انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 422/الضمير الفردي والضمير الاجتماعي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 422/الضمير الفردي والضمير الاجتماعي

مجلة الرسالة - العدد 422
الضمير الفردي والضمير الاجتماعي
ملاحظات: بتاريخ: 04 - 08 - 1941



للأستاذ جريس القسوس

إذا جاز لنا العبث بعلوم الاجتماع والنفس والأخلاق استطعنا أن نقسم الضمير إلى نوعين: (ضمير فردي وضمير اجتماعي)؛ ولا يتضح معنى ذلك إلا بكلمة سابقة في تعريف الفضيلة والرذيلة اللتين هما قسطاسا الضمير، بل مقررْتا وجوده. إذ كيف يجوز أن يقال بأن لزيد ضميراً حياً أو ضميراً ميتاً إذا لم يربط ذلك الضمير بفضائل أو برذائل؟.

لكل فئة أو جماعة أو طائفة من البشر قواعد وأنظمة وعادات جرت عليها وتمشت بموجبها عهوداً طويلة، لا تحيد عنها قيد شعرة إلا بقوة جبارة عاتية تفوق قوة تلك الطائفة؛ فإذا حادت جرت على الأنظمة الجديدة وتمسكت بها تمسك المستميت، ودعمتها ودافعت عنها دفاعها عن النظم التي تحولت عنها في بدء الأمر تحت تأثير القوة، كغاندي مثلاً، يحاول جهده أن يزحزح الطائفة الهندوسية عما جرت عليه من شعور سيء نحو جماعة الأنجاس. وسبب تمسك أي طائفة بنوع خاص من التقليد أو العرف والعادة، هو إدراكها بالتجربة والاختبار أن هذا النوع - دون غيره - يفيض على أكثرية مجموع أعضائها أجزل النعم وأتم البركات. . . نعمة وبركة يشترك فيها الفرد والجماعة معاً، إلا في حالات نادرة خاصة، حيث تنتفع الجماعة من أمر لا ينتفع منه الفرد إن لم يكن يخسر.

هذه التقاليد والعادات التي اختارتها الجماعة وأدركت نظرياً وعملياً أنها نافعة للأكثرية الساحقة من مجموع أفرادها نفعاً يغشى على أبصار أعضائها، لا أفرادها، فلا يرون فيها ضراً ولا شراً بل نفعاً وخيراً هي الفضيلة. أقول: أعضاؤها لا أفرادها، لأن العضو يفكر ويقوم في كثير من الأحيان بأمور لا تستند إلى العقل والمنطق تحت تأثير الجماعة التي لا تختلف في عقليتها الاجتماعية عن عقلية الطفل. ويتجلى ذلك في تصوير شكسبير للرعاع في يوليوس قيصر؛ فهم ينساقون ويندفعون كالصبيان اندفاعين متناقضين تارة تحت تأثير السحر البياني الذي يتدفق من لسان بروتس، وتارة مأخوذين ببيان أنطونيوس وعباراته العاطفية الشديدة. لكن الفرد يستقل في عقليته في كثير من الأحيان، فيقوم بأمور لا غبار عليها من حيث منطقها واستنادها إلى العقل.

أما خروج الجماعة عن القواعد والأحكام فهو الرذيلة والإثم، وعاقبته العذاب الأ الدنيا وفي الآخرة. ولهذا لا يستغرب أن ترى فضيلة عند فئة رذيلة عند أخرى والعكس بالعكس. كمذهب العري نعرفه رذيلة وعند أهله فضيلة.

لكن هناك قواعد وأحكاماً وعادات أجمع العالم على الجري عليها إجماعاً استقلالياً أو تقليداً، فهذه فضائل عالمية كونية عرفت منذ انبثاق الخليقة أنها فضائل كالصدق والعدل والتواضع والإحسان. هذه الفضائل كما شرحتها ترتسم في نفس الفرد وتنطبع في ذهنه بالتقليد والتلقين؛ ولا يورث منها إلا الميل لها، لأن ما يكتسب لا يورث. فيجد المرء نفسه في حظيرة الجماعة وتحت سلطتها وتأثيرها لا يستطيع أن يقوم بعمل مناف لما تمشت عليه، أو يفكر أو يقول مالا يروق في نظر الجماعة، ولا يشعر بالأثر إلى تجنب الرذيلة ويدفعه إلى عمل الفضيلة قبل إتيانها ويقرن العمل بالتشجيع على الإتمام ويلحقه بالطمأنينة واللذة النفسية - هذا الصوت هو ما نسميه بالضمير - الضمير الاجتماعي لأنه ليس إلا صدى لجلجلة القيود والأصفاد التي ترسف بها الجماعة. ويصح أن تسمى ما يقابل هذه القوة من قوة عنيفة مضادة سكبت في النفس البشرية مع القوة الأخرى ورافقتها في الحياة جنباً إلى جنب: هذه القوة يصح أن تسمى بالوسواس، وهو المذكور في قول الله تعالى: (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس).

هذا هو الضمير الاجتماعي - بل هذا هو الضمير المطلق كما نعرفه عادة وتعرفه جمهرة العلماء؛ لكنني عرفته بالاجتماعي على اعتبار وجود ضمير آخر غير هذا الضمير؛ وهو الذي اصطلحت على تسميته بالضمير بالضمير الفردي المطلق، ذلك لأن الفرد قد لا يرتبط ارتباطاً عقلياً حراً مجرداً بما ترتبط به الجماعة من خير أو شر، فيستوي عنده خيرها وشرها، رذيلتها وفضيلتها، ويصبح طليقاً من هذه القيود الاجتماعية، لا يتأثر بما تتأثر به الجماعة من جميل أو قبيح تأثيراً تقليدياً غير منطقي. لأنه لم يتهيأ لبشر من الناس أن يميز الحدّ الفاصل بين الخير المطلق والشر المطلق غير الأنبياء. هذا الفرد - إن وُجد - عرفته الجماعة بميت الضمير - من حيث علاقته بها. وما كان في الحقيقة إلا حيّ الضمير - ذلك الضمير الروحي المستقل الذي قرّ في نفسه وركب في طبعه منذ أن عرف الحياة. وهو لا يختلف عن الضمير الاجتماعي من حيث أنه قوة مؤنبة، خفية عميقة في النفس. إلا أن إدراكاته تختلف في كثير من الأحيان عن إدراكات الضمير الاجتماعي في أنها أرهف وأبعد وأدق وآصل. ذاك يقاس بفضائل خارجة عن النفس فرضت عليها فرضاً، فأصبحت كأنها جزء منها؛ ولكن مدركات الضمير الفردي من جمال وبرّ وصلاح خلقت مع الإنسان منذ الأزل، إلا أنها مطموسة بالمادة. فبذرة هذا الضمير الفردي في كل نفس، فإذا زاولها الفرد بالرياضة العنيفة، وتعهدها بالصقل والتهذيب والتجريد، فجلى عنها الأصداء، وأزال كل ما علق بها من أقذار المادة، نمت وازدهرت وجاءت بثمار روحية سامية، واستطاعت إذ ذاك التحليق في غير جوّ المرئيات الهيوليات. وبذا يصبح هذا الضمير الفردي المطلق بمثابة ذوق مهذب راق، تقاس به الأعمال والأطوار، ويدرك بالفطرة السامية والضمير الإلهي ما هو خير وما هو شرْ. وصاحب هذا الضمير فوق أصحاب الضمير الاجتماعي أو الإحساس التقليدي المزيف، فهو يعرف الله مباشرة، ولكن أولئك لا يعرفونه إلا بالواسطة.

(شرق الأردن)

جريس القسوس