انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 380/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 380/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 10 - 1940



صفحة من حرب الجبابرة

جيوكندا

للأستاذ محمد محمد مصطفى

السماء يومئذ تمطر شهباً تزلزل الأرض وتفتت الصلب، والمدفع تصم الآذان وتدك البنيان، والقذائف تشمل الجو ناراً ودخاناً. وانقلبت (بورجيا) قرية فرنسا الجميلة إلى حطام يلتهب وأنقاضاً تنفر منها الشياطين، وزخرت الطرق والمزارع بالنازحين منها والدبابات في أثرهم ترسل عليهم الموت ولا عاصم لهم منها إلا العراء.

وانتهت (جيوكندا) إلى ظل من ظلال الغابة، فجلست مكروبة محزونة تنظر من خلال الدمع إلى القرية وقد أضحت يباباً.

لقد ماتت أمها كمداً لمصرع وحيدها في الميدان، وكان أبوها مسبوتاً على فراش المرض فبات تحت الأنقاض.

ووقفت تنتفض ذعراً وهي ترى جموعاً مائجة ولججاً هائجة من دبابات الألمان تطوي الأرض وترسل ضوضاء وصفيراً يحطم العصب ويوهن القلب، ومع ذلك فقد كانت مدافع الفرنسيين ترسل عليهم لظى من نار، فلا يقفون ولا يهزمون كأنما قد بسط لهم أديم الأرض.

ودنت منها الدبابات متراصة تنفث لهباً وموتاً، وتترك ما وراءها صعيداً جرزاً، فجرت هالعة إلى غير هدف، ولبثت في عدوها تنظر بين الحين والحين إلى الوراء فترى الدبابات تقترب منها فتواصل العدو، وأضناها السير فسقطت لاهثة وانية ثم غابت عن رشدها.

- أأنت قائد فرقة باصقات اللهب الخامسة والستين؟

- نعم.

فحول الجنرال نظره وعبث بشاربه الأشيب وتمتم بصوت خافت:

- ولكنك صغير السن. . .

فأردف القائد الشاب: - كبير القلب مخلص لألمانيا والزعيم.

- حسن. . . ألم يسبق لك الاشتراك في معارك؟

- كان لي شرف الاشتراك في حصار (لييج)

- تقضي أوامر الفوهرر بألا تقف دبابتك ولا تتراجع وسيكون هجومك على جبهة تمتد تسعين ميلاً من (بورجيا) دمرتها لك الطائرات وستسوق أمامك ألوف النازحين ليكونوا لك درعاً وليوقعوا الارتباك في صفوف الحلفاء.

والآن ما اسمك أيها القائد؟

- جون فريتش.

- إلى العمل يا جون فريتش. . .

لما اقتربت الدبابات من (جيوكندا) كانت نفس القائد جون فريتش تنازعه إلى إبعادها من طريق الدبابات.

. . . ولما حملها بين يديه أفاقت وابتسمت له ابتسامة لو مات على أثرها لما أسف على نعمة تركته في الحياة.

. . . ولما سألها عن وجهتها لم تدر بم تجيب.

. . . ولما جلست إلى جانبه بالدبابة ألهاها كثرة ما بها من عدد وآلات.

قالت بعد ما أدركت أنها بين ألمان:

- أتسوقون المدنيين هكذا كالنعاج؟

- إنها أوامر الفوهرر. . . والحرب لا ترحم.

- وتقولون إنكم تنتشلون العالم من ربقة الديمقراطية وتريدون به السلام؟

- لا شك في ذلك.

- فماذا أفاد حكمكم فيما اكتسحتموه من بلاد؟

- قضاء على الرأسمالية وأصحاب الثروات.

- وتقولون إنكم تناهضون الشيوعية؟

- ليس في القضاء على بطالة العمال بلشفة لهم. . . فأي عدل ترين يا فتاتي في رجل يملك الملايين وينام عمال مصانعه على الطوى؟ - ذا نصيبهم في الدنيا (وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات).

- درجات. . . وليس ملايين الدرجات فلا يكون البون بين صاحب المصنع وعامله ساشعاً. والعامل الذي انتج الربح له قسم فيه وللدولة مثله لتثقف به أولاد ذلك العامل، فليست العبقرية وقفاً على أولاد الأغنياء.

- تالله أنتم أعداء لكل ما يحرص عليه المتمدينون من تقدم اجتماعي وحرية بشرية، وما من أمة تبيت اليوم في أمان من ظل الصليب المعقوف. وقهقه القائد حتى بدت نواجذه وقال:

- يا صغيرتي العزيزة. هاأنت ذي ترين جنود الحلفاء يفرون من وجه آلاتنا التي أنتجتها عقولنا، فهل من بين علمائكم من يستطيع أن يصنع شيئاً يقفنا ولو لبضع ساعات. . . والعقل الذي يذلل العلم لرغباته والأمة التي تخفف الفوارق المادية بين طبقات الشعب فلا يكون فيها فاحش الثراء ولا من يسمو بالفقراء، هي أرفع مدنية من أمة تتخم خزائن أفراد قلائل منها بالذهب ولا يجد العامل الذي أنتجه ما يقتات به كفرنسا أو مصر التي يسخر شعبها بأزهد الأجور لخدمة القلة من الأغنياء والتي دل الإحصاء على أن اثني عشر ألفاً منها يملكون نصف الثروة العقارية للبلاد مما لا أعرف له مثيلاً في بلاد أخرى.

وعملت هذه الملمات في نفس الفتاة عملها، وذكرت أولئك الغارقين في لذائذ الدنيا من أثرياء قومها، وما لقيته من شظف العيش في قريتها فأطرقت وأغرقت في صمت طويل، حتى إذا ما شارف سيل الدبابات على (باريس) كانت قد طوت نفسها على أمر.

(يبدي الفوهرر خالص ثنائه على المعاونة القيمة التي قدمتها الجاسوسة س 107 في الميدان الفرنسي).

وأفتر ثغر س 107 وهي تقرأ الرسالة الشفوية وملكها الزهو فأعادت قراءتها ثم سلطت عليها زفيراً من فمها تلاشت على أثره السطور وألقتها مزقاً في الطريق.

وأخذت سمتها شطر محطة (بوردو)، تلك المدينة التي كانت مسرحاً لعملها الشاق، وذكرت ذلك الحان الذي قضت فيه الوقت كله بين جواسيس الحلفاء تبيع لهم الخمور وتستدر الأسرار من الصدور، وسمعت صوت أقدام تتبعها فالتفتت في ذعر فلمحت شبحاً يقترب منها ويهمس في أذنها: - أأنت س 107

فلما سمعت صوته هتفت:

- ميجر براون. . . لم جئت؟

- برسالة يا جيوكندا. . . وناولها إياها.

فهتفت نفسها:

- ترى أتكون من جون؟

. . . (تقوم فجر اليوم س 107 إلى مدينة إيفيل وترحل مع الهاجرات إلى دوفر لتتلقى الأوامر من ل 14 الذي سيستقبلها بربطة عنق زرقاء).

وألقت على الورقة زفيرها فابيضت ورمت بها إلى الطريق.

قال (ل 14):

- شاء الفوهرر أن يترك قليلاً من قوات الحلفاء التي رحلت عن (دنكرك) لتصف الأهوال التي أذاقها لهم الألمان، فيكونوا لألمانيا خير دعاة، فعليك تصويرهم في أسمالهم لدى نزولهم من البواخر لتزين بها المنشورات الألمانية التي تلقيها الطائرات على إنجلترا. . . والساحل الإنجليزي يا. . .

فأشارت إليه بالسكوت فهمس:

أقول إن الساحل الإنجليزي حاجز من الجحيم ضد القوات التي تحاول اختراقه فعليك مراعاة الدقة في تنفيذ هذه التعليمات، ومد لها يده بورقة.

وأبدت (جيوكندا) من الحذق والمهارة في الحصول على صور الحصون وأوكار المدافع وحركات الجنود والقوافل البحرية ما ألهج ألسن الجستابو بالثناء.

وجد قلم المخابرات البريطاني في تعقب الجاسوسة س 107 وضاق بحيلها ذرعاً، فهي آناً مهاجرة حليفة، وآناً ممرضة تندس بين الجنود، أو متطوعة توزع الحلوى في المعسكرات والمستشفيات ومالأها الحظ فكان يكلل مجهودها بالنجاح.

وطلعت عليها الصحف بنبأ الهدنة، وأخذ المارشال بيتان بنظم ألمانيا الاشتراكية، فخمدت فيها جذوة النشاط.

لقد أدركت غايتها وأصيب الهدف الذي كانت تسعى إليه.

ولكنها تعلم أن الجاسوس لا يمكنه التخلي عن عمله لأي حال كان. . .

وفرت جيوكندا على باخرة تعيد اللاجئين إلى فرنسا.

واستقبلها الجستابو على رصيف ميناء (كاليه)، وابلغها الأسف الشديد لصدور الحكم بإعدامها.

وشدهت جيوكندا وفرقت وهتفت بصوت خائر:

- ألا يشفع لي ما قدمت يداي لألمانيا من خدمات؟

سقطت (باريس) تحت أقدام الألمان فخيم على مدينة النور الظلام. . .

وأخذ حذاء القائد (فريتش) يدب في رفق على إفريز (السين) ولم تزل صورة (جيوكندا) تعبر في فكره وتتسلل إلى قلبه فتثير فيه الألم والشجون، ومرت بخاطره خيبته في إقناعها بالعدول عن الالتحاق بالطابور الخامس وإصرارها في عناد وقولها له في حزم:

- فلن أهدأ حتى تتحطم الرأسمالية في فرنسا وأرى بعيني فيها نظم الريخ.

وتصور أنها الآن تضرب في أرض الدنيا لا تكاد تستقر في بلد حتى يأمرها الجستابو بالانتقال إلى آخر.

وملكته رغبة ملحة في رؤيتها والوقوف على حالها.

ربما اعتقلت. . . ومن يدري لعلها أعدمت بالرصاص، وأفزعه هذا الخاطر فخفق قلبه الملتاع وتهالك على مقعد قريب وقد تولاه طائف من الوجد والذهول. . .

ووثبت صورة جيوكندا أمام ناظره تتهادى على صفحة السين الساكن ترنو إليه بعينين تحكي خضرة البحر، وشعرها الذهبي الهفهاف يداعبه النسيم

وبدا له أن الجاسوسية أنهكتها، وأن شبح الإعدام أرهف أعصابها، ورآها بعين الخيال تهرع إليه وتسرد عليه ما خاضته من أهوال، وهو مع ذلك لاه عن حديثها بضمها وشمها ولثم ثغرها العطري كأنفاس الياسمين.

ودبت خيوط الفجر في فحمة الليل فهب القائد من حلمه الجميل يمشي خفق الفؤاد مبلبل الفكر، وحينما مر بجريدة (باري سوار) التي اتخذت مركزاً للجستابو، طرأ عليه أن يسال صديقه الميجر (براون)، فعلم أنه أوصل لها رسالة سرية في بوردو وأنه رآها تركب عربة. ثم أردف: وأحسب أنني سمعتها تقول للسائق إلى (إيفيل).

وبذل الميجر لصديقه معاونة صادقة حتى علم أنها في دوفر ولكن دوفر واسعة، ووصول الألماني إليها مستحيل

. . . واخذ القائد يفكر ويفكر. . .

وانتشله من أفكاره صوت طرق الباب ودخل ضابطة المساعد وبيده الثبت اليومي لمن طلبت القيادة والجستابو إعدامهم بالرصاص، فألقى عليه نظرة عجلى، ولما أراد التوقيع عليه علق نظره باسم جيوكندا، فازدلفت تحت ناظره الأرض وانتفض قلبه في صدره كطائر مذبوح.

وكذب عينيه وقام ينهب الأرض إلى ميدان الإعدام.

وألفى فاتنته الموموقة معصوبة العين بين طابور المحكوم عليهم تقف مهيضة النفس كاسفة البال.

يالها من لحظة هائلة. . . لقد آن موعد إعدامها. . . وأي محاولة لإنقاذها تفقده شرفه وحياته. . . فكيف السبيل؟

وشحب لونه شحوباً هائلاً وغلى رأسه كالمرجل واصطرعت فيه أفكار سود.

اقترب القائد من جيوكندا وهمس في أذنها كلمات.

وأمر الضابط أن يقف الإعدام لحظة ينهي فيها أمراً عاجلاً ويعود. وعاد بعد دقائق.

قال القائد فريتش لضابط الإعدام:

- أمتأكد أنت من حشو بنادق الجنود؟

- كل التأكيد يا سيدي. . . وتفضل بالتفتيش.

ومر القائد على الجنود. وفتش بنادقهم واحداً واحداً ليتأكد من حشو جميع البنادق. وسقطت من يد القائد رصاصة أحد الجنود فانحنى الجندي لأخذها، ولكن القائد كان أسرع منه في التقاطها ووضعها بيده في بندقية الجندي. . .

وأشار القائد. . . فدوى الرصاص.

- ولكن المعجزة يا جون. . . كيف تمت؟

- كان جنوناً أن أراك تعدمين يا جيوكندا ولا أفعل شيئاً فهمست لك أن تتماوتي لدى إطلاق الرصاص وأتيت بطلقة فشنك وحشوت بها بندقية الجندي المكلف بإعدامك بدل التي تعمدت إسقاطها عند التفتيش عن بنادق الجنود.

فطبعت جيوكندا قبلة طويلة على ثغر جون فريتش.

محمد محمد مصطفى

بإدارة مدرسة البوليس