انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 53/من روائع عصر الأحياء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 53/من روائع عصر الأحياء

مجلة الرسالة - العدد 53
من روائع عصر الأحياء
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 07 - 1934



حياة بنفونوتو تشلليني مكتوبة بقلمه

مثل أعلى للترجمة الشخصية

للأستاذ محمد عبد الله عنان

قد تفوق الحقيقة أحياناً من حيث الغرابة والروعة والميل إلى المدهش الخارق، كل ما يتصوره الخيال المغرق. وهذه ظاهرة نلمسها في كثير من حوادث التاريخ، كما نلمسها في الحوادث الفردية. ومن الأشخاص العاديين من تهيأ له حياة فياضة بالمخاطر والمغامرات المدهشةتجعل منه شخصية فريدة تخلق بذكر التاريخ، وإن لم تؤثر في مجرى حوادثه. وكثيراً ما تبدو هذه السير الشخصية العجيبة برائع حوادثها ومفاجآتها في لون خارق لا تسبغه الحوادث العظيمة على التاريخ نفسه، ولا يسبغه الخيال المغرق على القصة المبتكرة.

ومن هذه النماذج الخارقة للحياة الفردية، حياة الفنان الإيطالي بنفونوتو وهو نموذج ليس له فيما نعتقد مثيل في الغرب أو الشرق؛ ومما يزيد في قيمته وروعته انه صورة رسمتها يد ذلك الفنان البارع الذي نقرأ حياته، عن نفسه وعن حوادث حياته. وكم من تراجم شخصية بديعة انتهت إلينا لشخصيات عظيمة وبأقلام قوية ساحرة؛ ولكنا لا نستطيع أن نلمس فيها رغم روعتها، تلك الحياة المضطرمة التي تفيض بها سيرة بنفونوتو تشلليني. ومن الغريب أن تشلليني لم يكن كاتبا ولا أديبا، يسبغ من أدبه وقلمه على حوادث حياته سحراً وقوة؛ ذلك أن معظم التراجم الشخصية العظيمة التي انتهت إلينا أتيحت لها أقلام بارعة صاغتها في أوضاع أدبية باهرة، وكثيرا ما يتفوق الجمال الأدبي فيها على روعة القصة وسحر الحوادث. ويعرف الذين قرأوا (اعترافات) جان جاك روسو، أو ترجمة المؤرخ الفيلسوف جيبون لنفسه، أي جمال يسبغه القلم ويسبغه البيان الرائع على تلك الصحف الشائقة التي يقدمها إلينا كل من روسو وجيبون عن نفسه، حتى أن سحر البيان ليسمو في مواطن كثيرة، على روعة الحوادث ذاتها. ولكن تشلليني كان اكثر من كاتب وأديب؛ كان فناناً عظيماً تتجلى عبقرية الطبيعة في مواهبه، ويستمد منها سحر البيان وآية الوصف؛ وأنا لنلمس في تلك الصحف القوية التي تركها لنا عن حياته العجيبة، روعة هذه المواهب الساذجة، وتحملنا بساطتها المؤثرة إلى أعماق هذه النفس التي تحدثنا لا بواسطة اللفظ الساحر، ولكن في نوع من الوحي والتأثير الروحي، ونكاد نشعر ونحن نتتبع تلك الصورة الحية التي يرسمها لنا تشلليني عن نفسه، إننا نرى تشلليني نفسه، لا تفصلنا عنه القرون، ونشهد معه تلك الحوادث العجيبة التي يقصها علينا، نشهد أحوال عصره ماثلة أمامنا، في ألوان ساطعة، تسبغ عليها ريشته البارعة كل ما في الحقيقة من قوة وروعة وحياة.

كان تشلليني من غرس عصر الأحياء، ذلك العصر الذي تفتحت فيه مكامن العبقرية البشرية، وأخرجت لنا ثبتاً حافلا من تلك الشخصيات التي يزدان بها تاريخ الإنسانية؛ وقد بزغ فجر هذا العصر في إيطاليا، منذ القرن الرابع عشر، وأشرقت طلائعه على يد دانتي وبتراركا وبوكاشيو وماكيافيللي، وميراندولا وجاليلو، ثم على يد رافائيل سانزيو وميشيل انجيلو وعشرات آخرين من أبطال الفن الرائع ترجمهم لنا جميعا، جورجو فازاري في أثره الضخم؛ وكان بنفونوتو تشلليني من جنود ذلك الجيش الباهر الذي لبث ضوء عبقريته يسطع في جنبات إيطاليا زهاء قرنين. ولم يكن في الصف الأول من ذلك الثبت الحافل، ولكنه يقدم إلينا بحياته الغريبة أقوى وأصدق مثل لعصره، بكل ما فيه من حسنات ورذائل؛ ولا غرو فقد عاش تشلليني في عصر البابوية الذهبي، وعصر الحروب الأهلية والغزوات الأجنبية في إيطاليا، واشترك بقسط وافر في كثير من الحوادث العظيمة التي كانت تهز أسس المجتمع الإيطالي يومئذ، وشهد عن كثب سير أولئك البابوات والأحبار الذين كانت أقوالهم ونزاعاتهم يومئذ كل شيء في الملك والحياة العامة.

ولد تشلليني في أسرة متوسطة الحال في سنة 1500 بمدينة فلورنس (فيرنتزا) التي كانت يومئذ في طليعة المدن الإيطالية الزاهرة، وكانت موئل الفنون والآداب؛ وكان أبوه مهندساً وموسيقياً يجيد العزف بالمزمار، وفناناً يقوم بصنع التحف العاجية الدقيقة؛ وكان يحاول أن يغرس في نفس طفله بنفونوتو حب الموسيقى ويرغمه على العزف والغناء. ولكن بنفونوتو كان يتضجر من الموسيقى، ويؤثر عليها الرسم. ولما بلغ الخامسة عشرة التحق على كره من أبيه بحانوت صائغ ماهر؛ وكان يهوى هذه الصناعة بطبيعته؛ ولكنه لم يلبث أن اضطر إلى مغادرة فلورنس على أثر اشتراكه في شجار دموي وقع بين أخيه وبين جماعة من جند الأمير، وقضى من جرائه بنفي الأخوين من فلورنس؛ فسار تشلليني إلى مدينة سيينا، واشتغل هنالك حيناً لدى صائغ آخر؛ ثم سعى والده لدى الكردينال دى مديتشي الذي انتخب لكرسي البابوية باسم كليمنضوس السابع، فسمح للأخوين بالعودة إلى فلورنس؛ واقترح الكردينال على الأب أن يرسل ولده بنفونوتو إلى بولونيا ليتعلم هنالك الموسيقى على أساتذة الفن بتوصية منه، فاغتبط الأب لذلك أيما اغتباط، وقبل الفتى رغم إرادته لأنه كان يكره الموسيقى وينعتها (بالفن الملعون)، ولبث مدى أشهر يتعلم الموسيقى، ويشتغل أيضاً بصناعته المحبوبة أعني الصياغة وصنع القطع الفنية الدقيقة؛ ثم عاد إلى فلورنس يزاول صناعته حتى اشتهر رغم حداثته، وتحدث الناس بمواهبه. وهنا اتصلت أواصر الصداقة بينه وبين فتى يدعى تاسو، وهو فنان حفار؛ فاقترح عليه أن يسافر الاثنان إلى رومه؛ وكانت هذه أمنية تثير خيال فتى ذكي مخاطر مثل بنفونوتو، فقبل الاقتراح؛ وسافر الاثنان إلى رومه، وكان تشللينى يومئذ في التاسعة عشرة من عمره

وفي رومه اشتغل تشلليني لدى أقطاب فنه، وزاد كسبه، وتفتحت أمامه الآمال الكبيرة؛ وكانت رومه في ذلك العصر مدينة الأحبار، ومعقل الفاتيكان، تنثر عليها البابوية من سلطانها وبذخها وبهائها ألوانا رائعة؛ وكان الاتصال بذلك المجتمع القويالباهر أشد ما يثير طلعة ذلك الفتى الطامح؛ وكانت البابوية وأولياؤها من الأحبار الأكابر يومئذ موئل الفن الرفيع، وملاذ الفنانين الموهوبين؛ فاستقر تشلليني في رومه يرقب فرصه، ولبث إلى جانب عمله يشتغل بدراسة النقوش والصور الخالدة التي خلفها ميشيل انجلو ورافائيل، في صروح رومة؛ ولم يمض سوى قليل حتى أتيحت له فرصة الاتصال بحبر كبير هو أسقف شلمنقة أصلح له بعض التحفوسر من مهارته وعهد إليه بصنع إناء بديع مزخرف؛ وعهدت إليه زوج الأمير تشيجى بصنع حلية من الجواهر. وهنا يفض تشلليني في وصف التحف والحلي البديعة التي كان يصنعها إفاضة تدل على ما كان يجيش به من شغف بفنه ومهنته، وهنا أيضا يطلق تشلليني العنان لأهوائه المضطرمة ويصف لنا بمنتهى الصراحة والجرأة مواطن لهوه، ومواطن عبثه وفسقه مهما كانت من الوضاعة، ويقص علينا كيف أصابه الوباء الذي عصف يومئذ برومة، عقب ليلة غرام قضاها مع فتاة خادمة لبغي حسناء جاءت لزيارة صديق له، فاختص الصديق بها، واقتنص هو الخادمة خلسة عنها. وقد قص علينا روسو في اعترافاته كثيراً من مواطن لهوه وفسقه، في أحاديث صريحة واضحة؛ ولكن روسو يسبغ من بيانه على تلك الأحاديث في كثير من الأحيان لوناً من الحشمة، وتكاد تنم عن شعوره بالآثم والندم واحتقار مواطن الضعف الإنسانية. أما تشلليني فانه يقص علينا تلك المناظر الآثمة بكل بساطة، ويصف لنا طبيعته المضطرمة الجامحة دون استحياء، ويكشف لنا عن دخائل نفسه دون تحفظ، وأخص ما يلفت النظر في ما يقصه علينا من تلك الصفات النفسية، انه

كان كثير الإفراط والعنف، شغوفاً بالمخاطرة، تواقا إلى الانتقام، كثير المجون والاستهتار.

ونجا تشلليني من الوباء، بينما احتمل كثيراً من أصحابه، ولكن رومه لم تكد تفيق من عيث الوباء حتى دهمتها مصائب الحرب والحصار، وزحفت الجنود الإمبراطورية - جنود الإمبراطور شارلكان - على رومه بقيادة الكونستابل دى بوربون (سنة 1527). وهنا يبدو تشلليني في ذروة الجرأة والمخاطرة، فنراه رئيس سرية من الجند المأجورين يتولى حراسة قصر الساندرو دلبيني، ثم يخف مع سيده إلى الأسوار المحصورة ليرى الجيش المحاصر. وفى ذلك الموطن يقص علينا تشلليني قصه لا ينقضها التاريخ؛ وهي أنه حينما اشرف على الأسوار مع زملائه ليرقب سير المعركة، رأى وسط الدخان رجلاً يرتفع عن الجميع، فصوب رصاصه نحوه، وأطلق مع زملائه في تلك الناحية عدة رصاصات، وحدثت على أثر ذلك في قلب الجيش ضجة كبيرة؛ وشاع بعد ذلك أن الكونستابل دى بوربون قد قتل من رصاصة أطلقت عليه من وراء الأسوار. ويدعي تشلليني أنه هو الذي أصاب الكونستابل برصاصه. وليس في ذلك ما ينقضه التاريخ، ولكن ليس فيه أيضا ما يؤيده. فقد سقط بوربون قتيلا في بدء القتال من رصاص الجند المحصورين؛ ولكن ليس ثمة ما يؤيد أن تشلليني هو صاحب الطلقة القاتلة. وعلى أي حال فأن الحادث دليل على جرأة تشللينيووافر شجاعته. ولم يمنع مقتل بوربون جنوده من اقتحام المدينة، فدخلوها في عدة مواضع دخول الضواري المفترسة، وأضطر البابا كليمنضوس السابع أن يفر مع بطانته إلى حصن سانت انجيلو الذي يتصل بقصر الفاتيكان بأقبية سرية؛ وكان ذلك الحصن الشهير الذي ما يزال إلى اليوم قائما في رومه على ضفة نهر تفيرى، من أمنع وأعجب معاقل العصور الوسطى، يلجأ إليه البابوات بكنوزهم كلما دهم رومه خطر السقوط في يد العدو، ويتخذ في أوقات السلم سجناً تزج إليه البابوية أعداءها. واختار الجنرال دى مديتشى قائد الحرس تشللينلي ضمن حرس الحصن إذ كان يعرف شجاعته؛ وكان الحصن مجهزا بالمدفعية من جميع نواحيه، فانتخب تشللينيليتولى إطلاق إحدى وحدات المدفعية، ولبث مدى شهر يتولى هذه المهمة. ويقول لنا تشلليني انه أتى في ذلك بالعجب العجاب، وحصدت قنابله كثيرا من جند العدو، وباركه أكابر الأحبار وهنأوه على براعته. وفى خلال ذلك استدعاه الباباكليمنضوس، وكان قد عرفه من قبل وعهد إليه بصنع بعض التحف وأعجب بافتنانه، وطلب إليه أن يقوم باستخراج جميع التحف والحلي الرسولية من علبها وإطاراتها الذهبية؛ وبعد أن خبا البابا الجواهر في بطانة ثيابه وثياب بعض خواصه، أمره أن يصهر القطع الذهبيةسرأ؛ فأخذتشللينيواشتغل بصهرها في ركن صغير إلى جانب مدفعيته؛ ولبث أثناء العمل يطلق القنابل على جند العدو؛ وهنا يقول لنا تشلليني انه أطلق قنابله ذات يوم على فارس يسير حول خنادق العدو فأرداه وتبين انه هو البرنس دى اورانج كبير الجيش المحاصر.

وبعد أيام قلائل عقد الصلح؛ وسار تشللينيإلى فلورنس ليزور أباه وأسرته، ملئ الجيب، يركب فرساً جميلاً، وورائه خادم خاص. وبعد أن مكث قليلا سار إلى مانتوا ليزورها، واتصل بأميرها دوق مانتوا، وصنع له بعض التحف الجميلة. ثم عاد إلى فلورانس، فألفاها تتاهب للدفاع عن نفسها ضد جنود البابا كليمنضوس، فاعتزم أن يشترك في الدفاع عن وطنه، ولكن البابا كليمنضوس أرسل يستدعيه إليه، ويعده بوعود حسنة، فعاد إلى رومه، واستقبله البابا مراراً، وعهد إليهبصنع حلي وتحف خاصة بثيابه وتاجه، ثم عهد إليه بصنع نماذج للنقود تستعمل في دار الضرب البابوية، وأبدى تشللينيفي ذلك كله من المهارة والدقة ما جعل البابا يضاعف له العطف والبذل ويعينه ناظراً لدار الضرب. وهنا وقع حادث جديد يدل على صرامة تشللينيوعنفه؛ ذلك أن أخاه الأصغر جوفانيالذي كان يومئذ في رومه ضمن جند الدوق الساندرو دى مديتشي اشتبك وبعض فتيان من صحبه ذات مساء مع جماعة من الحرس كانت تقود إلى السجن صديقاً لبعض أولئك الفتيان، فأصيب جوفانى خلال المعركة بجرح خطير، وحمل مغشياً عليه إلى قصر الدوق الساندرو، فهرع إليه بنفونوتو، ولكنه أسلم الروح بين ذراعيه؛ وعرف بنفونوتو الرجل الذي طعن أخاه الطعنة القاضية، فسار إلى منزله ذات مساء، وكان الرجل يتنزه أمام داره، فطعنه بخنجره طعنة نجلاء خر لها صريعاً، وبذا انتقم لأخيه وشفى نفسه. وعاد إلى عمله كأن لم يحدث شيء. وكان القانون يومئذ صريع الجاه والهوى، فمن كان ذا جاه أو حماية استطاع أن يجري القصاص لنفسه وأن يستبيح دم خصومه

واستمر بنفونوتو حيناً يقوم بخدمة البابا، فأعاد صنع التحف الرسولية كما كانت قبل الحصار، وكلفه البابا بصنع تحف أخرى، فوضع رسومها ونماذجها، وكان البابا دائماً فارغ الصبر يستحثه على السرعة، وبنفونوتو لا يدخر وسعاً في العمل، وأصابه ذات يوم مرض في عينيه، وعاقه عن العمل حيناً، فغضب البابا واعتقد البابا انه يتقاعد عن إتمامه قصداً، وكان ثمة بعض رجال البطانة ممن يحقدون على بنفونوتو، ويستكثرون عليه هذه الرعاية، يدسون دائماً حقه ويلتمسون الفرص لإحفاظ البابا عليه بحجة انه مقصر في أعمال قداسته وانه كثير الحب للمال لا يقنع أبداً بما يدفع إليه من الأجور والهبات، وأنه كثير الادعاء والغرور؛ فأثمرت هذه السعاية ثمرها، وطلب البابا من بنفونوتو ما لديه من تحفه، فامتنع من بنفونوتو من تسليمها بحجة أنها لم تتم وانه لم يقبض أجرها، فقبض عليه بأمر البابا، وأخذت التحف قسراً عنه، ثم أطلق سراحه؛ بيد أنه كان قد فقد عطف البابا. فحاول أن يجد يومئذ عزائه في الحب وكان قد تعرف بسيدة صقلية ذات ابنة حسناء، هام بحب الابنة، واعتزم أن يختطفها ويفر بها إلىفلورنس.

ولكن الأم شعرت بمشروعه، فسافرت مع أبنتها خلسة إلى صقلية؛ ولجأ بنفونوتو إلى ساحر في رومه ليعاونه على الاجتماع بحبيبته، ولبث أياماً يحضر الجلسات السحرية خارج رومه؛ ولكنه لم يفز طبعاً ببغيته. ثم نسى غرامه، ووجد عزاءه مرة أخرى في فنه وفي التماس صنعبعض الحلي والتحف النادرة التي تدلل على أنه أستاذ عصره، وانه لا يجارى في ابتكاره وبراعته.

(للبحث بقية)

محمد عبد الله عنان المحامي