مجلة الرسالة/العدد 559/الأنات الحائرة. . .
مجلة الرسالة/العدد 559/الأنات الحائرة. . .
للأستاذ راشد رستم
. . . وبعد فلست حائراً معك حيرتك مع الأنات أو حيرة الأنات معك، أو حيرة الناس من هذه الأنات، فلقد رأيتك بالأمس في الأمر باكياً، وسمعتك اليوم في هذا الأمر ناعياً، وأشهد أني أعهدك في كليهما شاعراً شادياً
إنك عاطفي رفيع، وإنك عاطفي عميق، ولا أقول قد تظهر منك العاطفة وتختفي، ولا أقول هي قد تثور أو قد ترعوى، فإن العاطفة عندك هي منك، وهي قائمة عند المحراب تصلي دائماً
ولقد حزنت عندما وصلتني أناتك، ثم (فرحت) بها لذاتها كما فرحت بها لأنها منك
أخذت أهمس لنفسي مترنما، وحيداً صامتاً، وأحيي بها الحزن صباحا ومغرباً، وستبقى معي آمنة في مكانها الحبيب كما سيبقى رنينها عالياً داوياً - وهكذا في الوقت الذي تبقى كامنة ساكنه هي في الحق ثائرة فائرة. . .
إن مستودعها عندي، رغم جرمه الصغير، واسع كبير يملأ الدنيا حباً، وتملؤه الدنيا تعباً. . .
ولما آنستني (الأنات الحائرة) غير حائرة، ونزلت عندي قادمة راغبة، أقبلت عليها راضياً شاكراً، ثم معها راشد شارداً. . .
وإذا أنا قد تأخرت في النداء فلست مقصراً ولا عامداً ولكنها موجة الأسى تملكت النفس بالهوى والقلب بالجوى فاستكانت الروح نائمة ثم استيقظت على الصوت الذي أبعث اليوم إليك مناجياً. . .
وإن لي من الأصدقاء من هم أهل العاطفة الباكية الشاكية وحملة القلوب الحائرة الثابتة، فذكرتني أناتك بهم كما ذكرتهم بها لأنها إبداع مثل إبداعهم وعواطف من طراز عواطفهم
ذهبت إلى (جوتيه) شاعر الألمان، فإذا به يعجب ويقول وحيد!! لا. لست أنا وحيداً. . . إنني أعيش مع الذكريات والصور العزيزة المحبوبة. . .
ثم التفت إلى كاتب الفرنسيس (أناتول فرانس)، فإذا به يقول وكأنه يرد على صاحبه - مهما حاول المرء فإنه دائماً وحيد في هذا العالم فرجعت إلى صاحب التفكير الواسع السيد جان جاك روسو فإذا هو يلقي القول الهادئ وقد لاقى من الزمان شدته فيقول - كلما كانت الوحدة التي أعيش فيها عميقة شاملة كانت الحاجة أدعى إلى بعض الذكريات لملء هذا الفراغ. . .
ثم اتجهت إلى البحر الزاخر والشاعر الحائر والروح الثائر السيد فيكتور هوجو فإذا به يصيغ القول على طريقته فيقول - إن المفكر المنبت كالصحراء، كئيب رغم الاتساع، مظلم رغم الضياء. . .
ثم رأيتني منذ عشرين عاما أستودع يومياتي الفرنسية في الغرب قولاً لم يتغير معي إلى اليوم، فكنت أقول - إن من لا حاضر له ينظر دائماً إلى ماضيه، ومن كان له حاضر فهو لا يرقب إلا مستقبلاً. ولكن أليست الحياة حاضراً قائما يتحول باستمرار إلى ماض يفوت ولا يموت. . .!
ثم لقيت في طريقي عجوزاً يناجي نفسه ويقول: الماضي! الماضي! هو القوى القدير. هو القوي القدير! الماضي! الماضي. . . فقلت لا حول ولا قوة إلا بالله. . .
ثم ذكرت كلاماً كان عجيباً أن ينشر في (الحديقة والمنزل) وأن تنطوي صفحاتها على هذه العبرات جنب تلك الزهرات مما جعلني اليوم أسأل الأيام هل كان ذلك عن حاجة إلى الذوق، أم هي تنسيقات الحدائق والبيوت، أم هي صفحات الحياة. . .؟
وجدتني (أبكي لأني أرى ما يبكيني. وهذا المحزون اقرؤوه عني السلام. كل له حزن يعنيه، وما عرف الدنيا إلا حزين. .
اسمع التنهدات بعد الضحكات فاسمع ترجيع صدى لحزن مضى. . . ورنيناً لأنين سيأتي. . . وأشعر في ثنايا الضحكة نذير الدمعة. . . وأرى الابتسامة علامة الخوف من قرب الأسى. . .
إن دموع الأحزان هي أنقى دموع الإنسان. . .
والبكاء أول ميراث الأحياء الكرام من الأموات الكرام)
ووجدتني في نفس الحديقة أرى في الوقت ذاته الوجه الجميل في إطار من الزهر الجميل، وأسمع الشعراء يترنمون بأناشيد الربيع، وكان ربيعاً، وأرى الغانيات الحسان يمرن ويسرحن تحت الخمائل وبين الظلال. . .
فرجعت مسرعاً إلى شاعر الحب والحياة السيد الفريد دو موسيه، فإذا به هادئ مطمئن، يلقاني حزيناً باسماً ويقول في صوته الخافت ولغته السهلة النافذة: جميل أن تبكي وجميل أن تبتسم. . .
وأخيراً. . . ذكرت نغمات بكلمات سمعتها من سيدة باسمة الوجه، صبوح نصوح، تترنح وتقول: هل في العالم حزين؟ إنني في عجب! هل من يبكي وهذه الشمس تسطع في السماء، وهذه الأرض سندسة خضراء! لماذا البكاء وهذه الحياة حلم وهي هباء. . . ودمت لأخيك
(المعادي)
راشد رستم