مجلة الرسالة/العدد 486/يوم من أيام دمشق الخالدة
مجلة الرسالة/العدد 486/يوم من أيام دمشق الخالدة
وفاة الإمام ابن تيميه
في 20 ذي القعدة سنة 728 هـ
للأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر العام في سورية ولبنان
(في شهر أغسطس الماضي أم دمشق الأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر العام في سورية ولبنان، فزار فيما زار قبر
الإمام ابن تيميه، ووقف عليه مستحضراً سيرته، مستذكراً
نبوغه، ثم كان من وحي هذه الوقفة الشاعرة هذا المقال القيم)
في سحر ذلك اليوم نعى المؤذن بمنارة القلعة شيخ الإسلام ابن تيميه وتناقل نداء ذلك الحراس على أبراجها فأذاعته المآذن من الجوامع والمساجد الأخرى، فأصبح الناس في اليوم التالي وقد سرى هذا النبأ بينهم، وغمرت المدينة موجة حزن وأسف عندما سمعوا بنبأ هذا الخطب الجسيم الذي أصابهم بفقدان العالم الإمام المجاهد الفقيه الحافظ الزاهد العابد القدوة شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيميه.
وكان الشيخ محبوساً بالقلعة التي أمر نائبها بفتح أبوابها، وجلس في حجرة الوفاة يتقبل المعزين وقد اجتمع بها خلق من أصحاب الشيخ ورجال الدين وغيرهم من أعيان البلد. أما جماهير الشعب فقد أحاطت بالقلعة ووفدت عليها من أحياء الصالحية ومن جهات الغوطة والمرج بعد أن أقفلت المدينة أسواقها.
ويطنب المؤرخون في وصف ذلك اليوم وكيف تلقى الناس أخباره، وكيف ساروا في جنازة الشيخ عشرات الآلاف، وكيف اقتحموا باب القلعة ودخلوا زرافات على الشيخ يقبلون وجهه، وكيف امتلأت أرجاء قلعة دمشق وضج الناس بالبكاء والنحيب عليه والثناء والدعاء والترحم له.
فقالوا إن يوم جنازة ابن تيميه كان يوماً مشهوداً لم تر مثله دمشق في تاريخها، إلا أن يكون ذلك في أيام بني أمية حينما كانت قلب العالم المتمدين.
ولما أريد الصلاة عليه بجامع أمية خفت الجماعات إليه حتى امتلأت الرحبات والصحن وجيء بالجند لحراسة النعش؛ ولما صُلي عليه صاح صائح يقول: (هكذا تكون جنائز أهل السنة!) وخرجت جنازته من باب الجامع إلى مقابر الصوفية مارة بباب الفراديس وباب النصر وباب الجابية والقوم حولها خاشعون.
من هذا الشيخ الذي ارتجت له الشام بأسرها ونعته مآذن مصر، وأقيمت له كبرى جنائز أهل السنة بدمشق، ورفعته الجماعات إلى مصاف الأبطال برغم كونه سجين السلطة الحاكمة؟ ومن الذي ألقى الناس المناديل والعمائم على نعشه؟ ومن كانت تخشاه الدولة في الشام ومصر، ثم مات وعلى رأسه عمامة بيضاء بعذبات مغروزة وقد علا بعض رأسه الشيب؟
من هذا الذي فاضت روحه وقد تمتمت شفتاه بالآية الكريمة: (إن المتقين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر) فكانت نهاية ثمانين ختمه لكتاب الله بدأها عند دخوله المعتقل، وبدأ الحادية والثمانين فأسلم الروح وهو يتلو هذه الآية الكريمة؟
لاشك في أنه من أولئك الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله، والدعوة إلى الله، والعمل بما أمر به الله - هو صاحب دعوة قام بها مخلصاً وجهه لله وحده، له مذهبه وآراؤه. ولسنا نعرض لها فإن ما كتب فيها كثير، ولله الحمد، وهو متداول ومعروف، ولكنا نعرض لهذه الشخصية الإنسانية الفذة التي جمعت من الصفات والمزايا ما يضعها في مصاف عظماء الرجال من كل عصر
كان ابن تيميه شخصية فيها من الإيمان والقوة والإخلاص والجرأة والصلابة في الحق ما يجعله عالماً وحده. كان ابن تيميه صاحب رسالة من أولئك الذين بعثوا لينشروا بين الناس تعاليم وأفكاراً ومبادئ تهدم القديم الرث البالي، وتصور لهم المتناقضات السائدة في أوساطهم وتدعوهم إلى كلمة سواء، ثم ترسم لهم قيماً جديدة أخذها الشيخ من كتاب الله وسنة رسوله وهديه والعودة إلى السلف الصالح الذي كانت ترتجف لعزائمه الدنيا. واتخذ له نبراساً لا يحيد عنه هو تصفية العقيدة وتوجيهها إلى التوحيد والخضوع للذات السرمدية الأحدية التي تسيطر على هذا الكون وتقوده إلى الخير الصرف إن تعاليم ابن تيميه خالدة بين الناس، وهي لا تزال تشغلهم وسوف تشغلهم في المستقبل القريب والبعيد، ولكن شخصيته وعمله وبطولته أمور لا تزال خافية على الكثيرين، ولذلك سنحاول أن نعرض لبعض نواحيها. ويسرني أن أكون قد أديت بعض الدين لصاحبها ولمدينة (دمشق) التي ضمت رفاته، ولها في قلبي ونفسي أروع وأسمى مكان
ودمشق إذا افتخرت بتاريخها الخالد وأيامها الغر وآثارها التي نحج من مصر وغيرها لرؤيتها؛ وإذا افتخرت بدولها ورجالها وأبطالها، فمن حقها أن تفخر بابنها البار الإمام ابن تيميه الذي عرض حياته للموت من أجلها، والذي جاهد أكمل جهاد، وذاق مرارة السجن، وتحمل كيد الكائدين، فهو جدير بأن تقام باسمه مدرسة، أو ينشأ باسمه ميدان، أو أن يفرغ لذكراه يوم أو بعض يوم
ابن تيمية المجاهد المرابط ضد التتار
يموج وسط عجيج الناس في دهش ... من نبأة قد سرى في الحي سأريها
(من عمريه حافظ)
كانت سنة 699 هجرية سنة مهولة على البلاد، إذ قصد التتار تحت قيادة قازان الأراضي الشامية، ولم يكن هناك بيبرس أو قلاوون ليحميها أو ليخلق من الهزيمة نصراً كما حدث قبل ذلك في عين جالوت أو مرج حمص
كان التتار يغزون وهم على دين آبائهم؛ أما هذا العام فقد جاءوا واسم سلطانهم محمود، وهم يظهرون الإسلام ومعهم المؤذن والقاضي والشيخ والإمام، ليؤمهم في أوقات الصلاة.
جاءوا إلى الشام، وقد اختل أمر مصر والشام، وانضم فريق من أمراء البلاد إليهم، فسلمهم الجزء الشمالي من سورية بغير قتال
وصلوا النبك، واحتوا القطيفة، وانكفأ جيش مصر والشام إلى البقاع وبعلبك، وفتحت دمشق أبوابها عدا قلعتها العتيدة التي أبت أن تستسلم
وكان ابن تيميه في التاسعة والثلاثين من عمره في حركة دائمة، لا يستقر ولا يهمد، لم يقبل أن تترك دمشق بغير أمن، فذهب مع أعيان البلد وقابلوا عاهل التتار، واحتج عليه قائلاً: (أنت تزعم أنك مسلم، فلماذا أتيت إلينا غازياً وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت؟!)
واشتد اللجاج بينه وبين قازان وقطلوشاه وبولاي. وأتوا للوفد بطعام، فأكلوا منه إلا ابن تيميه. فقيل له: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه مما قطعتم من أشجار الناس؟!
قيل وطلب إليه عاهل التتار الدعاء فقال في دعائه: (اللهم إن كان عبدك محمود هذا إنما يقاتل لتكوم كلمتك هي العليا، وليكون الدين كله لك، فانصره وأيده وملكه البلاد والعباد. وإن قام رياءً وسمعة وطلباً للدنيا ولتكون كلمته هي العليا وليذل الإسلام وأهله فاخذله وزلزله ودمره واقطع دابره) قال هذا وقازان يؤمن على كلامه. ولما خرج الوفد من حضرة العاهل التتري التفت بعضهم إليه قائلاً: كدت أن تهلكنا وتهلك نفسك. والله لا نصحبك من هنا.
والغريب في أمره بعد هذا أن يتبرك به جند التتار ويلوذون به فيدخل دمشق وفي ركابه ثلاثمائة منهم!
كان وقتاً شديداً على الناس، فتحت فيه السجون وخرج منها الأشرار ينهبون، وامتلأت القرى بالجنود، وكثرت المصادرات وراجت الأراجيف والإشاعات؛ كل هذا والشيخ لا ينفك يرأس الوفود ويفك الأسرى ويواسي المرضى
وفي يوم من الأيام رحل جند التتار عن البلاد وانسحبوا إلى عقبة (دمر) ومنها غادروا المدينة تاركين بها أحد الأمراء من الذين انضموا إليهم نائباً عنهم. كل هذا والقلعة صامدة وابن تيميه يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس على الصبر والقتال ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط
وأخيراً انكشفت الغمة بقدوم عسكر مصر وفتح لهم باب الفرج مضافاً إليه باب النصر. وجاء عسكر الشام وعلى رأسه نائب دمشق جمال الدين الأفرم وكان دخولهم في تجمل زائد الوصف.
ابن تيميه يلازم عسكر الشام في تنقلاته
نفخت روح الجهاد في نفسه نشاطاً جعله يختلف عن غيره من شيوخ عصره؛ فهو بمجرد عودة عسكر دمشق لا يتركهم بل يلازمهم في تنقلاتهم وفي ركابه خلق من أهل حوران يدعو إلى الهدى؛ فمر ببعلبك والبقاع وجبال الجرد والكسروان يخطب ويهدي؛ فتاب كثيرون على يديه وحسن معتقدهم، وكان كثيرون لا يحرمون ما حرم الله ورسوله.
وحينما عاد أمير دمشق وقد رأى من عمل الشيخ وفتوته ما رأى أمر لأول مرة أن يتعلم الفقهاء الرمي بالنشاب وأن يستعدوا بتعلم الفروسية وطرق القتال المختلفة ليواجهوا العدو إن حضر، ولا ريب في أن للشيخ يداً في ذلك الرأي السديد.
(البقية في العدد القادم)
احمد رمزي