انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 559/محاورات الموتى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 559/محاورات الموتى

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 03 - 1944



المحاورة الثانية

للكاتب الفرنسي برنار بوفيه دفونتنيل

بقلم الأديب يوسف روشا

أنكريون وأرسطو

أنكريون: شاعر غنائي إغريقي شهير من بلدة تيوس في بونيا ولد حوالي 560 قبل المسيح. كان دأبه التغني بالحب والخمر

أرسطو: من أعظم فلاسفة الإغريق ولد حوالي 384 قبل المسيح. فلما بلغ الثامنة عشرة من عمره ذهب إلى أثينا وتلمذ لأفلاطون عشرين عاما وتلقى بعد ذلك دعوة من بلاط مقدونيا ليعلم الاسكندر، وكان يومئذ في الثالثة عشرة من عمره. ولأرسطو الفضل الأكبر في نشوء الفلسفة والعلوم وازدهارها، وخاصة في العهود التي سبقت النهضة الفكرية والعلمية الحديثة.

ابتداء المحاورة

أرسطو: لم يخطر ببالي أن يجرؤ شاعر غنائي على أن يقارن نفسه بفيلسوف شهير مثلي

أنكريون: أنت رفعت اسم الفيلسوف، وأنا أيضاً أسكرت النفوس بأغاريدي، حتى أصبح الناس يلقبونني بأنكريون (الحكيم) وإنه ليلوح لي أن لقب (الحكيم) لا يقل منزلة عن لقب (الفيلسوف)

أرسطو: إن الذين منحوك هذا اللقب لم يتدبروا ولم يفكروا؛ وإلا فما الذي عملته حتى تستحق أن تلقب بالحكيم؟

أنكريون: أنا لم أعمل شيئاً سوى الشرب والغناء والغزل. وإن من أعجب العجب أن ألقب (بالحكيم) بهذا الثمن البخس، على حين أنك لم تحصل على لقب الفيلسوف إلا بشق النفس. فكم سهرت من ليال محاولاً نظم ما انتثر من علم المنطق الشائك! وكم ألفت من كتب ضخمة في موضوعات غامضة لعلك لم تفهمها أنت نفسك حق الفهم

أرسطو: أعترف بأنك قد توخيت أسهل الطرق إلى الحكمة. ولو لم تكن على جانب عظي من الذكاء لما استطعت أن تبلغ بقيثارك وكأسك من المجد ما لم يبلغه أعاظم الرجال بالدرس العميق والجهد المتصل

أنكريون: إني لأشم من كلامك رائحة التهكم؛ ولكني مازلت أعتقد أن من أصعب الأمور على المرء أن يشرب ويغنى كما كنت أشرب وأغنى، وإن من أسهلها عليه أن يفلسف كما تفلسف أنت. إنك لكي تشرب وتغنى كما كنت أفعل، يجب أن تتجرد من العواطف الجائشة، وألا تطمح إلى شئ ليس إلى حصوله من سبيل، وأن تكون مستعداً لأخذ الحياة على علاتها. وقصارى القول إن هناك عدداً من المسائل الصغيرة يجب على المرء قبل كل شئ أن يتدبرها مع نفسه؛ وأن هذه المسائل وإن كانت لا تحتاج إلى براعة فائقة، لا ينتهي منها المرء إلا بعد عناء طويل. أما أن يفلسف المرء، كما كنت تفعل، فلا يحتاج إلى كل هذا العناء، ذلك لأن الفيلسوف لا يضطر إلى معالجة نفسه من الطموح أو الطمع، وأن من الفلاسفة من تجمع لديه من المنح خمسمائة ألف ريال، ولكنه لم ينفقها كلها في سبيل العلم كما أراد مانحها. وجملة الكلام أن في هذا النوع من الفلسفة أشياء كثيرة تنافي الفلسفة

أرسطو: يظهر أنك سمعت عني وشايات كثيرة منذ هبطت إلينا. ومهما يكن من الأمر فإن مقياس الرجل عقله، وإن أسمي عمل في الوجود هو أن تعين الناس على فهم أسرار هذه الطبيعة واستجلاء غوامضها

أنكريون: إن هناك ما يبرهن على أن الرجال يسيئون استعمال كل شئ. فالفلسفة في ذاتها شئ جميل للغاية؛ ولو أحسن الناس استعمالها لأفادتهم فوائد جليلة جزيلة؛ ولكنهم أشفقو من أن تربكهم إذا هي تدخلت في أمورهم فقذفوا بها في الفضاء لتبحث عن الكواكب وقياس حركاتها، فإذا أعادوها إلى أرضهم استعانوا بها على بحث ما يظنونه هناك. وخلاصة القول أنهم حريصون ما استطاعوا على أن تكون الفلسفة مشغولة عنهم. ولما كانوا شديدي الرغبة في أن يكونوا فلاسفة بأيسر كلفة فقد وسعوا بفضل براعتهم، استعمال هذا اللقب حتى أخذوا يسبغونه في أكثر الأحيان، على الذين يبحثون في قوانين الطبيعة.

أرسطو: وهل ثمة لقب أصلح لهؤلاء من هذا اللقب؟

أنكريون: الفلسفة يجب أن تعنى بالناس فحسب، وألا تشغل نفسها بما عداهم؛ فالفلكي ينظر في النجوم، والطبيب يعنى بالأجسام، والفيلسوف يفكر في نفسه. ولكن من ذا الذي يرضى أن يوضع في مثل هذا الموضع الشائك؟ لا أحد. واحسرتاه! ولذلك سمحوا للفلاسفة ألا يكونوا فلاسفة، واقتنع الجميع بأن يكونوا فلكيين أو أطباء. أما أنا فإني لم أكن بطبيعتي ميالاً إلى الإمعان في التفكير؛ ولكني واثق بأنه ليس في أكثر الكتب الفلسفية فلسفة بقدر ما في بعض قصائدي التي تزدريها هذا الازدراء. وإليك واحدة منها على سبيل المثال:

(لو أن في إمكان (الأصفر الرَّنان) أن يطيل أمد الحياة السريعة الأدبار لكلفت به أشد الكلف، ولملأت منه خزانتي، حتى إذا ما حانت الساعة، ولم يبق لي عند أحد شفاعة، رشوت به الموت ليؤجل حتفي. أما وإن ذهب الدنيا كلها لا يستطيع أن يمد في حياتنا ساعة واحدة، ولا أن ينير حلكة القبر، فلماذا إذن نعنى أنفسنا ونذرف الدمع السخين، بلا جدوى، على مصيرنا المحتوم؟ لا. . . أعط الثروة غيري، فليست لي بها حاجة، ودعني أرتع في ملذاتي، بين أصحابي ولداتي، وليكن نصيبي مما بقى من حياتي تلك الأفراح التي لا يقدر على منحها إلا الحب)

أرسطو: إذا شئت أن تقصر الفلسفة على علم الأخلاق فإنك واجد في كتبي عن الأخلاق أشياء لا تقل إبداعاً عن قصائدك. ومهما يكن من أمر هذا الغموض الذي قد تجده في بعض كتبي، والذي من أجله وبخت أعنف توبيخ، فإنك لن تجده في كل ما كتبت في ذاك الموضوع. لقد أقر العالم أجمع بأنه ليس ثمة أوضح ولا أروع مما قلت في العاطفة

أنكريون: ما أشد خطأك! ليست المسألة مسألة تحديد العواطف على طريقة من الطرق كالذي زعموا أنك فعلت، بل المهم التغلب عليها وقهرها. فالرجال يضعون بين أيدي الفلاسفة أخطاءهم عن طيبة خاطر، للنظر فيها لا لعلاجها. ولقد اكتشف الفلاسفة سر إيجاد قواعد أخلاقية لا تمسهم بقدر ما يمسهم علم الفلك. وكيف نملك ألا نضحك عندما نرى رجالاً يذمون المال وهم أشد الناس تكالباً على اقتنائه؟ ثم كيف نمسك نفوسنا عن الضحك عندما نشاهد أراذل الناس يتشاجرون فيما بينهم على تحديد معنى الشهامة.

(بغداد)

يوسف روشا