيز أباظة بك

(كتب لي أديب جليل الخطر من أدباء الأقطار الشقيقة يقول:

(إنها حية في قلبك لا شك في ذلك. فالرأي عندي أن تبذل لها

غزلك، وتحبس عنها رثاءك))

يا زين عهدُك بي - جُعلت فِداك - ... نفسٌ مُندَّبةٌ وطرفٌ باكِ

وجوانح تُطوى على مُستضعف ... حيران ذاق اليُتمَ يوم نواكِ

يا زين والدنيا قرارةُ شِقوةٍ ... أُترلك مُلِّئتِ النعيمَ هُناكِ

إن كانت استعْدت عليك خطوبها ... فلقد بلغتِ من الحياة مُناكِ

خلَّفتِ نفح الورد في أرجائها ... ومضيتِ: أكرمُ سيرة ذكراك

وذهبتِ ضاحكةَ النضارة والصِّبا ... كالروض سامَرَه الربيعُ البَاكي

عبست لكِ الأيامُ حتى لم تجدْ ... هدفاً لعاصف كيدِها إلاّكِ

ألوتْ بأختك بعد أن فَرَست أخاً ... فمضت. وأعجلَ بعدها أخواكِ

ثُقلت رزيئتُهم علىَّ وإنما ... قد كان أفدح ما حملت أساكِ

يا هجعةَ العين الطويل سهادُها ... كم صدَّعت عني الكرى عيناك

يا قبلة الطلِّ الرفيق سرت على ... خدِّ الشقيق فرفَّ واستحياك

يا همسةَ الشاكي - وخير سِفارة - ... بين الهوى والهجرِ همسةُ شاكي

قلبي وعقلي - قد علمت - كلاهما ... خبرَاك فاصطفياك واعتلقاكِ

لم يحل من حضر البلاد وريفها ... للنفس. إلا حيثما تلقاكِ

ويروق في عينيّ ما استحسنتهِ ... ويهون ما يَزْوَرُّ عنه رضاك

ويهون ضاحي العمر إلا ليلةً ... جادت على طول النوى بلقاك

بتنا بها زوجْين نالا مُنية ... كانت تُخال عزيزة الإدراك

قالت وقلت فلو أصاخ لنا الدجي ... لَرثى لشاكية هناك وشاك

عشنا على سَحْرِ النعيم ونحْره ... حتى تورَّدك الردى فطواك نغدو على ورْدِ الوفاق ونوْرِه ... ونبيتُ لم نعتبْ على الأشواك

فإذا رأيتِ الأمرَ لم أرتحْ له ... شفَّعتُ عطفك واستعنتُ حِجاكِ

وإذا اعتركنا مرة عَرَض الهوى ... فمحي بسحر عصاهُ كلَّ عراكِ

وإذا هفت نفسي لغير كريمة ... جرَّدتِ حزمك طبَّةً ونهاك

فكفْفتها في حكمة ولباقة ... وبلغت بالمس الرفيقِِ مُناك

وإذا النفوسُ إلى توائمها اهتدت ... سعدت. وتلك مراتبُ الأملاك

وإذا أهابت بي العلا شيَّعتني ... بصريمة يقْظي وعزمٍ شاك

ودفعتني ثبْتَ الخطي مُستعصماً ... بالله مُهتدياً بنور هداك

جنبتني زللَ الصِّبا وعثارَه ... ومضي يُهذِّب لي الحياةَ صباك

روَّتْني الدنيا ببعض نعيمِها ... فوجدت أكرمه نعيم رضاك

ولقد دخلتُ عليك من وشْيِ الضُّحى ... روضاً تنفس فيه طيبُ شذاك

أسعى إلى مثواك مشبوبَ الهوى ... وأكاد أومنُ أنني سأراك

وأفضت حتى جئت رفرفَ مضجعٍ ... طُهْرٍ كأركانِ البنيَّة زاكِ

وكأنما إنجاب الرَّخامُ عن الثرى ... فأهلَّ من خَلَلِ الرِّجام ضياك

فشهِدتُ في حلْيِ العروس وعطرها ... نفسي التي ودَّعتُ يوم نواكِ

تلك الصباحة والطلاوة والصبا ... أضفى عليهن الجلال كراك

والماء في قسمات وجهِك لامح ... صاف وسحرُك ساكبٌ وسناكِ

وحُلاك واحدةُ الطراز. ألمْ تصَغْ ... من جوهر الخلق الكريم حُلاكِ

فوضعت خدي حيث خدك ماثل ... ومدامعي تَروْى بها خدَّاكِ

وسكبت في أذنيك ألحان الهوى ... ولطالما هشَّت لها أذناك

ونهلتُ من عينيك سحراً لم يزل ... تحت الترابِ تشعُّه عيناك

وجلوت في فوْديْك بدر دُجُنَّةٍ ... وهصرتُ في عطفيك عودِ أراكِ

ويداي في ذهبيِّ شعرك ضلَّتا ... وتُنهنه الشوق الجموح يداك

ويمجُّ مثلَ الشُّهد فوك وكالطِّلا ... أشتارُ شُهدَك أم أعبُّ طِلاك؟

وأقول في صُعداءِ أنفاس الجوى ... رَيَّا السُّلافة تلك أم رَيَّاك وأقول من سلب الزهورَ رحيقَها ... وهفا إليك بصفوها فسقاك

وأقول والأشجان تنهك مهجتي ... والقلب يصهره الأُوارُ الذاكي

لو قد سألت بنا! فزوجك مُوحش ... وبنوك واجمةٌ وُعشُّك باك

بهواك - والدنيا جناح بعوضة - ... عندي إذا قُرنت بطهر هواك

بالضاحك النشوان من عهد الصبا ... في المشرق المأنوس من مغناك

وبكل ضمة مُتعة وهناءة ... أضفى عليَّ نعيمها حِضناك

وبكلِّ عذبِ اللحن من قُبل الهوى ... نضحت بها شفتي المُلَحةُ فاك

قسما فلم تلتذَّ غيركَ أضلعي ... يوماً ولم يصرخ دمي لسواك

فامضي كأغنية الربيع ترقرقت ... ألوانها في نورِه الضحاكِ

وامضي كنيِّرة السماء كريمة ال ... روحات والغدوات والأفلاك

أملاعبَ الصبواب من حرَم الحمى ... هوجُ الخطوبِ أذلن عزَّ حِماك

راش الزمانُ سهامَها وأحدَّها ... فرماك ثم رماكِ ثم رماكِ

كانت رباك خمائلاً وجداولاً ... وشمائلاً. أمن الجنان رباك؟

المسكُ ليُلك سحرُه وعبيرهُ ... ورقائق الذهبِ الصقيل ضُحاك

وتظلُّ أرواح العشيِّ عواطلاً ... من عَرِفها ما لم تمسَّ شذاك

كيف الغدير السمح. ساق لُجينَه ... فسقاك. والوشىَ البهيجَ كساك

هل لم تزل قبلاتُ ضاحِك مائه ... تترى على صفصافه المتباكي

أم بُدِّلت أمواهُه وخريرُه ... عبراتِ نائحةٍ وزفرةَ شاك

والقصر. كيف مشى الردى في ساحه ... مشيَ الوباء العاصفِ الفتاك

قد كان مرتعَ كل ظبيِ لاعبٍ ... أَنِسٍ. وخيسةَ كل ليث شاك

درجت طفولتنا على جنباته ... ونما هوانا في ثراهُ الزاكي

في كل موضع نبتة من روضه ... ذكرى لموقف لوعةٍ وتشاكي

لما التقينا هاج دمعك أدمعي ... أبكانيَ الشجنُ الذي أبكاك

أبصرتِني فرداً فعاودك الأسى ... لله أيَّ جوًى أثار أساكِ

عزفت عن الشدو الطيور وأجهشت ... أيكاتُك العبْري وجفَّ نداك واغبرَّ مُخضر البساط ونكّست ... تيجانها الزهراتُ في الأشواك

ويقول مطلولُ البنفسج للندى ... يا شدَّ ما نلقي! ألستَ كذاكِ

أنكرانَ أني لم أزل من بعدها ... حيَّا. أنا الميت البطيء هلاكي

أملاعب الصبواتِ قد جرت الرحى ... فعفتك. لم ترحم سوى ذكراك

(ع. ا.)