مجلة الرسالة/العدد 53/حديث قطين
مجلة الرسالة/العدد 53/حديث قطّين
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جاء في امتحان شهادة إتمام الدراسة الابتدائية لهذا العام في موضوع الإنشاء ما يأتي:
(تقابل قطان أحدهما سمين تبدو عليه أثار النعمة، والآخر نحيف يدل منظره على سوء حاله؛ فماذا يقولان إذا حدث كل منهما صاحبه عن معيشته؟)
وقد حار التلاميذ الصغار فيما يضعون على لسان القطين، ولم يعرفوا كيف يوجهون الكلام بينهما، وإلى أي غاية ينصرف القول في محاورتهما؛ وضاقوا جميعاً وهم أطفال - أن تكون في رءوسهم عقول السنانير؛ وأعياهم أن تنزل غرائزهم الطيبة في هذه المنزلة من البهيمية ومن عيشها خاصة، فيكتنهوا تدبير هذه القِطاط لحياتها، وينفذوا إلى طبائعها، ويندمجوا في جلودها، ويأكلوا بأنيابها، ويمزقوا بمخالبها.
قال بعضهم: وسخطنا على أساتذتنا أشد السخط، وعبناهم بأقبح العيب؛ كيف لم يعلمونا من قبل - أن نكون حميراً، وخيلا، وبغالاً، وثيرانا، وقردة، وخنازير، وفئرانا، وقِططة وما هب ودب، وما طار ودرج، وما مشى وانساح؛ وكيف - ويحهم - لم يلقنونا مع العربية والإنجليزية لغات النهيق، والصهيل، والشحيج، والخوار، وضحك القرد، وقُباع الخنزير، وكيف نصئ ونموء، ونلغط لغط الطير، ونفح فحيح الأفعى، ونكش كشيش الدبابات، إلى ما يتم به هذا العلم اللغوي الجليل الذي تقوم به بلاغة البهائم والطير والحشرات والهمج وأشباهها. .؟
وقال تلميذ خبيث لأستاذه: أما أنا فأوجزت وأعجزت، قال أستاذه: أجدت وأحسنت، ولله أنت! وتالله لقد أصبت! فماذا كتبت؟ قال كتبت هكذا:
يقول السمين: ناوْ، ناوْ، ناوْ. . . فيقول النحيف: نَوْ ناوْ، نَوْ. . فيرد عليه السمين. نَوْ، ناوْ، ناوْ. . فيغضب النحيف، ويكشر عن أسنانه، ويحرك ذيله ويصيح: نَوْ، نَوْ، نَوْ. . . فيلطمه السمين فيخدشه ويصرخ: ناوْ. . . فيثب عليه النحيف ويصطرعان وتختلط (النّونَوَة) لا يمتاز صوت من صوت، ولا يبين معنى من معنى، ولا يمكن الفهم عنهما في هذه الحالة إلا بتعب شديد بعد مراجعة قاموس القِطاط. .!
قال الأستاذ: يا بني، بارك الله عليك! لقد أبدعت الفن إبداعا فصنعت ما يصنع أكبر النوابغ، يظهر فنه بإظهار الطبيعة وإخفاء نفسه، وما ينطق القط بلغتنا إلا معجزة لنبي، ولأنني بعد محمد صلي الله عليه وسلم؛ فلا سبيل إلا ما حكيت ووصفت، وهو مذهب الواقع، والواقع هو الجديد في الأدب؛ ولقد أرادوك تلميذا هراً، فكنت في إجابتك هرا إستاذاً، ووافقت السنانير، وخالفت الناس، وحققت للممتحنين أرقى نظريات الفن العالي، فان هذا الفن إنما هو في طريقة الموضوع الفنية، لا في تلفيق المواد لهذا الموضوع من هنا وهناك؛ ولو حفظوا حرمة الأدب، ورعوا عهد الفن لأدركوا أن في أسطرك القليلة كلاماً طويلاً بارعاً في النادرة والتهكم، وغرابة العبقرية، وجمالها وصدقها، وحسن تناولها، وإحكام تأديتهالما تؤدى؛ ولكن ما الفرق يا بني بين (ناو) بالمد، و (نو) بغير مد؟. . . قال التلميذ: هذا عند السنانير كالإشارات التلغرافية: شرطة ونقطة وهكذا. قال يا بني ولكن وزارة المعارف لا تقر هذا ولا تعرفه، وإنما يكون المصحح أستاذاً لا هراً. . . والامتحان كتابي لا شفوي. قال الخبيث: وأنا لم اكن هراً بل كنت إنسانا، ولكن الموضوع حديث قطين، والحكم في مثل هذا لأهله القائمين به، لا المتكلفين له، المتطفلين عليه؛ فان هم خالفوني قلت لهم: اسألوا القطاط؛ أو لا فليأتوا بالقطين: السمين والنحيف، فليجمعوا بينهما، وليحشروهما ثم ليحضروا الرقباء هذا الامتحان، وليكتبوا عنهما ما يسمعونه وليصفوا منهما ما يرونه، فوالذي خلق السنانير والتلاميذ والممتحنين والمصححين جميعا - ما يزيد الهرَّان على (نو، وناو) ولا يكون القول بينهما إلا من هذا، ولا يقع إلا ما وصفت، وما بد من المهارشة والمواثبة بما في طبيعة القوي والضعيف، ثم فرار الضعيف مهزوماً، وينتهي الامتحان!
إن مثل هذا الموضوع يشبه تكيف الطالب الصغير خلق هرتين، لا الحديث عنهما؛ فأن إجادة الإنشاء في مثل هذا البابألوهية عقلية تخلق خلقها السوي الجميل نابضاً حياً كأنما وضعت في الكلام قلب هر، أو جاءت بالهر له قلب من الكلام. وأين هذا من الأطفال في الحادية عشرة والثانية عشرة وما حولهما؛ وكيف لهم في هذه السن أن يمتزجوا بدقائق الوجود، ويداخلوا أسرار الخليقة، ويصبحوا مع كل شيء رهناً بعلله، وعند كل حقيقة موقوفين على أسبابها. وقد قيل لهم من قبل في السنوات الخالية (كن زهرة وصف. واجعل نفسك حبة قمح وقل) وإنما هذا ونحوه غاية من ابعد غايات النبوة أو الحكمة؛ إذ النبي تعبير إلهي تتخذه الحقيقة الكاملة لتنطق به كلمتها التي تسمى الشريعة، والحكيم وجه آخر من التعبير، تتخذه تلك الحقيقة لتلق منه الكلمة التي تسمى الفن.
وقد كان في القديم امتحان مثل هذا، لم ينجح فيه إلا واحد فقط من آلاف كثيرة؛ وكان الممتحن هو الله جل جلاله؛ والموضوع حديث النملة مع النمل؛ والناجح سليمان عليه السلام (قالت نملةٌ: يا أيها النمل، ادخلوا مساكنكم، لا يَحْطِمَنَّكُمْ سليمانُ وجنودهُ وهم لا يشعرون. فتبسم ضاحكاً من قولها).
إن الكون كله مستقر بمعانيه الرمزية في النفس الكاملة؛ إذ كانت الروح في ذاتها نورا، وكان سر كل شيء هو من النور والشعاع يجري في الشعاع كما يجري الماء في الماء، وفي امتزاج الأشعة من النفس والمادة تجاوب روحاني هو بذاتهتعبير في البصيرة وإدراك في الذهن، وهو أساس الفن على اختلاف أنواعه: في الكلمة والصورة، والمثال والنغمة؛ أي الكتابة والشعر والتصوير والحفر والموسيقى.
ومن ذلك لا يكون البيان العالي أتم إشراقاً إلا بتمام النفس البليغةفي فضيلتها أو رذيلتها على السواء؛ فان من عجائبالسخرية بهذا الإنسان أن يكون تمام الرذيلة في أثره على العمل الفني - هو الوجه الآخر لتمام الفضيلة في أثره على هذا العمل؛ والنقطة التي ينتهي فيها العلو من محيط الدائرة هي بعينها التي يبدأ منها الانحدار إلى السفل؛ ومن ثم كانت الفنون لا تعتبر بالأخلاق، حتى قال علماؤنا: إن الدين عن الشعر بمعزل. فالأصل هناك سمو التعبير وجماله، وبلاغة الأداء وروعتها؛ ولا يكون السؤال الفني ما هي قيمة هذه النفس، ' ولكن ما طريقتها الفنية؟ وأي عجيب في ذلك؟ أليس لجهنم حق في كبار أهل الفن، كما للجنة حق في نوابغه؛ وإذا قالت الجنة: هذه فضائلي البليغة؛ أفلا تقول الجحيم وهذه بلاغة رذائلي. وكيف لعمري يستطيع إبليس أن يودي عملهالفني. . ويصور بلاغته العالية إلا في ساقطين من أهل الفكر الجميل، وساقطات من أهل الجسم الجميل؟. .
لقد بعدنا عن القطين، وأنا أريد أن أكتب من حديثهما وخبرهما.
كان القط الهزيل مرابطاًفي زقاق، وقد طارد فارة فانحجرت في شق، فوقف المسكين يتربص بها أن تخرج، ويؤامر نفسه كيف يعالجها فيبتزّها، وما عقل الحيوان إلا من حرفة عيشه لا من غيرها. وكان القط السمين قد خرج من دار أصحابه يريد أن يفرّج عن نفسه بأن يكون ساعة أو بعض ساعة كالقططة بعضها مع بعض، لا كأطفال الناس مع أهليهم وذوي عنايتهم. وأبصر الهزيل من بعيد فأقبل يمشي نحوه، ورآه الهزيل وجعل يتأمله وهو يتخلع تخلع الأسد في مشيته وقد ملأ جلدته من كل أقطارها ونواحيها، وبسطته النعمة من أطرافه، وانقلبت في لحمه غلظا، وفى عصبه شدةً، وفي شعره بريقاً، وهو يموج في بدنه من قوة وعافية، ويكاد إهابه ينشق سِمناً وكدْنة. فانكسرت نفس الهزيل، ودخلته الحسرة، وتضعضع لمرأى هذه النعمة مرحة مختالة. وأقبل السمين حتى وقف عليه، وأدركته الرحمة له إذ رآه نحيفاً منقبضاً، طاوي البطن، بارز الأضلاع، كأنما همت عظامه أن تترك مسكنها من جلده لتجد لها مأوى آخر. فقال له: ماذا بك، ومالي أراك متيبساً كالميت في قبره غير انك لم تمت، ومالك أعطيت الحياة غير أنك لم تحي، أو ليس الهر منا صورة مختزلة من الأسد، فمالك - ويحك - رجعت صورة مختزلة من الهر؛ أفلا يسقونك اللبن، ويطمعونك الشحمة واللحمة، ويأتونك بالسمك، ويقطعون لك من الجبن أبيض وأصفر، ويفتون لك الخبز في المرق، ويؤثرك الطفل ببعض طعامه، وتدللك الفتاة على صدرها، وتمسحك المرأة بيديها، ويتناولك الرجل كما يتناول ابنه.؟ وما لجلدك هذا مغبراً كأنك لا تلطعه بلعابك، ولا تتعهد بتنظيف، وكأنك لم ترقطّ فتى أو فتاة يجري الدهان بريقاً في شعره أو شعرها، فتحاول أن تصنع بلعابك لشعرك صنيعهما؛ واراك متزايل الأعضاء متفككاً حتى ضعفت وجهدت، كأنه لا يركبك من حب النوم على قدر من كسلك وراحتك، ولا يركبك من حب الكسل على قدر من نعيمك ورفاهتك، وكأن جنبيك لم يعرفا طنفسة ولا حشّية ولا وسادة ولا بساطاً ولا طرازاً، وما أشبهك بأسد أهلكه ألا يجد إلا العشب الأخضر والهشيم اليابس، فماله لحم يجيء من لحم، ولا دم يكون من دم، وانحط فيه جسم الأسد، وسكنت فيه روح الحمار!
قال الهزيل: وإن لك لحمة وشحمة، ولبناً وسمكاً، وجبناً وفتاتاً، وإنك لتقضي يومك تلطع جلدك ماسحاً وغاسلاً، أو تنطرح على الوسائدوالطنافس نائماً ومتمدداً. أما والله لقد جاءتك النعمة والبلادة معاً، وصلحت لك الحياة وفسدت منك الغريزة، وأحكمن طبعاً ونقضت طباعاً، وربحت شبعاً وخسرت لذة، عطفوا عليك وأفقدوك أن تعطف على نفسك، وحملوك وأعجزوك أن تستقل، وقد صرت معهم كالدجاجة تُسمن لتذبح، غير أنهم يذبحونك دلالاً وملالاً.
إنك لتأكل من خوان أصحابك، وتنظر إليهم يأكلون، وتطمع في مؤاكلتهم، فتشبع بالعين والبطن والرغبة ثم لاشيء غير هذا، وكأنك مرتبط بحبال من اللحم تأكل منها وتحتبس فيها.
إن كان أول ما في الحياة أن تأكل فأهون ما في الحياة أن تأكل، وما يقتلك شيء كاستواء الحال، ولا يحييك شيء كتفاوتها، والبطن لا يتجاوز البطن، ولذته لذته وحدها، ولكن أين أنت عن إرثك من أسلافك، وعن العلل الباطنة التي تحركنا إلى لذات أعضائنا، ومناع ارواحنا، وتهبنا من كل ذلك وجودنا الأكبر، وتجعلنا نعيش من قبل الجسم كله، لا من قبل المعدة وحدها؟
قال السمين: تالله لقد أكسبك الفقر حكمة وحياة، وأراني بازائك معدوما بزوال أسلافي مني، وأراك بازائي موجودا بوجود أسلافك فيك. ناشدتك الله إلا ما وصفت لي هذه اللذات التي تعلو بالحياة عن مرتبة الوجود الأصغر من الشبع، وتستطيل بها إلى مرتبة الوجود الأكبر من الرضى؟
فقال الهزيل: إنك ضخم ولكنك أبله، أما علمت - ويحك - أن المحنة في العيش هي فكرة وقوة، وأن الفكرة والقوة هما لذة ومنفعة، وأن لهفة الحرمان هي التي تضع في الكسب لذة الكسب، وسعار الجوع هو الذي يجعل في الطعام من المادة طعاماً آخر من الروح، وأن ما عدل به عنك من الدنيا لا تعوضكمنه الشحمة واللحمة، فان رغباتنا لابد لها أن تجوعوتغتذي كما لابد من مثل ذلك لبطوننا، ليوجد كل منهما حياته في الحياة؛ والأمور المطمئنة كهذه التي أنت فيها هي للحياة أمراض مطمئنة، فان لم تنقص من لذتها فهي لن تزيد في لذتها، ولكن مكابدة الحياة زيادة في الحياة نفسها.
وسر السعادة أن تكون فيك القوى الداخلية التي تجعل الأحسن أحسن مما يكون، وتمنع الأسوأ أن يكون أسوأ مما هو، وكيف لك بهذه القوة وأنت وادع قار محصور من الدنيا بين الأيدي والأرجل؟ إنك كالأسد في القفص، صغرت أجَمَتُهُ ولم تزل تصغر حتى رجعت قفصاً يحده ويحبسه، فصغر هو ولم يزل يصغر حتى أصبح حركة في جلد، أما أنا فأسد على مخالبي ووراء أنيابي، وغَيْضَتي أبدا تتسع ولا تزال تتسع أبداً، وإن الحرية لتجعلني أتشمم من الهواء لذة مثل لذة الطعام، وأستروح من التراب لذة كلذة اللحم، وما الشقاء إلا خلتان من خلال النفس، أما واحدة فأن يكون في شرهك ما يجعل الكثير قليلا، وهذه ليست لمثلي مادمت على حد الكفاف من العيش - وأما الثانية فأن يكون في طمعك ما يجعل القليل غير قليل، وهذه ليس لها مثلي مادمت على ذلك الحد من الكفاف. والسعادة والشقاء كالحق والباطل، كلها من قبل الذات، لا منقبل الأسباب والعلل، فمن جاراها سعد بها، ومن عكسها عن مجراها فبها يشقى.
ولقد كنت الساعة أختل فأرة انجحرت في هذا الشق فطعمت منها لذة وإن لم أطعم لحماً، وبالأمس رماني طفل خبيث بحجر يريد عقري فأحدث لي وجعاً، ولكن الوجع أحدث لي الأحتراس، وسأغسثى الآن هذه الدار التي بازائنا فأية لذة في السلة والخطفة، والاستراق والانتهاب ثم الوثب شداً بعد ذلك! هل ذقت أنت بروحك لذة الفرصة والهزة، أو وجدت في قلبك راحة المخالسة واستراق الغفلة من فأرة أو جرذ، أو أدركت يوما فرحة النجاة بعد الروغان من عابث أو باغٍ أو ظالم؟ وهل نالتك لذة الظفر حين هوّ لك طفل بالضرب فهوّ لته أنت بالعض والعقر ففر عنك منهزماً لا يلوي؟
قال السمين: وفى الدنيا هذه اللذات كلها وأنا لا أدري؟ هلم أتوحش معك، ليكون لي مثل نكرك ودهائك واحتيالك، فيكون لي مثل راحتك المكدودة، ولذتك المتعبة، وعمرك المحكوم عليه منك وحدك. وسأتصدى معك للرزق أطارده وأواثبه، وأغاديه وأراوحه و. . . فقطع عليه الهزيل وقال:
يا صاحبي، إن عليك من لحمك ونعمتك علامة اسرك، فلا يلقانا أول طفل إلا أهوى لك فأخذك أسيراً، وأهوى عليّ بالضرب لأنطلق حراً، فأنت على نفسك بلاء، وأنت بنفسك بلاء عليّ.
وكانت الفأر التي انجحرت قد رأت ما وقع بينهما، فسرها اشتغال الشر بالشر. . وطالت مراقبتها لهما حتى ظنت الفرصة ممكنة فوثبت وثبة من ينجو بحياته، ودخلت في باب مفتوح، ولمحها الهزيل، كما تلمح العين برقاً أومض وانطفأ، فقالللسمين: اذهب راشداً، فحسبك الآن من المعرفة بنفسك وموضعها من الحياة أن الوقوف معك ساعةً هو ضياع رزق، وكذلك أمثالك في الدنيا، هم بألفاظهم في الأعلى وبمعانيهم في الأسفل. .
مصطفى صادق الرافعي