انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 486/عودة إلى تحفة الأستاذ علي طه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 486/عودة إلى تحفة الأستاذ علي طه

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 10 - 1942



أرواح وأشباح

للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك

- 1 -

اطلع الأستاذ توحيد بك على نقد في (الثقافة) لـ (أرواح وأشباح)، فحرك ذلك نشاطه لاستئناف البحث في هذه الملحمة الرفيعة تحليلاً لمغزى القصيدة، وتعقيباً على رأي الناقد.

(الرسالة)

هي الأرواح والأشباح المائلة في البشر أجمعين، ويمثلها أبطال يحييهم في المخيلة فن الشاعر المبتكر في تحفته العربية. ولا بأس بالعودة إلى الحديث في موضوعها: فإن التحف الفائقة من شأنها أن تحرك الخواطر والخوالج في كل وقت على الدهر، فيكثر الكلام عليها من كل وجه. فلننظر المرة فيما قدم إلينا هذا الشاعر المفلق من صنيع كما هو:

هو قصة الروح والجسد في محاورة مدارها السر في تجاذب الرجل والمرأة، وأثر الغريزة في الفن بينهما. وهذا موضوع جدي بعيد الغور، أحسن معالجته شاعر مثقف، وبناه على أساس متين من وجدانيات وفكر جديرة بالنظر

والفكرة الرئيسية في الموضوع، هي أن بين الروح والجسد تفاعلاً، وبين القيم الأخلاقية والغريزة تدافعاً؛ وإن هذا التفاعل وهذا التدافع هما العاملان الخفيان المسيران للحياة البشرية.

وهذه الفكرة الأصلية مستحكمة في صلب الصنيع، مرفرفة على كلامه من أوله إلى آخره؛ وهي لذلك أس الوحدة الجامعة لأطرافه، يؤيدها سائر الأسباب المتممة لهذه الوحدة المتينة.

أما خلاصة المحاورة فيما يتعلق بأثرالغريزة في الفن بين الرجل والمرأة، فهي أن المرأة تلهم الفنان بجمالها الجسدي وجمالها الروحي فيراها دمية صورت من نقاء، ويرى فيها ما لا تحد النهى، كأنها معنى وراء الخيال. غير أن الشهوة الجائعة فيها، بل الغريزة العاتية فيهما، توقعهما في الخطيئة؛ فالفنان يستلهم الشر سحر البيان، وتصير الفنون رمز الآثام. وتلك حال الآدمية، يريد الفن أن يعلو بها، فيقعدها الجسد بغرائزه. على أن أهل الفن منهم من يحتمل سعير الحياة فتقوى روحه، ومنهم من يعشو بنور هذا السعير فتغلبه الغريزة:

شفت غُلَّة الفن حتى ارتوى ... وإن دِنس الفن من طهرها

خطيئْتها قصة الملهمين ... وإغراؤها الفرح المفتقَد

بأرواحهم يرتقون الخلود ... على سُلَّم من متاع الجسد

وما الفن إلا سعير الحياة ... وثورتها في محيط الأبد

لهيب إذا الروح مرَّت به ... تضاعفتْ الروح في ناره

يُطيق القوى لظى جمره ... ويعشو الضعيف بأنواره

وما الآدمية بنت السماء ... ولكنها بنت ماء وطينّ

يريد لها الفن أُفق النجوم ... فيقعدها جسم عبد سجين

كلام في الفن والفنانين، تتحدث به في السماء أرواح أسماؤها إغريقية مستعارة من الأساطير؛ ولكن هذه الأرواح رموز إلى الآدميين؛ والفنانون بشر على كل حال؛ فحديث الغريزة العاملة فيهم يعني معهم سائر البشر. ولذا جاء الكلام في الفن وسيلة فنية شعرية إلى إبداع ملحمة في شأن الإنسانية منذ نشأتها، ومن أقدم عصور اليونان، ومن أيام السامري وبني إسرائيل وموسى في أرض مدين؛ وتعني البيض وغيرهم، حتى زنوج هاواي؛ وتقص طبيعة البشر وأثر الغريزة في الرجال والنساء طرَّا:

نعم، أنت هن. . . نعم، ما أرى؟ ... أرى الكل في امرأة واحدة

لقد فنيت فيك أرواحهن ... وها أنت أيتها الخالدة

أأبغض (حواء) وهي التي ... عرفتُ الحنان لها والرضى؟

ورثت هواها فرمت الحياة ... وحبَّب لي العالم المبغضا

هو الرجل القلب، لا غيره ... فأودعنه القبس المضرما

إذا ما اقتحمتّن هذا السياج ... فقد خضع الكون واستسلما

(على الأرض)

هنالك حيث تشبَّ الحياة ... وحيث الوجود جنين العدم

وحيث الطريدان شجَّا الكؤوسَ ... ومجَّا صُبابتها من قِدم

(في الزنوج) وما أخطأ الطيف ألوانه ... ولكنه اللهب الأحمر

لهم أعينٌ تتملى الجمال ... وأفئدة بالهوى تشعر

تفَّرد فْهمُ بالخفاء ... وصيغ بفطرتهم واتسم

له بأس (مانا) وإيحاؤه ... إذا اضطربت روحه بالألم

ورقت (هاواي) في شدوها ... إذا جاش خاطرها بالنغم

هم الناس لا يعشقون الخيال ... إذا لم يكن حافزاً للطماع

هم الناس لا يعبدون الجمال ... إذ لم يكن نهزة للمتاع

هم الناس لا يألفون الحياة ... إذا لم تكن معرضاً للخداع

هذا، إلى أن المقدمة الشعرية والملحمة ذاتها تدلان دلالة واضحة على أن الشاعر قد طافت خواطره المجنحة في أحوال البشرية منذ أقدم القدم إلى حاضرها؛ وإن مخيلته الخصبة، وقلبه الفياض، قد تأثرا من عقائد راسخة في نفسه. . . نفسه المستنيرة بأدب جم وبمأثور في الإنسانية؛ وإن هذه النفس الحية، عرتها هزة الإلهام، فتبعث منها هذا الشعور الصادق المشرق الآسر:

(من المقدمة الشعرية)

إلى قمة الزمن الغابر ... سمت ربة الشعر بالشاعر

يشق الأثير صدى عابراً ... وروحاً مجنّحة الخاطر

وأوفت على عاَلم لم يكن ... غريباً على أمسها الدابر

نمت فيه بين بنات السديم ... وشّبت مع الفلك الدائر

مشاهد شتى وعتها العقول ... وغابت صُواها عن الناظر

وجود حوى الروح قبل الوجود ... وماض تمثّل في حاضر

تبدَّى لها فأنجلي شكها ... وثابت إلى وعيها الذاكر

وأصغت فمرّت على سمعها ... رواية ميلادها الغابر

على مذبح الحب من قلبها ... سراج يسِّبح مَن لألأة

وتمشى الحياة على نوره ... وما نوره غير عين امرأة هو الحب؟. . لا. . بل نداء الحياة ... تلبيه أجسادنا الضامئة

يخفّ دمي لصداه الحبيب ... وتدفعني القدرة الهازئة

قلوب تلذّ بتعذيبها ... غرائز عانية عارمة

صحت من خُمار ملذاتها ... تعنِّف أهوائها الآثمة

هو ابن السماء. ولكن ... من النقص تركيبه والتمام

صناع الطبيعة بل صنعها ... فمنا دمامته والوسام

يسفّ إلى حيث لا ينتهي ... ويسمو إلى قمة لا ترام

ويسقى بكأس إلاهية ... مرنَّقة بالهوى والأثام

(من الخاتمة)

غدا تدرج الروح في طيفها ... وما الطيف للروح إلا قناع

سترقد في غورها الذكريات ... وتوقظهن السنون السراع

وتمشي لحاضرها في الحياة ... بمصباح ماض خفي الشعاع

وكم نبأت كالحديث الجديد ... وما هو إلا القديم السماع

من الخير والشر إلهامها ... مقادير تجري بهن اليراع

ما أحب هذا الشعر وأسرعه إلى القلب واللب! وما أنفسه في الأدب! ثم إنه قريب إلى المعقول على نظريتي الحياة في الفلسفة العلمية: النظرية الروحية والنظرية الآلية!

فقد فطر الإنسان على غريزتين أصليتين، تعمل أحدهما على حفظ الفرد وتعمل الأخرى على حفظ النوع، وهذه هي علة التجاذب القاهر بين الرجل والمرأة، ولو بطل عملها لا نقرض النوع

والجسد مكمن الغريزة، أما الروح فهي مجمع الملكات السامية من المخيلة والشعور أو الوجدان والعقل والإرادة؛ وهي مبتدعة القيم الأخلاقية العالية والشعر وجميع الفنون

والإنسان يسف بغرائزه الحيوانية، ويسمو بملكاته الروحية؛ وقد تدرج بها إلى إنسانيته الحاضرة في مراقي أطوار غابت معالمها في غياهب الدهارير. ولاحظ الآدمي في حين من الدهر طواه الماضي السحيق أن هذه الملكات التي يتفوق بها على الحيوان تذهب مع الروح، وإن من فارقته روحه بقي جثة هامدة من اللحم والدم لا تلبث أن تنحل؛ ولذا قيل إن الروح هي الأصل السماوي، وما الجسد إلا شبح تقمصته عند هبوطها من العالم العلوي

والملكات الروحية تؤثر في الجسد وغرائزه، كما أنها تتأثر منها. وما هذا التفاعل مختلف الأثر باختلاف عوامل شتى، كالوراثة والعادة والمعيشة والبيئة؛ مختلف الأثر في كيان كل شخصية، وفي شعورها بالذات والألم؛ وهذان هما سبب الفضيلة والخير، والرذيلة والشر جميعاً؛ والفضائل والرذائل خلال في البشر على نسب متفاوتة؛ فمنهم من هم أدنى إلى الحيوان، ومنهم من هم أدنى إلى الإنسان المثالي. وفي سورة (الشمس): (ونفسٍ وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد افلحَ مَنْ زكاها، وقد خاب من دساها)

تؤثر الملكات في غريزة حفظ النوع التي هي علة التجاذب القاهر بين الرجل والمرأة، فتلطف من حدتها وتهذبها بقيم أخلاقية هي قوام الحياة الاجتماعية؛ ولكن هذه الملكات لا تكف الغريزة عن العمل. ولذا فهي تخفي فعل الغريزة وراء أستار من المعاني والخيالات والأسماء الشريفة، إذ تسمي الجاذبية في الذكر والأنثى جمالاً، وسلطان الغريزة حباً؛ وتسمى اللذة من وصف الجمال والحب، أو من تصويرهما، فنا. بيد أنها لن تستطيع منع السنة الفطرية إن تبلغ غايتها في حفظ النوع. فإذا كان تغلب الغريزة خطيئة آدم وحواء، فهي خطيئة يذوق الإنسان مرغماً مر عواقبها وحلوه، ولن ينال الغفران وإن كفر عنها ما استطاع بفضائله

وفي ذلك حقائق كشفها الإنسان بخبرته وعلمه

وقد نظر الشاعر الملهم في ماضي الإنسانية البعيد وحاضرها، وأرادت خواطره المجنحة سيرة البشر، ثم عرض بفنه الجميل ما جنت من يانع الثمر، في ملحمة من كنه الشعر وسحر البيان.

(البقية في العدد القادم)

محمد توحيد السلحدار