انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 440/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 440/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية

مجلة الرسالة - العدد 440 المؤلف زكي مبارك
مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 12 - 1941


معرض الآراء الحديثة

للدكتور زكي مبارك

كلمة المترجم - كيف يقرأ الطالب هذا الكتاب - تنبؤات سياسية - غاية وطنية - ما هذا الكلام؟ - وما هاذ أيضاً؟ - التماسك في الأخلاق البريطانية - الغيرة على الريف - فكرة فلسفية - وثبة جديدة موضوعات الدرس - اختبار جديد.

(معرض الآراء الحديثة) كتاب ألفه لويس دكنسن، وترجمة محمد رفعت. ونشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهو يقع في 115 صفحة بالقطع المتوسط، وثمنه ستة قروش.

كلمة المترجم

لم يبذل المترجم جهداً في التعريف بالكتاب، ولعله أساء إلى المؤلف بالكلمة التي نص فيها على أن في الكتاب بعض المغالطات وبعض الخطأ في الآراء، فأنا أرجح أن المؤلف قصد تلك المغالطات وتلك الأخطاء، ليبين ما قد يقع في المجتمعات السياسية والأدبية من الانحراف، أو ليتخذ منها وسيلة للنقاش والجدال.

فعلى الطلبة أن يراعوا هذه الناحية وهم يدرسون الكتاب

وحدثنا المترجم أنه حذف عبارات لا يستسيغها الذوق العربي وليته لم يفعل؛ فإن الغرض من نقل المؤلفات الأوربية إلى اللغة العربية يشمل التعريف بما بيننا وبين الأوربيين من اختلاف الأذواق.

وأراح المترجم نفسه من ترجمة العبارات التي وُشِّيت بالتشبيهات والإشارة إلى الأساطير اليونانية في خطبة (فيفيان) لأنه (وجد أن كل عبارة من عبارته تستلزم شرحاً وتعليقاً طويلاً) وبهذا الكسل أضاع فرصة من فرص الترجمة، وهي إعطاء القارئ العربي فكرة عن اتصال التعابير الإنجليزية بالأخيلة اليونانية في بعض الشؤون

فأرجو أن يلتفت المترجم إلى هذه الملاحظات في الطبعة الثانية.

كيف يقرأ الطلبة هذا الكتاب

أراد المؤلف أن يصور الاتجاهات السياسية والاجتماعية والأدبية في بلاد الإنجليز، بأسلوب يشبه بعض الشبه أسلوب أفلاطون؛ فأنطق ثلاثة عشر خطيباً بأقوال تلخص ما كان يعتلج في ضمير المجتمع البريطاني عند تأليف الكتاب، وبهذا صح له أن يسميه (معرض الآراء الحديثة) وهي آراء جماعة بعضهم من المحافظين، وبعضهم من الأحرار، وبعضهم من الاشتراكيين، وبعضهم من الفوضويين وفيهم الأستاذ والصحفي والشاعر والأديب ورجل الأعمال

والمؤلف يصور هذه الجماعة وقد اجتمعت في داره بالريف في ليلة من ليالي يونيه، وقد حملها القيظ على أن تسمر فوق السطح كما يصنع الناس في بغداد، وفي تلك السهرة تحدثت الجماعة بلا تحفظ ولا احتراس، فقال كل خطيب ما قال وهو في أمان، بدون أن يخطر في البال أن كلامه سيدون في كتاب خاص

ويمعن المؤلف في توكيد هذا الخيال الطريف؛ فيشرح كيف كانت الأحوال النفسية لأولئك الخطباء، وكيف كانوا يتبرمون بالجدل من حين إلى حين، كأن يقول على لسان أحد المجادلين: (لقد خلت الحلبة واختفت المقاعد الصامتة في جوف الليل وبدت في ضوء القمر الضعيف أشباح روحانية ترفرف على مشاهد خلافاتنا العارضة، وهذه الأشباح هي التي تقف من خلفنا وتسدد الضربات التي يلوح أنها تصدر عنا، فإذا ما انقضت آجالنا استنفرت هذه الأشباح خلقاً غيرنا للقتال والنزاع، وإذا سحب النسيان ذيله على أسمائنا أحيطت أسماء غيرها بهالات من المجد الفاني. فعلام إذن نقضي الليل كله حتى مطلع الفجر في كدح وضجيج؟ إن سماء واحدة تضلنا، ونجوماً بعينيها تطلع وتغرب علينا، وليست آراء رمنهام إلا زبداً يذهب جفاء، وإن التيار ليجرف الجميع على سواء نحو القدر المحتوم، فلنتقابل ولو فترة قصيرة أمام قوته الصامتة الجارفة، ولنمد أيدينا لنتصافح في هذه اللحظة من وراء المنضدة).

فهذه لفتة أديب متوجع من إيغال أهل الفكر والرأي في الخصومة والعِداء، ولهذه اللفتة نظائر لا تخفى على القارئّ وهي تشهد بروحانية هذا الأديب

وأرجع فأقول إنه يجب على الطالب أن يذكر أن المؤلف يجسم بعض الآراء عامداً متعمداً، ليصح له أن يناقشها بعد ذلك بقوة أو بضعف، ليصور اتجاه الآراء في بلاده أو ليصور اتجاهه الخاص، وإن كان السياق يشهد بأنه نزه نفسه عن التحيز لهذا الرأي أو ذاك.

تنبؤات سياسية

لم يحدثنا المترجم في مقدمته الوجيزة عن التاريخ الذي ظهر فيه كتاب (معرض الآراء الحديثة) ولم أجد من الوقت ما يسمح بتحقيق ذلك التاريخ، فقد كانت النية أن أقرأ الكتاب في القطار وأن أكتب مقالي عنه بالليل، حين أصل إلى أحد البلاد، ولكن رفيقي في السفر وهو الأستاذ محمد خلف الله شغلني عنه بحواره الطريف، فلم يبق إلا أن أقرأ الكتاب وأدّون ملاحظاتي عليه في وقت لا يتسع لما ضاق عنه وقت المترجم المفضال! وهل يطالب المسافر بما لا يطالب به المقيم؟

في الكتاب عبارة تدل على أنه أُلف قبل الحرب الماضية، لأن المؤلف يشير في بعض عباراته إلى (عاهل ألمانيا) وهو بالتأكيد رجلٌ غير هتلر، فهو غليوم الثاني.

وهنا يظهر ما في الكتاب من تنبؤات تصورها العبارة الآتية: (إني أرى المستقبل ينذر بالحروب وإشاعات الحروب ويُخيل إلىّ أن هذه الأمة بنوع خاص قد أصبحت هدفاً لحسد شعوب أوربا وشرهها وكرامتها وأطماعها، وما ذلك إلا بسبب ثرائها وقوتها ونجاحها المنقطع المثيل. أرى هذه الشعوب تتطلع إلى الخارج تبحث عن منافذ لسكانها المتزايدين، ولكنها تجد أن الجنس البريطاني قد سبقها إلى احتلال كل ركن من أركان المعمورة، وأن الراية البريطانية تخفق على جميع جهات الأرض، ولكن أملنا الأكبر في المستقبل ينبعث من هذا الخطر الرئيسي، لأن بلاد الإنجليز لم تعد مقصورة على إنجلترا نفسها، بل إنها قد بذرت في كل قارة من قارات العالم بذوراً حية قوية ترجو أن تتعهدها بالعناية لكي تدب فيها الحياة، فيصبح كل منها عضواً نافعاً قائماً بواجبه في جسم هذه الإمبراطورية، بل إنني لأرى الروح قد أخذت تسري في هذه الأعضاء، وأعتقد أن المستعمرات البريطانية لن ينفرط عقدها فتسّاقط عنا تساقط الفاكهة الناضجة عن الشجرة، ولن تكون ممتلكاتنا غنيمة لغيرنا. وسوف تستيقظ الأمة عاجلاً أو آجلاً لتؤدي رسالتها الإمبراطورية وسوف تخفق معنا إخواننا الإنجليز من وراء البحار، ويكون الاتحاد الذي أتنبأ به هو اتحاد الشعوب البريطانية في جميع أنحاء العالم، اتحاد الإنسانية كلها).

فإن كان هذا الكلام قبل الحرب الماضية فهو عجب، وإن كان قبل الحرب الحاضرة فهو أعجب، وهو نفسه الكلام الذي يهتف به الإنجليز في هذه الأيام، والذي يستنفرون به أنصارهم في الشرق والغرب صباح مساء.

غاية وطنية

وهذه العبارة تدلنا على أن للمؤلف (غاية وطنية)، فهو يريد تنبيه قومه إلى ما يحيط بهم من أخطار بسبب تحاسد الشعوب الأوربية، ويحاول أن يخلق لبلاده عصبية في الأقطار التي تخفق فوقها الراية البريطانية.

ومع أن المؤلف لا يجهل أن أصطرع الآراء المتنافرة قد يعرض بلاده لأخطر المصاعب، مع هذا لا يفوته أن يعرض تلك الآراء بترفق وتلطف، وكأن لسان حاله أو مقاله يشهد بأن تلك الآراء ليست إلا نباتات بريطانية جديرة بالعناية والاهتمام، وإن لم يخل بعضها من شذوذ.

ما هذا الكلام؟

المؤلف حريص على ضرب الآراء بعضها ببعض، ولكنه يتسامح مع الخطيب الذي شرح مزايا الأمة الأمريكية، فما هذا الكلام؟ ولأي غرض قريب أو بعيد استباح المؤلف أن يثني على الأمة الأمريكية بلا اقتصاد ولا اعتدال؟

لذلك أغراض:

الغرض الأول هو التعريف بحقيقة الأمة الأمريكية في مذاهبها المعاشية، وهنا يهتم المؤلف بتقرير ما عليه الأمريكان من احترام الواقع الملموس، وكأنه يدعو قومه إلى فهم هذا الجانب من الذهنية الأمريكية.

يقول الأمريكان: (دعونا نأكل ونشرب) يقولون ذلك وهم مؤمنون إيماناً قوياً صحيحاً، ولا يزيدون عليه ذلك القول المتبط السقيم (فإننا سنموت غداً).

ومع أن المؤلف ساق هذا الكلام مساق السخرية من الأمريكان فأنا أرجح أن له غاية في عرضه على مواطنيه، عساهم ينتبهون إلى تفاهة الاهتمام بالنظريات. الغرض الثاني هو الغض من قيمة المناقشات الدينية، وهي المناقشات التي بددت قوى الشعوب الأوربية في أجيال طوال

من رأي المؤلف أن الدين في أمريكا نبات طفيلي بلا جذور وان انتسابهم إلى المسيحية ليس إلا وهماً من الأوهام، برغم ما تشهد الظواهر من تعلقهم بالدين.

الغرض الثالث هو حرب البلادة الممثلة في اجترار الماضي، فهو ينبه قومه إلى أن حرمان الأمريكان من الماضي الجميل في الآداب والفنون لم يحل بينهم وبين الظفر بالمكان الأول بين أقوياء الشعوب.

الغرض الرابع هو الحط من قدر الثرثرة الاجتماعية، فالأمريكان لا يفكرون في غير الابتكار والاختراع، ليكونوا أقدر الناس على غزو الأسواق بالمنتجات التي تسير التمدن الحديث. وهو اتجاه ظاهر النفع بلا جدال.

وما هذا أيضاً؟

أعطى المؤلف الكلمة لرجل أيرلندي فوضوي ليقول على لسانه وهو يعرض أحد الأناشيد: (هو أقوى تحدّ وجّه إلى إنجلترا بلادكم، البليدة الطبع، العقيمة الخيال، الضعيفة التصور)

ومع هذا لم يفته أن ينطق ذلك الخطيب بأنه لا يقصد إنجلترا بالذات، وإنما يقصد أوربا وأمريكا والعالم كله، فما معنى ذلك؟

معناه أن للمؤلف غاية نبيلة، هي إيقاظ العبقرية الإنسانية، وهي لا توقظ بغير العنف، ثم يقرر بلسان ذلك الخطيب (أن ما قام بالسيف لا يُمحى بغير السيف، وما أسس على العنف لا يقضى عليه بغير العنف) وينطلق فيقرر مرة ثانية بلسان ذلك الخطيب أن في العالم فوضويين لم يُلقوا خطاباً ولم يحملوا سلاحاً، وهم المحاربون بقوة الروح.

(إن في العالم أشياء بلغت من الشر مبلغاً لا تصلح معه إلا للاحراق، وإن فيه عقبات قد وصلت إلى درجة من الهول والضخامة لا يغني معها إلا النسف بالديناميت، وإن الهدم مقدمة ضرورية للخلق والبناء).

كذلك يقول المؤلف بلسان ذلك الفوضوي الأيرلندي، فهل نراه يتربص بالأمة الإنجليزية، هل نراه يدعو إلى العنف والعسف؟

لا هذا ولا ذاك، وإنما هو رجل يصور اشتجار الآراء في عصره بنزاهة وإخلاص.

ولكن ما غرض المؤلف من شتم إنجلترا بلسان أحد الأيرلنديين؟

له من ذلك غاية وطنية، هي وصف إنجلترا بسعة الصدر، وسماحة القلب، وإلا فكيف استباح أحد أبناءها أن يُنطق رجلاً ايرلندياً بأن النظام البرلماني في إنجلترا واهي الأساس؟ (ما أتعس حظ عضو البرلمان حين يضطر لإعطاء صوته في مسائل لا حصر لها، ولا يدري منها أولياتها، ولكنه يفعل ما يفعل إطاعة لأوامر رؤساء الأحزاب الذين تسيطر عليهم آلة حزبهم العمياء البلهاء! إن ذلك النظام يجعل من الشعب عبيداً مسخرين للنواب، ويجعل النواب مسخرين لرؤسائهم، والرؤساء مسخرين لآلة عمياء مجردة من الضمير. . .)

والمؤلف لا يثور على النظام البرلماني في كل وقت، وإنما يمنح فرصة الثورة على ذلك النظام لرجل أيرلندي، وهو يرجو أن يكسب بذلك عطف الأيرلنديين على الإنجليز، بأسلوب طريف، هو (تصعيد) ثورتهم المكبوتة على الأمة الإنجليزية.

التماسك في الأخلاق البريطانية

أشرت من قبل إلى أن هذا الكتاب يصور اشتجار الآراء بين جماعة من البريطان، وأذكر الآن أن ما فيه من صيال ونضال يصور حيوية التماسك في الأخلاق البريطانية، وللإنجليز (في بلادهم) أخلاق صحاح، وكلمة (في بلادهم) مستعارة من حافظ باشا عفيفي، والنص عليها واجب، لأن الإنجليز في نمير بلادهم معرضون للخطأ والانحراف، ويرجع ذلك إلى أن الإنجليزي بطئ الذهن وإن كان قوى الخلق، وهو لذلك. ينتظر إلى أن توجد الحجج التي يحكم بها لك أو عليك، وبهذا تضيع عليه فرص قد تعود وقد لا تعود.

وأقول إن (معرض الآراء الحديثة) ألفه إنجليزي مطمئن فهو يحاور ويجادل تحت ظلال الأشجار في الصيف أو بجانب الموقد في الشتاء.

أرجع إلى الصفحات التي تصور ما عانى المؤلف وهو يضرب الآراء بعضها ببعض في تشريح مذاهب الأحرار والمحافظين

أرجع إليه وهو يكاد يهتف بأن الكفر من الشرائع، وهو موقفٌ وصفه المترجم بأنه ينافي الذوق العربي، ولو أنصف لقال إنه ينافي الذوق الإسلامي، فما كانت العبارات التي حذفها المترجم إلا فناً من الكفر الملفوف، وهي مع ذلك ليست إلا تصويراً لما يساور قلوب المؤمنين في بعض الأحايين.

الإنجليزي يكفُر حين يشاء، ولكنه يكفُر كفُر الرجال لا كفر الأطفال؛ فهو يشرّح ما يجول بصدره من حقائق وأباطيل، ليعرف المصادر التي توحي إليه بالشك أو اليقين.

والذي يقرأ كتاب (معرض الآراء الحديثة) بدون إدراك هذا المعنى لن يكون له من فهمه غير أشباح وأطياف!

الريف، الريف

في الكتاب كلامٌ كثير عن الريف وسادة الريف، ومن ذلك الكلام ندرك أن الأمة الإنجليزية ترى الريف ملجأها الأمين، وقد تراه الأصل في مجدها الأثيل. وشعور الإنجليز بأهمية الريف يُخلق في كتّابهم ومصلحيهم فكرة العناية الموصولة بتجميل الريف والتألم لما يقع فيه من فقر أو عناء!؟

وهنا يلتفت المؤلف إلى سوء العاقبة، عاقبة الإسراف في تجسيم شقاء الريف بلسان أحد الخطباء:

(لقد كنت أقرأ في أحد الأيام مقالاً من تلك المقالات المروّعة عن حال الزراع، ثم ذهبت بعد ذلك راكباً إلى الريف فتبين لي أنه لم يبلغ من السوء الحد الذي وصفه به الكاتب، ولا أعني بذلك أن حال الريف كلها كانت مما يسرّ له الإنسان، ولكنه رغم هذا كان مدهشاً حقاً؛ فقد رأيت خيلاً ضخمة يتدلى من جباهها شعرٌ أشعث، ترعى في المروج الخضراء، ورأيت ماشية تخوض في الماء الضحل، وجداول تحف بشطانها أشجار الصفصاف، وعصافير تزقزق، وقنابر وطيوراً أخرى مغرّدة. ورأيت بساتين الفاكهة ترتدي حلة من الزهر الأبيض النضر، وحدائق صغيرة اهتز ورقها وربا في ضوء الشمس الساطع وظلال السحب المارة فوق السهول، ورأيت الزارع الذي أفاضوا في وصف حاله وسط هذا كله، فلم أره بمظهر البؤس المجّسم كما يقولون، بل رأيته يفكر رأيته يفكر في خيله أو في عيشه وجبنه، أو في أطفاله يَحْبُون في الطريق، أو في خنازيره وديكته ودجاجه. ولست أظن بالطبع أنه يدرك ما في هذه الأشياء كلها من جمال، ولكنني واثق من أنه كان يشعر شعوراً مريحاً بأنه جزء من هذا كله، وأن حاله طيبة، ولم يكن قلقاً من حاله كما تقلقون من حاله. ولست أعني من هذا أن لا حق لكم في القلق، ولكني أعتقد من واجبكم أن لا تظنوا العالم كله شراً لا يطاق لمجرد أنكم تستطعيون أن تصوروا عالماً خيراً منه).

غاية فلسفية ونظرة المؤلف في هذا الموضوع نظرة إصلاحية، وهي تشهد بأن الإنجليز يعانون بعض ما نعاني من كثرة الكلام عن متاعب أهل الريف، وهو كلام يضّر أكثر مما يفيد، لأنه يزعزع طمأنينة الريفين، ويحرمهم الاستمتاع بما في الحياة الريفية من خيرات وثمرات.

ولكن للمؤلف من وراء هذا الكلام غاية فلسفية تمثلها دعوته الصريحة إلى الترحيب بالوجود في جميع مناحيه، ومن رأيه أن (الحياة نفسها هي المتعة، وهذه المتعة دائمة في جميع العصور ولجميع الطبقات). ثم يندفع فيقرر أن (المثُل العليا لا وجود لها في الحقيقة) وهو بهذا يريد أن الحرمان من النعيم الموجود لا يعوَّض بالنعيم المنشود؛ ثم يقفز إلى أعلى أبراج الفلسفة الشعرية فيهتف (إني حين أغادر اجتماعاً أو أفرغ من قراءة مقال مروّع عن الإصلاح الاجتماعي أشعر كأن من واجبي أن أعانق كل شيء وكل شخص أقابله لمجرد أنه أحسن إلى العالم بوجوده فيه، أرى كأن من واجبي أن أعانق سائقي السيارات العامة والمركبات وأصحاب الحوانيت والأكواخ القذرة ومن فيها من الضحايا واللصوص. إن هؤلاء جميعاً في الوسط الذي يعيشون فيه يطفون فوق نهر الحياة العظيم الذي كان وجوده في الماضي والحاضر - وسيكون وجوده في المستقبل - مبرراً كافياً لوجوده مهما كان البلد الذي يجري فيه).

وهذه لفتة شعرية على جانب من الصحة والقوة، فإن التشكي الكثير من نظام الوجود ليس من علائم العافية، إلا حين يراد به خلق نظام جديد ميسور، لا تخيُّل نظام لا وجود له إلا في أذهان المتكلفين.

وثبة جديدة

ولكن المؤلف يثب بعد ذلك وثبة جديدة بلسان خطيب آخر فيقرر أن الإنسان في طور التكوين، وأن واجبه منذ هذه اللحظة أن يكوّن نفسه بنفسه، فقد سارت به الطبيعة إلى الحد الذي وصلت به إليه، فوهبته أعضاء جسمه وعقله ومبادئ روحه، وأصبح في استطاعته أن يكمل هذا الهيكل البديع أو يفسده إذا شاء.

فماذا يريد المؤلف أن يقول؟

يريد أن يجعل عبء الكمال فوق كاهل الإنسان لا كاهل الطبيعة (لآن الطبيعة لا تريد أن توجد إنساناً لا يستطيع أن يوجد نفسه، فإذا عجز هو عجزت هي أيضاً، ورجع المعدن إلى بودقته، وبدأت العملية من جديد، أما إذا نجح فنجاحه عائد عليه وحده، فمصيره إذن في يده هو لا في يد غيره) وهذه لفتة أخلاقية ساقها المؤلف على لسان أحد الشعراء، وتظهر قيمة هذه اللفتة لمن يتذكر الفروق بين الإنسان القديم والإنسان الجديد، فقد استطاعت الإنسانية بتطورها المستمر أن تصل إلى آفاق كان يعجز عن تصورها الخيال.

موضوعات للدرس

يظهر أن المقال لن يتسع للإلمام بما في الكتاب من العناصر الأساسية، فعلى الطلبة أن يراجعوا المسائل الآتية، ليواجهوا اللجنة الامتحان وهم على بينة من أكثر ما في الكتاب من أغراض:

1 - الفرق بين النظرة العلمية والنظرة الدينية: (راجع ص 52)

2 - هل تتدخل الدولة لتنظيم الزواج؟ (ص 53 و54)

3 - هل يستطيع الشعب أن يحكم نفسه؟ (ص 55 و56)

4 - تحرر الجيل الجديد من أوهام الجيل القديم (ص 57)

5 - بين العقائد والعواطف والعقول (ص 46 و47)

6 - نظرية المساواة دُرست في مكانين، فلأي غرض نوقشت هذه النظرية؟

7 - أنظر نقض فكرة الحرية في (ص 17)

8 - هل تستطيع الاشتراكية أو الفوضوية أن تغير الحقائق الأساسية؟ (ص 73 و74)

9 - هل تعيش الحكومات لأنها سرقت حقوق الناس؟ (ص 31 و23)

10 - الهجوم على التعليم الابتدائي والثانوي والعالي (54)

11 - وضع المترجم تذييلاً تحدث فيه عن بعض الآراء وبعض الأعلام، فانظر في ذلك التذييل، فقد يوجَّه إليك سؤال متصل بما فيه من المعلومات الفكرية أو التاريخية

12 - إن غام أمامك جوّ هذا الكتاب، فاقض ساعة أو ساعتين في درس كتاب (الإنجليز في بلادهم) لتعرف المشكلات التي تعرّض لها (دكنسن) بالنقد والتشريح، فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، كما قال القدماء

اختبار جديد من المحتمل أكون عضواً في اللجنة التي تحكم في مسابقة الأدب العربي، فما السؤال الذي أوجهه إلى المتسابقين عند اختبارهم في هذا الكتاب؟ سأسألهم عن الفروق بن اتجاهات الخطباء من طريق العبارة والأسلوب

وأدلكم على الجواب فأقول:

عبارة (كنتلوب) تختلف عن عبارة (فيفيان) أشد الاختلاف، ولكن كيف؟ إليكم يوجه السؤال!

وعبارة (إلس) تغلب فيها المعلومات على الدراسات، فما سبب ذلك؟ فكروا قليلاً تجدوا الجواب! وبين أشخاص الكتاب خطيب دخل في شعاب غير شعاب مهنته الرسمية، فمن ذلك الخطيب؟

المفهوم أن هذا الكتاب يصور أصطراع الآراء في عهد المؤلف، فهل ترون أن إنجلترا كانت فيها مشكلات لم يتعرض لها المؤلف؟

أدلكم على الجواب فأقول: كنا ننتظر خطيباً يتحدث عن متاعب إنجلترا في المستعمرات، وخطيباً يتكلم عن أزماتها الروحية، وخطيباً يشرح خصائص الفرنسيين والألمان، على نحو ما صنع الخطيب الذي شرح خصائص الأمريكان

وقد مرّ المؤلف مرور الطيف على المعضلات التعليمية، فما سبب ذلك؟

اقرءوا حياة المؤلف، كما لخصها المترجم! تجدوا الجواب!

أما بعد، فهل ترون أنى دللتكم على أسرار هذا الكتاب؟

لم يبقى إلا أن تطلبوا أن أؤدي امتحان المسابقة بالنيابة عنكم، يا أشقياء!

وأنا والله حاضر، إن سمح وزير المعارف!

زكي مبارك