مجلة الرسالة/العدد 440/كيف يكتب التاريخ؟
مجلة الرسالة/العدد 440/كيف يكتب التاريخ؟
للدكتور حسن عثمان
مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب
- 7 -
نقد الأصول
تحري نصوص الأصول وتحديد العلاقة بينها
نبحث الآن ناحية أخرى في نقد الأصول التاريخية. فلا بد المؤرخ قبل استخدام المعلومات التي ترد في تلك الأصول أن يتحرى نصوصها، وأن يتثبت من حرفيه ألفاظها وعباراتها سواء المخطوط أو المطبوع. وعلى المؤرخ أن يبحث هل كتبت هذه الأصول بخط المؤلف، أم أنها نقلت عن نسخه المؤلف الأصلية؛ وإذا كانت قد طبعت فهل طابقت مخطوطة المؤلف الأصلية؟ وألم يدخل عليها بعض التحريف اللفظي أو النقصان أو الزيادة الطفيفة سواء عن قصد أو غير قصد؟ وأنه ليتضح لنا أهمية تحري نصوص الأصول التاريخية وألفاظها عندما نجد أن مؤلف اليوم بالرغم من إمكانه مراجعة تجارب المطبعة بنفسه، فإنه قد تفوته بعض الأخطاء القليلة. وعمال المطبعة كثيراً ما يجعلون المؤلف يقول كلاماً لم يقصده بالمرة؛ وإن تغيير حرف بسيط في كلمه قد يغير المعنى رأساً على عقب.
ولقد ضاع الكثير من الأصول التاريخية ولم يبق إلا نسخ أو صور منقولة عنها. فهل هذه النسخ قد نقلت عن الأصول الأولى، أم نقلت عن صور لها؟ فينبغي أن يتأكد الباحث من أن النص الموجود أمامه يطابق الأصل الأول الذي وضعه المؤلف. وإذا وجدت أخطاء في النسخة - وهو الغالب - لا بد من محاولة تصحيحها بالرجوع إلى الأصل الأول، إن كان من المستطاع ذلك. وإذا ما اعتمد الباحث على نص منقول عن أصل أول، ويحتوي على أخطاء في النقل، فإنه يحمِّل المؤلف أموراً غير مسؤول عنها، وإنما المسؤول عنها الناقل. ومشاهير المؤرخين لا يتحرون دائماً صحة نصوص الأصول التي يعتمدون عليها. وحتى وقت قريب كانت تطبع الأصول التاريخية بدون مراعاة طرق النشر العلمي، سواء لتجنب المجهود أو للعجلة. إلا أنه قد حدث تقدم كبير في هذا الميدان المهم في الوقت الحاض والأصول التاريخية المخطوطة يمكن لأن نقسم من ناحية تحري النص وتحقيق اللفظ إلى ثلاث حالات. فالحالة الأولى هي أن يكون أمام الباحث الباحث الأصل الأول بخط المؤلف نفسه. ويمكن التأكد من ذلك بملاحظة نوع الورق والحبر وبدراسة خط المؤلف ولغته ومعلوماته من كتاباته الأخرى، إن وجدت. وبتطبيق ذلك على الأصل الموجود يستطيع الباحث أن يستفيد وهو مطمئن من هذه الناحية، من المعلومات التي يوردها هذا الأصل الأول، كما يمكنه أن ينشر هذا الأصل التاريخي لفائدة العلم. إنما ينبغي أن يراعي عند النشر في كل الحالات، إبقاء الأصل الأول كما هو بحروفه وألفاظه وأجروميته وأخطائه الخاصة به، بدون تصحيح أو تعديل في النص نفسه. لأن أي تغيير قد يغير المعنى. وبقاء النص الأول كما هو يساعد الباحث على فهم تاريخ ذلك العصر المعين كما كان فعلاً؛ فيدرك الباحث عقليه رجال العصر وأساليبهم في التعبير، ويلم بتطور اللغة والاصطلاحات التي سادت في زمن مضى
ومن الأمثلة على ذلك ما أورده أحمد الخالدي الصفدي في كتابه عن تاريخ الأمير فخر الدين المعنى من ألفاظ وأساليب عاميه لبنانية محلية مختلطة بالتراكيب العربية، (سبق أهله وجاء حتى يعلم الأمير. . . فوصل بحال الليل إلى باب القلعة ودق الباب على البواب حتى يروح يعلم الأمير. . .). ومن الأمثلة على ذلك أيضا ما ورد في الفرمانات السلطانية العثمانية من التعبيرات الخاصة مثل (قدوة الأمراء الكرام، عمدة الكبراء الفخام، المختص بمزيد عنايت الملك العلام. . .). أو الوثائق المحفوظة في دور الأرشيف الأوربية والتي تحتوي على معلومات مدونة بلغة وأجرومية خاصة بالعصر الذي دونت فيه، مثل , في الوثائق الإيطالية؛ ومثل ألفاظ وو الواردة في الوثائق الفرنسية؛ ومما يخالف ذلك ألفاظ وأساليب ومصطلحات هذه اللغات في الوقت الحاضر. فإذا ما نشرت مثل هذه الأصول التاريخية ينبغي أن تبقى كما هي بغير تعديل.
والحالة الثانية في هذه الناحية من نقد الأصول، هي التي تضيع فيها نسخة المؤلف الأولى، ولا يبقى أمام الباحث إلا نسخة واحدة منقولة عنها. فدراسة هذه النسخة المنقولة الوحيدة للتثبت من صحة ألفاظها ونصوصها تستلزم الدقة والحذر. ومهما كانت دقة الناسخ وأمانته فإنه قد يتعرض للخطأ في النقل. وتوجد أسباب وأنواع للاختلافات التي يمكن أن تلاحظ بين الأصل الأول وبين المنقول عنه. فقد تسقط ألفاظ أو جمل عند النقل من باب النسيان أو السهو، أو لعدم وضوح المعنى، أو للخطأ في قراءة بعض الألفاظ أثناء النقل، أو للخطأ في السمع إذا ما أملى على الناسخ ما يكتب. وبعض النساخ يغيرون ويعدلون الألفاظ التي ظنوا أنها وردت خطأ في الأصل الأولى، واعتقدوا أن من واجبهم تصحيحها.
والتغيرات الناتجة عن عمد أو عن خطأ في فهم النصوص من الصعب تحقيقها فضلاً عن كشفها. وبعض الفقرات التي تسقط قد لا يمكن التعويض عنها. ولكن من المستطاع معرفة الأخطاء التي تحدث عفواً أو سهواً، بملاحظة الارتباك في المعنى أو الخلط في بعض الحروف والكلمات، ووضع أحرف أو كلمات مكان أخرى، أو تكرار بعض المقاطع أو تكرار بعض المقاطع أو كتابة مقاطع بعض الكلمات مرة واحدة بدلاً من مرتين، أو الخطأ في تقسيم بعض الكلمات أو بعض الجمل. وكل هذه الأنواع من الأخطاء والتغييرات في النصوص الأولى والتي تحدث سواء عفواً أو عن قصد، قد قام بها الناسخون في كل اللغات وفي جميع الأقطار وفي كل عصور التاريخ.
وعلى الباحث في حالة ضياع نسخة المؤلف الأولى مع بقاء نسخة واحدة منقولة عنها، أن يدرس هذه النسخة ويعرف كل خصائصها من ناحية الشكل واللفظ والمصطلحات والمعلومات التاريخية؛ ثم يدرس حياة المؤلف ومؤلفاته الأخرى إن وجدت ويلم بأشهر الكتاب المعاصرين الذين تناولوا نفس الموضوع الذي كتب عنه. وتطبيق هذه المعلومات على النسخة الوحيدة المنقولة يساعد في أحوال كثيرة على تحري نصها وعلى التثبيت من صحة ألفاظها. ولقد حقق الدكتور أسد رستم مثالاً يوضح هذه الحالة. فهو قد وجد أن عدداً كبيراً من الأصول الأولى لمناشير إبراهيم باشا في سوريا قد فقد، وإنه لم يبق منها إلا نسخة واحدة منقولة ومطبوعة؛ مثل المنشور الذي أصدره إلى متسلم دمشق في صفر 1248هـ عن بعض حوادث اصطدامه بالعثمانيين والذي ورد في كتاب (مذكرات تاريخية بقلم أحد كتاب الحكومة الدمشقيين) ونشره الأب قسطنطين الباشا. ولاحظ الدكتور رستم أن بعض ألفاظه غير واضحة. فبحث طويلاً حتى وصل إلى سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس، وعثر على منشور أصدره إبراهيم باشا إلى متسلم طرابلس ويحتوي على نفس المعلومات التاريخية؛ وأمكنه أن يستنتج أن ناسخ منشور إبراهيم باشا إلى متسلم دمشق قد أخطأ في فهم بعض الألفاظ فقرأ استغاثوا (استفاقوا) وحيث أن (حنان) وأغثناهم (غنامهم) وهكذا.
وعلى كل حال فإن النسخة المنقولة عن أصل أول مجهول قد تقاوم كل جهود النقد لمحاولة الوصول إلى ذلك الأصل الأول وصحيح أن النقد كثيراً ما يمكنه أن يحدد التغييرات والأخطاء في النص الوحيد المنقول، ولكنه كثيراً ما يقف عند ذلك دون أن يتخطاه إلى معرفة الأصل الأول. والباحث في التاريخ قد يبالغ في الشك في بعض النصوص التي تتغير لم تتغير على الإطلاق، ويناقش النصوص أكثر مما ينبغي، ويضع افتراضات مبالغ فيها. ويعتبر عمل الباحث في هذه الناحية نوعاً من الاجتهاد قد يصل إلى حد المغامرة.
والحالة الثالثة هي التي يضيع فيها الأصل الأول، وتبقى عدة نسخ تتشابه وتختلف فيما بينها، ولا تعرف الصلة بينها، ولا الصلة بينها وبين ذلك الأصل الأول. والباحثون السابقون كان عليهم أن يكافحوا للوصول إلى استخدام أول نسخة تقع في أيديهم، ومهما كان نوعها ومهما كانت صلتها بالأصل الأول ثم أخذ الباحثون يتجهون إلى استخدام أقدم نسخة موجودة، ولكن قِدَم تدوين نسخة ما لا يعني دائماً أنها أصح النسخ المنقولة عن الأصل الأول المجهول. فمثلاً مخطوط من القرن السادس عشر والذي ينقل عن أصل قديم ضائع من القرن الحادي عشر، قد يكون أكثر قيمة من نسخة أخرى نقلت عن ذلك الأصل الضائع في القرن الثالث عشر، وتحتوي على تغييرات وأخطاء في النص الأصلي. ولا شك في أن الباحثين المحدثين يمتازون عن سابقيهم في هذه الناحية؛ فهم يستطيعون أن يقارنوا بين النسخ المتعددة المنقولة عن الأصل الأول، فضلاً عن إمكان حصولهم على معلومات أفضل وأدق عن تلك النسخ وعن العصر الذي وجدت فيه، بقصد الوصول إلى النص الأول الصحيح بقدر الإمكان.
وفي هذه الحالة يعمد الباحث إلى تحديد النص الأول، أو أقرب ما يمكن إليه بالدراسة المقارنة، وعلى أساس التشابه والاختلاف بين النسخ المختلفة، وعلى أساس فهم لغة المؤلف وروحه والإلمام بعصره، كما سبق الإشارة إلى ذلك. ولنفرض بأنه لدى الباحث عشرون نسخة لمخطوط واحد، وأصلها الأول مفقود؛ وأن ثماني عشرة نسخة منها تتشابه نصوصها، ولنسمها مجموعة (ا) وأن نسختين منها تتشابهان ولنسميها (ب) فالأغلبية العددية هنا لا قيمة لها، ولا تدل على أن نصوصها هي الصحيحة. فمن الجائز أن سبع عشرة نسخة من مجموعة (ا) قد نقلت عن النسخة الثامنة عشرة. ففي هذه الحالة تكون مجموعة (ا) عبارة عن نسخة واحدة تكررت في النسخ التي نقلت عنها. فيكون البحث موجهاً إذاً إلى تحديد أي النصين أقرب إلى الأصل الأول الضائع، هل هو النص (ا)، أم النص (ب)؟
ويلاحظ الباحث عند تحديد العلاقة بين النسخ المتعددة لمخطوط واحد، قاعدة شبه عامة، وهي أن النسخ المتشابهة التي تحتوي على نفس المعلومات واردة بنفس اللغة وبنفس الأخطاء، أما أن تكون قد نقلت عن بعضها البعض، أو أنها قد نقلت جميعاً عن أصل أقدم منها، أخذ عن الأصل الأول الضائع، ويحتوي على نفس المعلومات ونفس الأخطاء. ولا يعقل من الناحية السيكولوجية أن عدداً من الناسخين ينقلون مستقلين أصلاً تاريخياً معيناً ويوردون نفس المعلومات بنفس اللغة وبنفس الأخطاء؛ بل لابد من وجود فوارق مختلفة بينهم.
فعلى الباحث إذاً أن ينبذ جانباً النسخ المنقولة عن أصل واحد محفوظ، وأن يستبقي فقط وبقدر المستطاع النسخ الرئيسية المستقلة التي نقلت عن الأصل الأول مباشرة، أو التي نقلت عن أصل ثانوي معين منسوخ مباشرة عن ذلك الأصل الأول المجهول. وتقسم النسخ إلى جماعات وفصائل على أساس التقارب والاختلاف، والقرب والبعد عن الأصل الأول، إذا ما ثبت ذلك وأنه لأفضل دائماً أن يكون لدى الباحث عدة نسخ أخذت مستقلة عن الأصل الأول الضائع. ونلاحظ أن كثرة النسخ تتعب الباحث أحياناً بدلاً من مساعدته في العمل. وعند طبع الأصلي التاريخي، في هذه الحالة، ينبغي أن ترفق به في الهامش الاختلافات التي توجد النسخ الرئيسية الأخرى.
(يتلى)
حسن عثمان